العدد الأوّل

أبواب المجلة

افتتاحية

بسم الله الرحمن الرحيم

:الحمد لله الذي علّمنا البيان ، والصلاة والسلام على من أفصح وأبان، أمّا بعد

تزخر الساحة الثقافية بإصدارات دوريّة متنوّعة ، مختلفة المشارب، لكن تقل بينها المجلات التي تولي عنايتها الخاصة باللغة العربية وعلومها وآدابها التراثية، والمعاصرة وقد خامر النفس زمنا رغبتنا في الإدلاء بدلونا خدمة للغتنا وعلومها وآدابها ننهل من معين لاينضب ممّا أنتجه علماؤنا، وأدبا ؤنا ، ومفكرونا من ثمراث يانعة ، وأزهار تضوع رائحتها عبقا منعشا للقلب والعقل ..والعريب هذا الاسم الذي اخترناه لمجلتنا اسم له دلالته ، فكلمة عريب هي من الصفات ا لتي ترد بصيغة فعيل بمعنى مفعول ،مثل حبيب بمعنى محبوب، وجريح بمعنى مجروح، وتحمل هذه الصيغة دلالة إشراك ، فالجريح قد يكون له دور في جرح نفسه، أمّا المجروح فهي تدل على أنّ الجرح وقع عليه من طرف آخر، ولهذا فإن العريب توحي بأن الشخص نفسه ربما أسهم في تحقيق هذه الصفة لنفسه، ومن هنا فصفة عريب تستعمل في سياق المدح ، والثناء فالشخص الذي يستحق هذا الوصف هو مميّز في سلوكه أقواله وأفعاله ، وبعضهم خلط بين الاسم تصغير(عُرَيب) ،وبين الصفة (عَريب) ،وجمع كلمة عريب عِراب، لكن كلاهما من جذر واحد يدل على الإفصاح، والإبانة والحركة، والنشاط، والتمام، والخلو من النقص والنقاء.....مجلتنا هذه نتمنّى أن تكون اسما على مسمّى، نسعى من خلالها إلى خدمة لغتنا السمحة المرنة ، في أبواب ثابتة تتضمّن نصوصا مختارة بعناية ، وكلنا أمل أن تستمر العريب بفضل تفاعل القرّاء، والكتّاب، ونحن صدورنا مفتوحة لكل المشاركات على البريد الإلكتروني......والله الموفق....

بلسان مبين

جماليات الحذف في القرآن الكريم

تتعدد أساليب الحذف في القرآن الكريم ، ولكن بشروط ذكرها ابن يعيش وابن هشام النحوي وغيرهما معولين على دلالة السياق، والقرائن اللفظية والحالية منها القول: "الألفاظ إنما جيء بها للدلالة على المعنى ،فإذا فهم المعنى دون اللفظ جاز لك ألا تأتي به، ويكون مرادا حكما وتقديرا"تتنوع أشكال العدول بالحذف في القرآن الكريم؛ إذ يقع الحذف على الحرف والكلمة والجملة؛ فأما حذف الحرف فمنه حذف حرف العلة من الفعل يسري في قوله تعالى:( والليل إذا يسر) (الفجر: آية 4) ورغم أن المضارع لم يسبقه جازم ولا وقع جوابا فإن انحياز الصوغ القرآني إلى جمالية الأداء والحرص على تواتر فاصلة الراء يقفان وراء الحذف.

ومنه حذف حرف الاستفهام؛ كما في قوله تعالى:(يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه)( البقرة:آية 217) بالرفع، والتقدير:( أقتال فيه؟).

ومنه قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام:( فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا ربي )( الأنعام:آية78) فقد حذف حرف الاستفهام، والتقدير:( أهذا ربي؟).

ومن حذف الكلمة قوله تعالى:( هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا)(يونس: آية67) فقد حذف مفعول الفعل جعل والتقدير:( جعل لكم الليل مظلما لتسكنوا فيه) والقرينة الدالة على المحذوف هي المفعول( مبصرا) في قوله تعالى:( والنهار مبصرا).

ومنه قوله تعالى:( فيغفر لمن يشاء)(البقرة:آية284) والتقدير:( فيغفر الذنوب لمن يشاء).ومن حذف الكلمة قوله تعالى:( لترون الجحيم)( التكاثر:آية6) والمحذوف هو المضاف( عذاب) لأن الوعيد لا ينصب على الرؤية بل على العذاب، وبعد رد المحذوف إلى موقعه يصبح الكلام في غير القرآن:( لترون عذاب الجحيم).

ومنه قوله تعالى:( وحرمنا عليه المراضع)(القصص:آية12) فالتحريم وقع على أثداء المراضع لا على كل المراضع، بدليل أن أمه أرضعته، وقد أنتج الحذف دلالات وفيرة إذ شمل انتفاء الإنس بالمراضع والسكينة إليهن حتى يتحقق وعد الله لأم موسى- عليه السلام- بقوله:(وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ)( القصص:آية7) .

ومنه حذف الموصوف اكتفاء بالصفة؛ كما في قوله تعالى:( ولا تكونوا أول كافر به)(البقرة:آية41) فضمير الجماعة في تكونوا لا يلائم إفراد كلمة كافر، والموصوف المحذوف تقديره فريق، وبعد رد المحذوف إلى موقعه يصبح الكلام في غير القرآن:( ولا تكونوا أول فريق كافر به).

وأما حذف الجملة فمنه قوله:( ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا والله شديد العذاب)(البقرة:آية 165) فأنت إذا فتشت عن جواب لو فلن تجده، وتقدير جملة الجواب المحذوفة: ( لكان منهم ما لا حصر له من الإحساس بالحسرة والندم على ما فرطوا في حق الله وحق أنفسهم) وجمالية الحذف هنا أن المتلقي يسهم في إنتاج الدلالة إذ يذهب في التأويل كل مذهب، ولو ذكر جواب لو لكان محدودا بحيث لم يعد ثمة مجال لكي تتعدد مذاهب التأويل بتعدد المتلقين وتفاوت قدراتهم على تخيل صنوف العذاب.

ومنه قوله تعالى:(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ )(الزمر: آية73) فأنت إذا فتشت عن جواب إذا فلن تجده، وإنما حذفت جملة الجواب حتى تذهب نفوس المتلقين في التأويل كل مذهب، والتقدير: ( لرأوا ما لا حصر له من صنوف النعيم) ولو ذكرت جملة الجواب لتحددت بها صنوف النعيم، ففي الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وكل هذا يحققه الحذف وهيهات أن تحققه جملة الجواب حال ذكرها.

وعلى أية حال فأجمل جماليات الحذف أنه يحرر المتلقي من الاسترخاء المذموم حال تلقيه النصوص، ويجعله مشاركا في إنتاج الدلالة، وهذا إنما يدل على مكانة العقل في الإسلام.

أفصحنا (صلى الله عليه وسلم)

من أنماط التَّوكيد في لغة الحديث النّبويّ الشَّريف
التّوكيد بإلّا:
أ- الجملة ذات الفعل المتعدّي إلى الأوّل بنفسه، والثّاني بحرف الجرّ: (ما، وإلاّ):
ومِن أمثلة ذلك في حديث النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (ما أَجِدُ لكم إلاّ أنْ تلحقوا بالذَّوْدِ).
الجملة السّابقة فعلها (أجد) وفاعلها الضّمير المستتر (أنا) العائد على النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام، ومفعولها الأوّل المصدرالمؤوّل من (أن تلحقوا بالذّود) ومفعولها الثّاني (لكم)، ولم ترد غير هذه الجملة في هذا النّمط.
ب- الجملة ذات الفعل المتعدّي إلى الأوّل بوساطة الألف، وإلى الثّاني بحرف جرّ: (لا، وإلاّ):
ومِن أمثلة ذلك في حديث النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (لا يُبايعُهُ إلاّ لدُنْيا).
الجملة السّابقة تألّفت من الفعل (يبايع)، وفاعله ضمير مستتر تقديره (هو) يعود على رجل ما، ومفعوله الأوّل (الهاء) ومفعوله الثّاني (لدينا)، وقد أكّد مضمون الجملة بوساطة قصر الفاعل على المفعول الثّاني، ولم ترد غيرها.
جـ- قَصر المفعول على الفاعل:
1 -الجملة ذات الفعل المتعدّي إلى مفعول واحد بنفسه: (لا، وإلاّ):
ومِن أمثلة ذلك في حديث النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (مفتاح الغيبِ خمسٌ، لا يعلمها إلاّ اللهُ)، (في بابٍ يُسمى الريانُ، لا يدخلُهُ إلاّ الصائمون)، (ولا يمْلأ عَينَ ابن آدم إلا التّرابُ).
فيما مرّ جمل تألّفت من الفعل (يعلم، يدخل، يملأ)، وفاعل كلّ جملة (الله، الصّائمون، التّراب)، ومفعول كلّ جملة (الهاء، الهاء، عين)، وقد أكّد مضمون هذه الجمل بوساطة قصر المفعول على الفاعل، وقد وردت هذه الصّورة في (أربعة عشر) موضعًا.
2-الجملة ذات الفعل المتعدّي إلى مفعول واحد بزيادة الهمزة: (لا، وإلاّ):
ومِن أمثلة ذلك في حديث النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (الأنصار لا يُحِبُّهم إلاّ مؤمنٌ).
فيما مرّ جملة فعلها (يحب)، وفاعله (مؤمن)، ومفعول (الهاء)، وقد أكّد مضمونها بوساطة قصر المفعول على الفاعل، وقد وردت هذه الصّورة في (ثلاثة) مواضع.
3- -الجملة ذات الفعل المتعدّي إلى مفعولين بنفسه: (لا، وإلاّ):
ومِن أمثلة ذلك في حديث النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (لا يَمْنَعُهُ أن يَنْقَلِبَ إلى أهله إلاّ الصَّلاةُ).
في المثال السّابق جملة فعلها (يمنع)، وفاعلها (الصّلاة) والمفعول الأوّل (الهاء)، والمفعول الثّاني المصدر المؤوّل من (أن ينقلب)، وقد أكّد مضمون الجملة بوساطة قصر المفعولين على الفاعل، وقد وردت هذه الجملة في موضع (واحد).
4 -الجملة ذات الفعل المتعدي إلى المفعول الأول بالهمزة، والثّاني بحرف الجرّ: (لا، وإلا):
ومِن أمثلة ذلك قول النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (لا يُنْجيْكُمْ من هذه الصخرة إلاّ أنْ تدعوا اللهَ بصالح أعمالكم).
الجملة السّابقة فعلها (ينجي) وفاعلها المصدر المؤوّل من (أنْ تدعوا اللهَ)، ومفعوله الأوّل (الكاف)، ومفعوله الثّاني (من هذه الصّخرة)، وقد أكّد مضمونها بوساطة قصر المفعولين على الفاعل، ولم يرد غيرها في هذا النّمط.

التّركيب الثّاني: القَصْر بـ(إنَّما):
ورد هذا التّركيب في (ثلاثة وثلاثين) موضعًا، على وفق ما يأتي:
أوّلًا: الجملة ذات الفعل الماضي التّام المبني للمعلوم:
أ. قصر الفعل على الفاعل: ومِن أمثلة ذلك قول النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (إنّما ذَبَحَ لنفسِهِ)، (إنّما سمَّيتَ على كلبِك).
فيما مرّ جملتان تألـّفتا من الفعل (ذبح، سمّى)، ومن الفاعل (الضّمير المستتر (هو)، (التّاء)، وقد أكّد مضمونها بوساطة قصر الفعل على الفاعل، وقد وردت هذه الصّورة في (خمسة) مواضع.
ب. قصر الفعل على المفعول به: (الجملة ذات الفعل المتعدي إلى مفعولٍ واحدٍ بنفسه): ومِن أمثلة ذلك في حديث النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (إنما صَنَعْتُ هذا لتأتمّوا).
في المثال السّابق جملة فعلية فعلها (صَنَعَ)، وفاعلها (التّاء) ومفعولها (هذا)، وقد أكّد مضمونها بوساطة قصر الفاعل على المفعول، وقد وردت في (أربعة) مواضع.
ثانيًا: الجملة ذات الفعل الماضي التّام المبني للمجهول:
أ. قصر الفعل على نائب الفاعل: ومِن أمثلة ذلك قول النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (إنّما جُعِلَ الإمامُ ليُـؤتمَّ به).
فيما مرّ جملة فعلية فعلها (جُعِلَ)، والنّائب عن الفاعل (الإمام)، وقد أكّد مضمونها بوساطة قصر الفعل على نائب الفاعل، وقد وردت هذه الجملة في (سبعة) مواضع.
ب. قصر نائب الفاعل على المفعول به: ومِن أمثلة ذلك قول النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (إنّما جُعِلْتُ قاسِمًا أقْسِمُ بينكم).
في المثال السّابق جملة فعلها (جُعِلَ)، والنّائب عن الفاعل (التّاء)، والمفعول به (قاسمًا)، وقد أكّد مضمونها بوساطة قصر نائب الفاعل على المفعول، وقد وردت هذه الجملة في موضع واحد فقط.
ثالثًا: الجملة ذات الفعل المضارع التّام المبني للمعلوم:
أ. قصر الفعل على الفاعل: ومِن أمثلة ذلك قول النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (إنّما تَحزنُ لهم ضروعُ مواشيهم)، فهذه جملة تألّفت من الفعل (تحزن)، والفاعل (ضروعُ)، وقد أكّد مضمونها بوساطة قصر الفعل على الفاعل، وقد وردت في (ثلاثة) مواضع.
ب. قصر الفاعل على المفعول به:
- الجملة ذات الفعل المتعدّي إلى مفعوله بنفسه: ومِن أمثلة ذلك قول النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (إنّما يرحمُ الله من عباده الرحماءَ)، (إنّما يُجرجرُ في بطنه نار جهنّم).
فيما مر جملتان تألفتا من الفعل (يناجي، يجرجر)، والفاعل (لفظ الجلالة (الله)، الضّمير المستتر (هو)، والمفعول به (الرّحماء، نارَ)، وقد أكّد مضمون الجملتين بوساطة قصر الفاعل على المفعول به، وقد وردت هذه الجملة في (سبعة) مواضع.
- الجملة ذات الفعل المتعدي إلى مفعوله بوساطة:
الجملة ذات الفعل المتعدي بوساطة الألف: ومِن أمثلة ذلك في حديث النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (إنّما يناجي ربَّه).
في المثال السّابق جملة مؤلّفة من الفعل (يناجي)، وفاعله ضمير مستتر تقديره (هو) ومفعوله (رب)، وقد أكّد مضمونها بوساطة قصر الفاعل على المفعول، ولم يرد غيرها.
الجملة ذات الفعل المتعدّي بوساطة التّشديد والهمزة: ومِن أمثلة ذلك في حديث النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (إنّما أتَألَّفُهُم).
فيما مرّ جملة تألّفت من الفعل (أتألّف)، وفاعله الضّمير المستتر (أنا)، ومفعوله الهاء، وقد أكّد مضمونها بوساطة قصر الفاعل على المفعول، ولم يرد في هذا المضمار غيرها.
ج. قصر المفعول به على الفاعل: ومِن أمثلة ذلك في حديث النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (إنّما يلبسُ هذا مَنْ لا خَلاق له).
فيما مرّ جملة فعلها (يلبس)، وفاعله (من)، ومفعوله (هذا)، وقد أكّد مضمونها بوساطة قصر المفعول به على الفاعل، وقد وردت هذه الجملة في (موضعين).
رابعًا: الجملة ذات الفعل المضارع التّام المبني للمجهول:
قصر الفعل على نائب الفاعل: ومِن أمثلة ذلك في حديث النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (إنّما يُستخرجُ بالنَّذْرِ مِنَ البَخيل).
فيما مرّ جملة فعلها (يستخرج)، والنّائب عن الفاعل (من البخيل)، وقد أكّد مضمونها بوساطة قصر الفعل على نائب الفاعل، ولم يرد غيرها في هذا المضمار.
خامسًا: الجملة الفعلية ذات الفعل الماضي النّاقص:
قصر الاسم على الخبر: ومِن أمثلة ذلك في حديث النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (إنّما كان الّذي أُتيت وحيًا).
المثال السّابق جملة فعليّة....

كواكب ونجوم

ابن منظور .. (630 - 711هـ).

نجم في سماء اللغة ،صاحب معجم (لسان العرب): الإمام اللغوي الحجة، وقد ترك بخطه نحو خمسمائة مجلد، قال ابن حجر: كان مُغرمًا باختصار كتب الأدب المطولة. وقال الصفدي: لا أعرف في كتب الأدب شيئًا إلا وقد اختصره، أشهر كتبه (لسان العرب) عشرون مجلدًا، جمع فيه أمهات كتب اللغة، فكاد يغني عنها جميعًا..... و الإمامُ اللُّغويُّ الحُجَّةُ مُحمَّدُ بنُ مكرم بن علي بن منظور الخزرجي الأنصاري الرويفعي الإفريقي، من ولد رُويفِع بن ثابت الأنصاري, ولِدَ بمصر سنة 630 ونشأ فيها وتعَلَّم. كان أديبًا وشاعرًا، وعالِمًا باللغة والنحو والتاريخ، وخَدَم في ديوان الإنشاء بالقاهرة, ثم وَلِيَ القضاء في طرابلس, وعاد إلى مصر فتوفِّيَ فيها، وقد ترك بخَطِّه نحوَ خمسمائة مجَلَّد، وعَمِيَ في آخر عمره. كان له حب في اختصار الكُتُب الطوال، فاختصر كتاب الأغاني للأصفهاني، وكتاب العِقدِ الفريد لابن عبد ربه، والذخيرة لابن بسام، ومفردات ابن البيطار، ويتيمة الدهر للثعالبي، وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر، وصفة الصفوة لابن الجوزي، وغيرها من الكتب، أما أشهر كتبه على الإطلاق وأنفَعُها فهو كتابُ (لسان العرب) وهو مُعجَمٌ لُغويٌّ لا يزال يُعدّ المرجِعَ الأُمَّ من بين المعاجِمِ اللغوية. توفِّيَ في القاهرة عن 81 عامًا.

قضايا لغوية ونحوية

 التضمين اللغوي ، وتوجيه الأخطاء الشائعة

المقدّمة

 وَضَعَ أكثر ُاللُّغَوِيّينَ الْقَانونَ فَوْقَ اللّغة، وَالْمَبْنَى قَبْلَ الْمَعْنَى، وَالصِّيغَةَ فَوْقَ الدَّلَالَةِ، عِلْمًا أنّ الْقَانونَ اللُّغَوِيَّ يُسْتَنْتَجُ مِنَ اللّغة، وَيُسْتَمَدُّ مِنْهَا ،ولايُفْرَضُ عَلَيْهَا فَرْضًا، وَاللّغة ظَاهِرَةٌ اِجْتِمَاعِيَّةٌ تَخْضَعُ لِلْحَيَاةِ وَلِقَانونِهَا الأسَاسِيِّ في  التطوّر. إنّ الْحَيَاةَ فَوْقَ كُلِّ قَانونٍ، وَفَوْقَ كُلِّ تَنْظِيرٍ، وَأيُّ قَانونٍ أَوْ تَنْظِيرٍ يَخْرُجُ مِنْهَا، وَيَرُدُّ إِلَيْهَا، فالقوانينُ والّنظريّات تتعدّلُ، وتتبدّل وَفْقَ تطوّر الحياة، لا العكس، فالحياة حيّة، واللغة كائنٌ حيّ كشجرة خضراء نامية تحتاج بين الحين والآخر إلى تجديد غذائها، وتشذيب كلّ ما يبسَ وجفّ من أغصانها، والنظريات والقوانين جامدة، وأيّ قانون، أو نظريّة لا تأخذ بهذا تتخلّفُ عن رَكْب الحياة، وتتحنّط، ثمّ تموت. 

والتفكيرُ اللُّغويُّ عِندنا لم يُسايِرِ الحياةَ، ولم يأخُذْ بِهذا القانونِ الأساسيّ، والجوْهريّ إلى حدٍّ ما؛ لِذلِك تَخلَّفَ عن مُسايَرةِ التّقدُّمِ الفكريّ ، والحضاريِ ، فتَخلَّفتِ اللُّغة الفُصحى فترةً من الزمن ،( وعاشت ) في المعاجِمِ ، والكُتُبِ الصّفراءِ ، واِبتعدتْ عن لُغةِ الكِتابةِ ، وهي اللُّغةُ الحيّة الّتي لابدّ لها مِن مُسايَرةِ التّقدُّمِ . إنّ الكُتّابَ هُم الّذينَ يُحِسّون بِحاجتِهم إلى التّعبيرِ عنِ الحياةِ، وعمّا يستجّدُ فيها؛ لِذلِك يخرقون القانونَ أحياناً، ويُقدِّمون المَعنّى على المبنى، والدَّلالة على الصّيغةِ، ولوْ لم يفعلوا ذلِكَ لِعجُزوا عنِ التّعبيرِ عنِ الدّلالاتِ المُستجدّةِ ، والمعاني الكثيرةِ ، والجديدةِ الّتي تجبَهُهُم بِها الحياةُ ، ولوْ لم يفعلوا ذلِكَ لِوَجدنا ( معانيَ ودلاّلاتٍ ) دون ألفاظٍ تعبّر عنها . والكُتّابُ خاصّةً، والنّاسُ عامّة لا يُمكِن أن ينتظِروا حتّى تُجيزَ مجامِعُ اللُّغةِ، وعُلماؤُها هذا الاِستِخدامَ، أوْ ذاكَ، هذا المَعنى أوْ ذاك لِكيْ يستخدِموهُ مِن بَعْدُ، فلا بدّ لَهُم مِن المُبادرةِ، ولابدّ مِن المُجازفةِ، فالحياةُ تتطوّرُ، واللُّغةُ تتطوّرُ، وتطوُّرُ الحياةِ يفرِضُ علينا ما نستخدُمه، وما نترُكُهُ؛ ولوْ فتحتَ أيَّ كِتابٍ الآنَ، في أيِّ موْضوعٍ، ومِنها كِتابُنا هذا ، لِأدركتَ أنّ لُغةَ الكِتابةِ ،هي لُغةٌ حيّةٌ مُتداوَلةٌ ، وأنّها تختلِفُ إلى حدٍّ ما عن لُغةِ المعاجِمِ الّتي جُمِّدتِ ، ولم يُسمح لها بِالتّطوُّرِ إلّا بمُبادراتٍ لاحِقةٍ يسيرة ...هذا فضلاً عن أنّ جزءاً كبيراً من مفردات اللّغة العربيّة أصبح غير متداول بسبب التطوّر، إذْ إنّ جزءاً كبيراً من مفردات اللّغة جاءت للتعبيرعن مجتمع بدويّ متنقّل شبه مغلق.. أمّا الآن فقد اختلفت البيئة، واختلفت الحضارة.  إنّ موتَ المفردات، ونشوءَ مفردات جديدة أمرٌ طبيعي في اللّغة، وتطوّر حال المفردة اللّغوية في دلالاتها أيضاً حتميّة تاريخيّة ..

إنّ المتشدّدين في اللّغة الّذين يتخلّفون أكثر فأكثر عن ركب الحياة يتتبّعون أخطاءَ اللّغة الحيّة، ويتكثّرون مما يسمّى بالأخطاء الشائعة، ويبحثون عامدين عن قول متشدّد، مغالٍ، داعمين حجّتهم، ليخطّئوا هذا، أو ذاك، ناسين، أو متناسين أقوالاً أخرى في هذا المجال مخالفة للرأي المتشدّد، فهم مثلاً يلتزمون برأي الأصمعي في بعض المسائل، وهو متشدّد، تاركين غيرَه مِمّن خالفه في الرأي، وممن في رأيه أحياناً لاستقرائهم الناقص للّغة، ولكتبِها، ولعدم إدراكهم عَلاقاتِ المجاز، والتضمين اللغوي يخطّئون الصواب. 

لقد تتبّعنا الأخطاء الشائعة في لغة الكتابة داعين إلى أنّ المتداولَ الحيّ، أهمُّ من المعجم الميّت، وأنّ المعنى الجديد، والأسلوب الجديد، وإنْ لم يُعرف عند العرب سابقاً، وإنْ لم يكن أولى بالاهتمام، فهو جدير به؛ لأنّ الحياة أجازته (فما دامت الأجيال في الجاهليّة قد استعملت حقّها في التحوير، والتطوير عفويّاً فمن حقّ كلِّ جيل -يجهل، أو يعلم- أنْ يستعملَ حقّه في ذلك عفويّاً، وعمديّاً) .

لقد حاولنا ما أمكننا أنْ نقف مع الحياة، ومع التطوّر في اللّغة فتحدّثنا عن مواقع الأخطاء الشائعة مفصّلاً، بعد أنْ حدّدنا المواقع المُلْبَسة التي تكثر فيها الأخطاء، ثم وجّهنا هذه الأخطاء توجيهاً منهجيّاً، لذلك كانت غايتنا من إيراد الأمثلة ،والشواهد هي التمثيلُ لا الحصرُ، وكان توجيهُنا لا يقوم على رفضها، بل بتعليلها في الغالب، باحثين لها عن وجه في عَلاقات المجاز، أو أمان اللبس، أو في تجاور المعاني، وتقاربها، وتقارضها ، وبالتوسّع الذي وسيلته التضمين ، والتماس المناسب الذي لا يخرق نظام اللّغة ،وقوانينها، سالكين بذلك سبيل التيسير آخذين بالرأي الذي يُيَسّر، فلا يتشدّد ،ولا يتعصّب.. وقد وجدنا أنّنا بهذه الطريقة إنْ لم نلغِ الأخطاء الشائعة كلّها، فإنّنا نترك حيّزاً ضيّقاً لا يجرؤ على إزعاجنا، وآثرت التضمين اللغوي كوسيلة من الوسائل لتوجيه كثير من الأخطاء الشائعة لتضييق  حيّزها في لغتنا السمحة

لقد حظيت ظاهرة التضمين في اللّغة، وفي القرآن الكريم باهتمام القدماء من اللّغويين، والمفّسرين، وعلماء علوم القرآن، وكذلك نالت اهتمام المحدثين، وقد ذهب الباحثون فيها إلى مذهبين منهم من أيّد الظاهرة وأثبتها، وآخر رفضها، وكلٌ قدّم أدلته لإثبات رأيه، وهي مدوّنة في أمّات الكتب لمن أراد التزوّد بالمزيد 

في اللّغة يدلّ التضمين على معنيين:

الأول: الكفالة من ضمن.. الثاني: الإيداع، والاحتواء أمّا في الاصطلاح فهنا تختلف الآراء بين القدماء والمحدثين حيث رأى ابن جنّي (ت392هـ) أنّ التضمين ظاهرة واسعة، وكثيرة جداً في اللّغة، ويمكن تأليف كتاب لو جُمع أكثرُها ، ويوصي القارئَ الاستئناسَ بها إذا مرّت به، معلّلا أنّها من الفصول اللطيفة في العربّية. في حين أنّ ابن هشام (ت761هـ) يراها قليلة؛ لأنّه عرّفها: " قد يُشْرِبون لفظاً معنى لفظٍ فيعطونه حُكْماً"؛ ولا يخفى أنّ (قد) تفيد التقليل إذا دخلت على المضارع، بَيْدَ أنّ ابن جنّي وسّع دائرة الاستشهاد، حيث استشهد بالقرآن، والشعر، أمّا ابن هشام فقد اقتصر استشهاده على القرآن الكريم.

أمّا المحدثون فقد كانوا بين مؤيّد، ومعارض للتضمين ،فقد أقرّ مجمع اللّغة العربيّة في القاهرة ظاهرة التضمين عام (1934م) متمثّلاً في أعضائه الذين كانوا بين مؤيّد، ومعارض لها، حيث عقد المجمع جلسة خُصّصت لهذه الظاهرة ؛فقد تلا رئيس الجلسة الأستاذ محمد الخضر حسين بحثه في التضمين، إذْ رأى أنّ  للتضمين غرضاً وقرينةً وشرطًا، فالغرض هو الإيجاز، والقرينة هي تعدية الفعل بالحرف وهو فعل يتعدّى بنفسه، أو تعديته بنفسه، وهو يتعدّى بالحرف، أمّا الشرط  فهو وجود مناسبة بين الفعلين، ورأى أنّ  "للتضمين " صلةً بقواعد الإعراب من جهة تعدّي الفعل بنفسه ،أو تعدّيه بالحرف، وصلة بعلم البيان من جهة التصريف في معنى الفعل، وعدم الوقوف به عند حدّ ما وضع له، ومن هذه الناحية لم يكن كبقية قواعد علم النحو، وقد يستوي في العمل بها خاصّةُ الناس ،وعامتهم". فهو هنا قد بيّنَ صلة التضمين بعلمي النحو والبلاغة.

وفي نهاية جلسة المجمع صدرت التوصيات الآتية:

يُعرّف التضمين بأن يؤدّي فعلٌ أو ما في معناه في التعبير مؤدّى فعل آخر، أو ما في معناه، فيعطى حكمه في التعدية واللزوم، يكون قياسيّاً لا سماعيّاً بشروطٍ ثلاثة:

الأول: تحقّق المناسبة بين الفعلين.

الثاني: وجود قرينة تدلّ على ملاحظة الفعل الآخر، ويُؤمَن معها اللبس.

الثالث: ملاءمة التضمين للذوق العربيّ، وألّا يُلجَأ إلى التضمين إلّا لغرض بلاغي.

ويرى عبّاس حسن أنّ التضمين ركن من أركان البيان، وأنّه " مبحث ذو شأن في اللّغة العربيّة . وللعلماء في تخريجه طريقة مختلفة فقال بعضهم: أنّه جمع بين الحقّيقة، والمجاز على طريقة الأصولييّن؛ لأنّ العَلاقة عندهم لا يشترط فيها أن تمنع من إرادة المعنى الأصلي، ويرجِّح قياسيّتَه، ويرى أنّ من الأفضل أن يبقى بابه مفتوحاً للعارفين بدقائق العربيّة وأسرارها، وأن تُوضَعَ له قيودٌ تضبطُ استعمالَه، أمّا الدكتور فاضل السامرائي فإنّه يرى أنّ للتضمين غرضاً بلاغيّاً لطيفًا، وهو الجمع بين معنيين بأخصر أسلوب، كما أنّه يقرُّ بقياسيّته..

وعليه فإنّ حروف الجرّ في العربية كلُّ واحدٍ منها يؤدّي معنىً واحداً على سبيل الحقّيقة لا المجاز، فالحرف (في) يؤدّي معنى الظرفيّة، والحرف (عن) يؤدّي معنى المجاوزة، والحرف (على) يؤدّي معنى الاستعلاء، والحرف (باء) يؤدّي معنى الإلصاق، و(من) يؤدّي معنى الابتداء، و(إلى) يؤدّي معنى الانتهاء وهكذا... ولكنّهم وجدوا في واقع اللّغة أنّ هذه الحروف تؤدّي معانَي كثيرة غير ما وُضِعت لها أصلاً، ويدخل بعضها على بعض، فقد جاء (في) مكان  (على) في قوله تعالى: (ولأصلبنّكم في جذوع النخل)، أي على جذوع النخل، وجاءت (على) مكان  (عن)، في قول الشاعر: 

إذا رضيت عليّ بنو قُشير 

لَعَمْر الله أعجبني رضاها

وجاء الباء مكان (عن)، كما في قوله تعالى: (فاسأل به خبيراً) أي: اسأله (عنه). 

وجاءت (عن) مكان الباء، في قولهم: (رميت عن القوس) بمعنى بالقوس. وجاءت اللام مكان  (على)، في قولهم (سقط لِفيه) بمعنى على فيه. وجاءت (إلى) بمعنى الباء أو (مع) في قوله تعالى: (أحلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم)، ولا يقال في الأصل رفثت إلى المرأة، وإنّما يقال: رفثت بها، أو معها. 

وجاءت (إلى) مكان (عند) في قولهم (هو أشهى إليَّ من كذا)، أي عندي. وجاءت (على) بمعنى (في)، في قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على مُلْك سليمان ) أي: في ملك سليمان ، ويقال أيضا: (كان  كذا على عهد فلان ...) أي :في عهده، وهذا كثير في الحقيقة، ولا مجال لإيراده كلّه، وبهذا يقول ابن جنّي في الخصائص: (ووجدت في اللّغة من هذا الفنّ شيئاً كثيراً لا يكاد يُحاط به، ولعلّه لو جُمع أكثرُه لا جميعه لجاءَ كتاباً ضخماً).. 

ولمّا كثر هذا اختلفوا في تأويله، وذهبوا مذاهب شتّى، إلّا أنّها تُجمَع في مذهبين: المذهب البصريّ، والمذهب الكوفيّ، وفي هذا يقول ابن السيد البطليوسي في كتابه الاقتضاب تعليقاً على باب دخول بعض الصفات مكان بعض عند ابن قتيبة: (هذا الباب أجازه قوم من النحوييّن أكثرُهم الكوفيون، ومنع منه قوم أكثرهم البصريّون).

والكوفيّون يرَوْن أنّ هذه الحروف ينوب بعضها منابَ بعض، وتدخل على بعضها بعضاً، فتأتي اللّام مكان (على) و(إلى) مكان (عند) و(على) مكان في، كما قدّمنا في بداية البحث، وعلى هذا سار ابن قتيبة في الباب الذي عقده لهذا بعنوان (دخول بعض الصفات مكان بعض) في كتابه (أدب الكاتب) وقد تتبعه ابن السيد البطليوسي، وأخرج وأوَّل كثيراً من هذه الشواهد تأويلاً يُخْرِجها من هذا الباب. 

ويرى الكوفيّون أيضاً، أنّ حروف الجرّ ينوب بعضها مناب بعضها الآخر، وأنّ اللفظ يبقى على حاله لا يتغيّر، وإنّما الذي يتغيّر هو حرف الجرّ للدلالة على أنّ الفعل قد تبدّل معناه إلى معنى آخر قد يقاربه على وجه من الوجوه. 

أمّا البصريّون فيَرَوْن أنّ حروف الجرّ لا ينوب بعضها منابَ بعضها الآخر، وأنّ  لحرف الجرّ معنى واحد يؤدّيه على سبيل الحقيقة لا المجاز، فإنْ أدّى الحرف معنى آخر غير المعنى الذي وُضِع له وجب القول بأنّه يؤدّي هذا المعنى الجديد تأدية مجازيّة لا حقيقيّة، أو بتضمين الفعل، أو العامل الذي يتعلّق مع حرف الجرّ ومجروره معنى فعل آخر أو عامل آخر يتعدى بهذا الحرف، من ذلك قولنا :(الكتاب على الطاولة) هذا هو المعنى الحقيقيّ، ولكنّ المعنى المجازي يكون في قولنا :(أشكر المحسن على أساس إحسانه)، والتضمين مثل قوله تعالى: (أحلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) فلمّا كان  الرفث هذا بمعنى الإفضاء، وكان الإفضاء يعدّى بـ(إلى) جاز أنّ  نعديه بحرف الفعل الذي تضمّن معناه. 

ويرى البصريّون أنّ الحرف باقٍ على معناه، وأنّ الفعل أو اللفظ قد ضُمّن معنى فعل، أو لفظ يتعدّى بذلك الحرف. 

والحقيقة أنّ الفعل لا يبقى على معناه، وكذلك الحرف ، فهما يؤثران في بعضهما بعضاً ليؤدّيا معنى جديداً، فالسياق بما يتضمّنه من لفظ (فعل أو غيره)، وبما يتضمّنه من حرف يعطي معنى، أو دلالة جديدة. 

التضمين بصورة أوسع، صورة تفصيليّة، يقول ابن جنّي في خصائصه: (أعلم أنّ  الفعل إذا كان  بمعنى فعل آخر، وكان  أحدهما يتعدّى بحرف، والآخر بآخر فإنّ العرب قد تتبع، فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه إيذاناً بأنّ هذا الفعل في معنى ذلك الآخر، فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد مع ما هو في معناه ،وذلك كقول الله أعزّ اسمه :((أُحلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائِكُم)) وأنت لا تقول: رفثت إلى المرأة، إنّما تقول رفثت بها أو معها، ولكنّه لمّا كان  الرفث هنا في معنى الإفضاء ،وكنت تعدّي أفضيت بـ (إلى)، جئت بـ(إلى) مع الرفث إيذاناً، وإشعاراً أنّه بمعناه.

وينقل ابن السيد البطليوسي ما قاله ابن جنّي، حيث يدلّ قوله بأنّ هذا التفسير أو هذا التأويل كان ابن جنّي هو السبّاق إليه من بين البصريّين (.. لم أرَ فيه للبصريّين تأويلاً أحسن من قول ذكره ابن جنّي في كتاب الخصائص، وأنّ ما أورده في هذا الموضع صحيح..). 

ثم كثر القول في هذا الميدان، فبعضهم يرى أنّ فائدته هي (أن تؤدّي الكلمة مؤدّى كلمتين، فالكلمتان مقصودتــان قصداً وتَبَعاً) ويرى بعضهم أنّ مالم يدلّ على دلالتين، الدلالة الأصلية للفظ، والدلالة المستحدثة، ليس من التضمين، وأنّ المعنى المستحدث إذا كان من جنس المعنى الأصليّ فليس من التضمين، وبعضهم لا يرى هذا الرأي، وهكذا كثرت الأقوال في هذا الميدان .. ولكن ابن جنّي الذي شقّ هذا الطريق لم يشترط هذه الشروط، فإنّ الإفضاء يقع فيجنس (الرفث)من حيث المعنى العام، فالرفث إفضاء، وإنْ لم يكن الإفضاء رفثاً بالضرورة، ولكن يمكن أن يكونه، أضف إلى هذا أنّ ابن جنّي ذكر في هذا ما كان مأمون اللبس، حين تحدّث عن قول عنترة: 

بطلٍ كأنّ ثيابَه في سرحةٍ

يُحذى نعال السِّبت ليس بتوأم

أي: على سرحة(شجرة)، وكذلك حين تحدّث عن امرأة من العرب قالت:  

"هم صلبوا العبديَّ في جذع نخلة"

وقال :(لأنّه معلوم أنّه لا يصلب في داخل جذع النخلة، وقلبها)، وقوله (لأنّه معلوم) يتضمّن معنى (أمان اللبس) لمعلوميته، وشهرة ذلك، ومعرفة الناس به. 

وقال أيضاً تعليقاً على قوله كأنّ ثيابه في سرحة: (وليس كذلك قول الناس: فلان في الجبل، لأنّه قد يمكن أن يكون في غار من أغواره، أو لِصْب ( شقّ ضيّق  فيه) من لِصابه ،فلا يلزم أن  يكون عليه، أي: اعتلاه؛ أي نفى إمكانيّة مثل هذا القول حين لا يكون اللبس مأموناً ولم يُحسب منه ما كان فيه حذف من ذلك قولهم "سر على اسم الله" إذ لا يُراد به (سر باسم الله)، بل تقديره: (سِر معتمداً على اسم الله). 

ولا يقتصر التضمين على الفعل، بل يشمل الاسم أيضاً؛ لذلك فإنّ بعضهم يذكر اللفظ، أو العامل بدلاً من الفعل، ومن ذكر الفعل أراد الغالبية، وليس الكلّ، أراد التمثيل لا الحصر. 

ويذكر الأستاذ محمد الخضر حسين التضمين فيقول: (التضمين غرض هو الإيجاز، وللتضمين قرينة هي تعدية الفعل بالحرف، وهو يتعدّى بنفسه، أو تعديته بنفسه وهو يتعدّى بالحرف، وللتضمين شرط هو وجود مناسبة بين الفعلين) وإنْ لم تكن ثمّة مناسبة بينهما، فالتضمين باطل. 

وهو يرى (أنّ من يخطّئ العامّة في أفعال متعدية بنفسها، وهم يعدّونها بالحرف، مصيب في تخطئته، إذ لم يقصدوا لإشراب هذه الأفعال معاني أخرى تناسبها حتى يخرج كلامهم على باب التضمين). 

إنّ التضمين لا يصحّ عنده إلّا إذا استخدمه (العارف بوجه استعمال الألفاظ)، والعارف بأساليب البيان ..) أمّا غيرهم (كالتلاميذ، ومن يتعاطى الكتابة من غير أن يستوفي وسائلها، فإن قام الشاهد على أنّه نحا نحو التضمين..) واعترف أنّه (قصد التضمين، وبيّن الوجه، فوجدته قد أصاب الرمية.. لم يبق لاعتراضك عليه من سبيل..). 

على هذا فإنّ كلَّ من يستخدم استخداما عليه أن يبيّن وجهَ هذا الاستخدام فضلاً عن هذا، فإنّنا نجعل مستويين لمستخدمي اللّغة في مجال التضمين، مستوى العارفين الذين يحقّ لهم ما لا يحقّ لغيرهم، ومستوى غير المستوفين لوسائل الكتابة، وهؤلاء نضيّق عليهم. 

* * *

حين أردنا تناول هذه الظاهرة لم يكن قصدنا هو ذكر الأقوال والآراء التي قيلت في هذا الميدان على اتفاقها أحياناً، وتضاربها واختلافها أحياناً أخرى، وتفصيلاتها، وشروطها وغير ذلك، وهي كثيرة جداً، ولكنّ ما قصدناه هو هذه الظاهرة تحديداً، وكيفيّة تفسيرها؛ لأنّ  القول بالتضمين ليس تفسيراً كافياً، بل يحتاج إلى ما يفسّره، وعلى تفسيره تفسيراً صحيحاً يتوقّف شيءٌ كثير، فقد اختلفوا ومازالوا على  إجازته، أو منعه، وإيقافه على السماع، وقد رأى بعضهم أنّ  اللفظة تتضمّن معنيين، فإضافة إلى المعنى السابق هناك المعنى الجديد الذي يتحصّل من السياق الجديد الذي وضعت فيه اللفظة، وقد جعلوا هذا المعنى الجديد شرطاً لقبول التضمين في اللفظ،، وبعضم أو أكثرهم أخرجوا منه ما أوّلوه بوجود حذف في العبارة، وبعضهم أخرج منه ما كانت معانيه متقاربة بحجّة أنّ لا فائدة فيه، وكأننا نبحث عن الفوائد، وليس عن تفسير ظاهرة هي بحاجة إلى التفسير بغض النظر عن الفوائد، وإذا كان  لابدّ من فوائد على كلّ حال فإنّ  الفائدة تكمن في التيسير، وسيأتي شرح ذلك. ...

وقد فسّر صاحب النحو الوافي عبّاس حسن هذه الظاهرة بأنّها تعود أصلاً إلى اللهجات، وإلى تداخل هذه اللهجات في العربيّة، واختلافها، وبهذا فقد نفى الظاهرة كلّها؛ فذلك هو أصل الوضع لهذا الحرف أو ذاك في هذه اللهجة أو تلك، وليس هناك تضميناً، ولا نيابة لحرف عن حرف وعلى هذا فإنّ لهجة قد تعدّي مثلاً (الرفث) بـ(إلى) وأخرى قد تعدّيها بـ(الباء) وهكذا...

والحقيقة أنّ هذا هو ملخص قوله، وفحوى كلامه ومن كلّ ما تقدّم يتبيّن لنا أنّهم لم يهتمّوا بهذه الظاهرة من جهة عَلاقتها بما يسمّى بالتطوّر اللغوي، ولا جهة علاقتها بما يسمى بالأخطاء الشائعة الآن . 

ولنا أنّ نتساءل الآن: ألَا تعود ظاهرة التضمين في حقيقتها إلى نوع من تطوّر المعاني، أو تطوّر الدلالات؟. 

ألا تنحلّ هذه الظاهرة في أكثر من شكل، أو ألا تتوزّع على أكثر من ظاهرة؟ وبمعنى آخر: ألا تَجْمَعُ هذه الظاهرة أكثرَ من نوع، أو أكثر من ظاهرة جُمعت قسراً في ظاهرة واحدة؛ لذلك كثر التأويل والتخريج، والحذف والإثبات، واختلفوا في إدخال بعض الألفاظ في هذه الظاهرة، أو إخراجها منها، واختلفوا في وجود المعنيين هل هو شرط لازم؟ وهل مخرَج منها ما يعدُّ متقارباً في المعنى؟

وإذا كان الأمر كذلك أفلا تنحلّ هذه الظاهرة إلى ظواهر، وهذه الظواهر بحاجة إلى تفسير جديد؟ ثم أليس السياق والظرف الاجتماعي، وجهات المعنى للكلمة الاحتماليّة (تعدد المعاني، وقلّة الألفاظ) وجهات استخدام الشيء المتعدّدة تقود إلى معانٍ جديدة، أو معان متعددة، وعليه فإنّها تحتاج إلى أكثر من شكل للتعبير عنها. 

والحقيقة أنّنا لا نجانب الصواب إذا قلنا: إنّ هذه الظاهرة تنحلّ إلى عدّة ظواهر، وإنّها في بعض جوانبها تفصح عن أنّها أحد أشكال تطوّر الدلالة، وأحد سبلها في الوقت نفسه، وتحفّظُُنا هذا يعود كما قلنا إلى أنّها تنحلّ إلى أكثر من ظاهرة من جهة، وإلى أنّ تطوّر الدلالة يحدث إن استمرّ الاستخدام الجديد ،أو هذا المعنى الجديد للمفردة، ولم يكن وقفاً على هذا النصّ، أو على هذا السياق المحدّد.. وذلك هو ما يحدث في بعض الشواهد وليس كلّها، ولكنّ (بعضهم) هو الذي يمنحنا الجَرأة للقول:

 إنّ هذه إحدى سبل تطوّر الدلالة، وإحدى ظواهرها في الوقت نفسه. 

كما أنّ اطّرادَ هذه الظاهرة في المعاني المتقاربة، وبالأصحّ بتفسير المفردة بمرادفها يجيز استخدام الحرف الذي يتعدّى به هذا المرادف للفظ الآخر يمنحنا الجرأة لردّ كثير من الأخطاء الشائعة إلى هذه الظاهرة، وتفسيرها على هذا الأساس، والكفّ عن جعلها خطأً شائعاً، أخيراً إلامَ تنحلّ هذه الظاهرة؟ هل إلى التطوّر الدلالي، أو إلى التفسير بالمرادف للكلمة؟ والتطوّر الدلالي، والتفسير بالمرادف قد جمعناهما؛ لأنّهما كما ستلاحظ يقعان على حرف واحد، فإنّ اللفظة قد تنتقل من معناها الأصلي إلى معنى يجاورها، أو إلى معنى قريب منها، أو يُردّان إلى جنس من المعنى يشملهما معاً، وفي هذا أن تقال: قد تتوسّع الدَلالة، أو تتخصّص، ولكنّها تحت جنس واحد من المعنى يضمّهما معاً. 

وقد تُفسّر اللفظة بمرادفها، وهذا هو الأكثر، وهذا قريب ممّا سبق، وإنْ لم يكن فيه تطوّر دلالي ملحوظ، بل فيه تجاور بالمعاني، وحين تُفسّر اللفظة بمرادفها، تأخذ معنى هذا المرادف (الذي هو معناها هي بالأصل)، وتأخذ حرف هذا المرادف الذي فُسّرت به، وهذا هو الجديد، أي إنّها تتعدّى بحرف مرادفها، حين تفسّر بهذا المرادف، وهذا في حقيقته خُطوة أولى لإدخال هذه اللفظة في سياقات جديدة، وإعطائها معنى جديداً، فهذه إحدى سبل تطوّر الدلالة. 

ولعلّ الكوفيّين لاحظوا هذا التقارب في المعاني التي تنتقل إليها بعض المفردات فعمّموها، وقالوا بأنّ الحروف تنوب مناب بعضها.. ولكنّ ابن جنّي ردّ على (هذا الإطلاق)، ورفضه وإنْ  لم يرفض الظاهرة ككلّ: (ولسنا ندفع أن يكون ذلك كما قالوا، أي أن تنوب الحروف مناب بعضها، ولكنّنا نقول: إنّه يكون بمعناه في موضع دون موضع، على حسب الأحوال الداعية إليه، والمسوّغة له، فأمّا في كلّ موضع، وعلى كلّ حال فلا، ألا ترى أنّك أخذت بظاهر هذا القول غَفْلاً هكذا لا مُقيّداً لزمك عليه أن  تقول: سرت إلى زيد، وأنت تريد: معه، وأن تقول: زيد في الفرس وأنت تريد عليه، وزيد في عمرو، وأنت تريد: عليه في العداوة، وأن تقول رويت الحديث بزيد، وأنت تريد: عنه، ونحو ذلك مما يطول ويتفاحش ،ولايُقْبَل) .

ونقل ابنُ السيّد البطليوسي في كتاب  الاقتضاب هذا الرأيَ وعضّده ، وما قاله ابن جنّي صحيح في جملته، إذْ لابدّ من مناسبة حتى يصحَّ ما أراده الكوفيّون، وهذه المناسبة تقع إمّا في تفادي اللبس وتحاشيه ، وسنتحدث عنها فيما بعد ، وإمّا بدخول المعنى الجديد في جنس المعنى القديم، أو وقوعهما في معنيين متقاربين حتى مترادفين ،ومن هذا قولهم (بنى بأهله) فقد خطأه بعضهم قائلاً :إنّ  الصواب هو: (بنى على أهله) ملاحظاً أنّ  العربيَّ كان  يقيم خيمة على عرسه حين يقترن بها، ولكنّ هذا ما كان  أصلاً، وهو يدلّ على أنّ المرأة كانت منفعلة لا فاعلة، ولكنّ قولهم (بنى بأهله) يدلّ على تطوّر المعنى ،فبعد أن كانوا يبنون عليهن، أصبحوا يبنون بهن أي: (بوساطتهن) فقد أصبحت المرأة سبباً في البناء، وهذا تطوّر جديد في المعنى، ومع هذا نستطيع القول: إنّهما يقعان على حرف واحد من المعنى. فإنّه بنى عليها عندما تزوجها، فإنّه كذلك يبني بها. فهي الداعية إلى البناء في الحالين، فهناك تقارب في المعنى، ولكنّ هناك تطوّراً ملحوظاً في المعنى أيضاً. 

ومن هذا أيضاً قوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم). 

فلأسباب اجتماعيّة وأخلاقيّة تطوّر معنى (الرفث) من نكحها، أو فعل بها إلى معنى الإفضاء إليها؛ لأنّه إذا رفث بها فقد أفضى إليها، ولكنْ لا يُشترط إذا أفضى إليها أن يرفث بها، فقد تطوّر معنى الرفث من النكاح إلى (الإفضاء) الذي قد يَحْدُث فيه رفث، وقد لا يحدث، أي انتقل من الخاص إلى ما هوأعم.ّ 

فالتطوّر في الدلالة واضح في هذا المثال أيضاً، ومن هذا أيضاً، قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) أي مع أموالكم، أي لا تضموا أموالهم إلى أموالكم جاعليها لكم. فأكل أموال اليتامى ضَمٌّ لها، وضمّها قد يكون فيه أكل لها، وقد يكون إلى حين، وهما معنيان متقاربان، ولكنّ الأكل أشمل. 

ومن هذا أيضاً قولهم: (جلست إلى القوم) يريدون فيهم، فإذا جلست إلى القوم، فإنّك تجلس فيهم وبينهم، ومعهم، وهذا ليس تقارباً في المعنى فقط، بل هي كلّها من جنس واحد. 

ومن ذلك أيضاً قولهم: (عنّف به) إذ يقولون عنّف عليه، فعنّف به يُفسّر بمعنى غضب عليه، أو قسا عليه، والمعنيان من جنس واحد. 

ومن ذلك أيضاً قولهم :(فعلت ذلك لك) و(فعلت ذلك لعيون الناس) أي فعلته من أجلك، ومن أجل عيون الناس، وهم يرون أنّ اللّام جاءت بمعنى من أجل، والمعنيان - كما تلاحظ- متقاربان، أو هما من جنس واحد لذلك جاز هذا. 

ومن ذلك قولهم: تزوّجها، وتزوّج بها، ويرون أنّ الثانية لغة قليلة، وهي بمعنى اقترن بها. 

من هذا كله نلاحظ سهولة الانتقال، واستساغته من معنى إلى آخر يقارب، أو يقع ضمن جنسه، فيضيف إليه تعميماً، أو تخصيصاً. 

كذلك نلاحظ سهولة الانتقال بين المعاني المتقاربة، أو المترادفة على الأصحّ، حيث تفسّر الكلمة بمرادفها فتعدّى بحرف هذا المرادف، وإنْ كان لها حرف خاصّ بها في الأصل. ونظنّ أنّ هذا ما كان  في أذهان الكوفيين حين أطلقوا نيابة الحروف عن بعضها بعضاً ،ولم يقيّدوها. 

واعتماداً على كلّ ما تقدّم نستطيع أن نوجّه كثيراً ممّا يعد في الأخطاء الشائعة التي وقعت في هذا الحيّز، حملاً للشيء على مرادفه أو مفسّره، كذلك فإنّ هذه الأخطاء الشائعة، وإن كانت نتيجة لما تقدّم، فإنّها أيضاً تفسّر ما تقدّم وتدلّ عليه. 

ومن ذلك أنّهم يخطِّئون سخرت به، ويرون أنّ الصواب هو سخرت منه، ولكنّ سخرت به حُملت أو فُسّرت بـ(هزأت به). 

ومن ذلك أنّهم يخطّئون خفت منه، فالصواب خفته، ولكنّ خفت منه تُحمل على (فزعت منه، وفَرِقت منه)، ومن ذلك أيضاً خشيت منه، فالصواب (خشيته)، ولكنّ خشيت منه تُحَمل على (فزعت منه وفرقت منه)، ومن ذلك أيضاً: لم يكترث به حملاً على مرادفها لم يبالِ به، إذ الصواب فيها: لم يكترث له، ومن ذلك قولهم: استندت على الشيء واستناداً عليه حملاً على (اعتمدت على الشيء، واعتماداً عليه...) والصواب استندت إلى الشيء. 

ومن ذلك قولهم: قبل به، والصواب قبله، ولكنّه فُسّر بمعنى (رضي به). 

ومن ذلك قولهم: شاركته العمل، والصواب أنّ الفعل يتعدّى إلى واحد؛ لذا وجب أن يقال: (شاركته في كذا)، ولكنّه جاء هنا بمعنى شاطره، وتقول شاطرته سروره. ومن ذلك قولهم: فحص العالِم المسألة، والصواب فحص عن المسألة، لأنّ الفحص هو البحث عن الشيء، ولكنّها جاءت هنا بمعنى (استقصى العالم المسألة)، ومن ذلك قولُهم: تعهّدت بهذا الأمر حملاً على ألزمت نفسي به، لأنّ الصواب (تعهّدت الأمر) أي تردّدت إليه، وأصلحته، أو حفظته. 

ومن ذلك قولهم: آخذه على ذنبه حملاً على معنى عاقبه على ذنبه، والصواب: آخذه بذنبه أو أخذه بذنبه. ومنه قولهم: تحرّى فلان عن الأمر مفسّراً بـ(بحث عنه، وكشف عنه) والصواب تحرّى فلان الأمر، أي توخّاه، وقصده. 

ومنه قولهم: خوّلت إليك هذا الأمر حملاً على معنى صيّرته إليك... والصواب أنّ خوّلت متعد لاثنين بنفسه كقوله تعالى :(ثم إذا خوّله نعمةً منه) فالصواب أن يقال: (خوّلتك الأمر). 

ومن ذلك قولهم :(أمعن فلان النظر) حملاً على معنى (أنعم فلان النظر..) إذا بالغ فيه. والأصل: أمعن النظر، وفي الصحراء، وفي البحر؛ لأنّ الإمعان هو الإبعاد، والمبالغة في الإقصاء والاستقصاء. 

ومنه قولهم: حرمه من حقّه حملاً على منعه منه، والأصل حرمه حقّه. 

ومنه قولهم: كان يتحاشى الوقوع في أيدي الأعداء والأصل كان يتحاشى من الوقوع في أيدي الأعداء، ولكنّ الأوّل فُسّر بمعنى (كان يتجنب الوقوع في أيدي الأعداء). 

ومنه قولهم: (احتاطوا المدينة) حملاً على معنى حاصروا المدينة، والأصل أو الصواب: احتاطوا بالمدينة، أي أحدقوا بها. ومنه أيضاً (حاز على الأموال) حملاً على سيطر عليها، والأصل حازها أي: ضمّها إلى نفسه. 

ومنه أيضاً (خرج على القانون، أو على الدولة) حملاً على معنى ثار على الدولة، وعلى القانون أو تمرّد عليهما، والأصل في ذلك (خرج عن القانون...) لأنّ الخروج عن الشيء يستلزم الابتعاد عنه. 

ومنه أيضاً (حقيق عليه أن يقول ما ينفع) حملاً على (واجب عليه) والأصل حقيق به، بمعنى جدير به. 

ومنه أيضاً (اعتقدت بصحة الأمر) حملاً على (آمنت بصحته) والأصل فيه (اعتقدت صحته) أي صدقه. 

ومن ذلك (غبطته على ثرائه) حملاً على (حسدته على ثرائه)، والصواب (غبطته بثرائه). 

ومنه: تردّد فلان على المدرسة حملاً على (تعوّد عليها) أو داوم أو واظب، والأصل فيها: تردد إلى المدرسة. 

ومنه (ساد فلان على قومه) حملاً على (سيطر على قومه) والأصل (ساد فلانٌ قومَه). 

وكما نلاحظ فهذه المعاني كلّها معانٍ متقاربة، وهي تُفسّر بمرادفها، وهذا -التقارض- كثير جداً فيما يسمّى بالأخطاء الشائعة.... 

التضمين، وأمان الّلبس :

كثيرٌ من هذه الظواهر تقعُ في الحقيقة، لأنّ اللّبس فيها مأمون، وليس لأنّها حَمَلَتْ، أو شُرّبتْ معنى فعلٍ أو لفظ آخر، وقد أشار ابن جنّي إلى هذا ضمناً، ولكنّه عدّ هذه الظاهرة أيضاً من التضمين، ولم يُخرجْها منه، فقال تعليقاً على قوله: 

بطل كأنّ ثيابه في سَرْحةٍ      يُحذى نعال السِبت ليس بتوأم

أيْ: على سرحة. (وجاز ذلك من حيث كان معلوماً أنّ ثيابَه لا تكون في جوف سرحة (شجرة)، لأنّ السرحة لا تنشقّ، فتستودع الثياب، ولاغيرها، وقال أيضاً تعليقاً على ذلك، ممّا يدلّ أنّه لا يخرج هذه الظاهرة من التضمين (فهذا من طريق المعنى بمنزلة كون الفعلين أحدهما في معنى صاحبه على ما مضى)، ومثلُ قولِه:( كأنّ ثيابه في سرحة) قولُ امرأة من العرب: 

هُم صلبوا العبديَّ في جذع نخلةٍ      فلا عطست شيبان إلّا بأجدع 

لأنّه معلوم أنّه لا يُصلب في داخل جذع النخلة، وقلبها.

وقال: وليس كذلك قول الناس: فلان في الجبل؛ لأنّه قد يمكن أن يكون في غارٍ من أغواره، أو لَصَب من لصابه، فلا يلزم أن يكون عَلِيَه أي: عالياً فيه.

وممّا تقدّم نلاحظ أنّ أمان اللبس كان واضحاً وظاهراً في هذه القضيّة، وأنّه هو الذي أجاز إمكانيّة هذا الاستخدام فلا معنى يُضمّن هنا، ولا دلالة جديدة تُشرّب في فعل آخر، والشواهد في هذا الميدان كثيرة فاحشة، منها ما قدّمناه، ومنها أيضاً، قوله تعالى: (ولأصلبنّكم في جذوع النخل، أيْ عليها). 

:ومن تفادي اللبس أيضًا، قوله

إذا رضيت عليَّ بنو قشير       لعمر الله أعجبني رضاها 

أراد رضيت عني.. 

وقال ابن جنّي تعليقاً على هذا الشاهد :(وكان أبو علي يستحسن قول الكسائي في هذا، لأنّه قال: لمّا كان (رضيت) ضدّ (سخطت) عدّى رضيت بـ(على) حملاً للشيء على نقيضه، كما يحمل على نظيره.. ونحن نرى في هذا أمانًا للبس، وربّما كان لهذا الموقف أسبابه النفسيّة، فالرضى ضدّ السخط، ولكنّ شدّةَ الرضى قد تكون سخطاً، ألَم يقولوا إنّ الضدّ ينقلب إلى ضدّه ونقيضه إنْ زاد على حدّه؟ وألا يقول علم النفس: إنّ مشاعر الكراهيَة والحبّ المتضادتين قد تنقلبان إلى بعضهما بعضاً، إنْ بلغتا الغايةَ في الشدّة. 

ومن أمان اللبس أيضاً قولُهم: (لا يدخل الخاتَم في إصبعي): أي على إصبعي. 

ومن ذلك: سقط لفيه، بمعنى على فيه. 

ومنه قولهم: ((فخرّ صريعاً لليدين وللفم))، أيْ على اليدين والفم. 

وعلى هذا الأساس نستطيع أن نوجّه طائفة كبيرة ممّا يعدّ في الأخطاء الشائعة، ومن ذلك قولهم: (سها الشيء عن بالي) والصواب: سهوت عن الشيء، وكذلك قولهم (سها اسمه عن بالي) والصواب (سهوت عن اسمه)؛ لأنّ الذي يسهو هو الإنسان لا الشيء والاسم، فهما لا ذاكرة لهما لتنسى، وهذا هو السبب الذي يجعل اللبس مأمونًا، فما دام المعنى مُدرَكاً وواضحاً على هذا النحو جاز حين تقول: سها الشيء عن بالي لا تريد أنّ الشيء نسيني لأنّه لا ينسى، بل أنا الذي نسيته. 

وربما جاء (سها) هنا بمعنى (راح) أي راح عن بالي أو غاب عن بالي، أو ذهب عن بالي، وعلى هذا يكون قد جاء على قاعدة المعاني المتقاربة، أو المفردة المفسّرة بمرادفتها، إذ معنى سهوت عن الشيء نسيته وراح، أو ذهب أو غاب عن بالي.

ومن هذا أيضاً قولهم (ضربه بالأرض) والصواب هو (ضرب به الأرض)، والحقيقة أنّ هذا المعنى هو المراد في التعبير الأوّل، وذلك بسبب أمان اللبس، إذ لا يذهب الذهن أبداً للاعتقاد أنّنا حملنا الأرض وضربناه بها فهذا هو المستحيل، لذا جاز مثلُ هذا القولِ مادام اللبسُ مأموناً، والمعنى واضحاً.. 

ومنه أيضاً: قولهم (رددت على قول فلان) والصواب رددت على فلان قوله، لأنّك لا تردّ على القول، فالقول لا عقل له حتّى تردَّ عليه، بل تردُّ على القائل ما قاله، وهذا هو السبب الذي يجعل مثل هذا القول معقولاً وجائزاً، وذلك لأمان اللبس فيه. 

هذا القول جائز أيضا على نحو آخر، ولسبب آخر فأنت تردّ على القول باعتبار أنّه نتيجة لقائله، وقائلُه هو المسبّبُ له، فهذا إذاً مجازٌ مرسل علاقته السببيّة ويشبه هذا قولنا: (رعينا الغيث) فنحن لا نريد الغيث نفسه، وإنّما ما نتج عن الغيث، ومثل ذلك (رعينا السماء)، فنحن نذكر المسبّب، ونحن نريد ما نتج عنه، وفي المثال المذكور حدث العكس، فنحن نذكر النتيجة، ونريد المسبّب. 

ومن ذلك أيضاً قولهم: (أعلنت فلاناً بالأمر) والصواب أعلنت الأمر إلى فلان، أي أظهرته له، والإظهار لا يكون إلّا للمعلن، وهو الأمرُ لا الشخص .

ولعلّه جاز لسبب آخر (فأعلنت فلاناً بالأمر) يشبه من حيث المعنى إظهاراً للأمر، بل لا بدّ من إظهار الأمر لفلان، وهذا واضح. 

ولعلّه جاز لسبب آخر (فأعلنت فلانًا بالأمر) يشبه من حيث المعنى (أعلمت فلاناً بالأمر) والصواب (أعلمت فلاناً الأمر) فهو يتعدّى لاثنين بنفسه، فجاز على قاعدة التفسير بالمعاني المتقاربة، أو المترادفة، فإظهار الأمر لفلان يشبه إعلامه بالأمر، فأنت حين تظهر له الأمر فكأنّك عرّفته إياه، وجاء (أعلمت فلاناً بالأمر) حملاً على (أخبرت فلانًا بالأمر). 

من ذلك أيضاً قولهم: (تأسس المصنع سنة كذا، أو تأسّست المدرسة..) فهم يخطّئون مثل هذا القول قائلين: إنّ الصواب هو: إمّا أُسِّسَ المصنعُ أو أَسَّست الدولةُ المصنعَ، أي إمّا أنّ نبني للمجهول، أو نسند إلى الفاعل الحقيقي، ويقولون احتجاجاً لذلك إنّ: (الأفعال التي على وزن (تفعّل) تقتضي إسنادها إلى فاعلها الحقيقي الذي فَعلَ الفعل. ويقولون :(المصنع لا يؤسس نفسه، ونحن نضعه في موقع الفاعل، وهو حقيقة في موقع المفعول. 

ونرى أنّ ليس في ذلك خطأ: لأنّ اللبس مأمون: فحينما نقول: تأسّس المصنع.. ندرك تمامًا أنّ المصنع لا يؤسّس نفسه، ولابدّ له من مؤسّس، أمّا أن نضعه في موقع الفاعل، وهو حقيقة في موقع المفعول، فليس في ذلك حجّة، فهذا كثير في اللّغة، ومثل ذلك: (مات الرجل) فهو لم يمت بفعل ذاتي. 

ومن ذلك قولهم: (هذا الأمر لا يختصّ بي، أو قولهم: خصّصت غرفةً للأطفال) فهم يرون أنّ هذا خطأ، لأنّ التخصيص هو الانفراد بالشيء والتخصّص له، وفي قولنا: (هذا الأمر لا يختصّ بي) نكون قد خصّصنا الأمر بالشخص، وهو مخالف لأصول الفصاحة، إذ ليس الأمر هو المختصّ بالشخص، بل العكس، وكذلك في قولنا: (خصّصت غرفةً للأطفال) فالتخصيص للغرفة، وما نريده هو التخصيص للأطفال، ونرى أنّ هذا 

التضمين في القرآن .. 

ورد «التضمين» في أكثر من ٢٥٠ موضعًا في القرآن الكريم، وهو أسلوب غاية في البلاغة والفصاحة والبيان، وينطوي على فوائد جمة، من توليد المعاني وإيجاز العبارة وإحضار الذهن وتجديد النشاط والحث على التدبر والتفكر، وفي المقال أمثلة تبرز هذه الفوائد، وتفتح الأفق أمام قارئ القرآن لينهل من معين كتاب الله تعالى.

﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ [الإنسان: ٦]، ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا﴾ [النساء: ٥]، ﴿يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ [الحج: ٧٢]، ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ [الأنبياء: ٧٧]، ﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ﴾ [الإسراء: ٤٧].

هل لاحظت شيئًا لافتًا للنظر؟

لعلّك لاحظت أنّ حروف الجرّ في هذه الآيات ليست هي حروف الجرّ التي تتعدّى بها –عادةً- الأفعال المذكورة، ففعل «شرب» و«رزقه» يتعدّيان بـحرف الجر «مِن»، بينما عُدّي الأول في الآية بالباء والثاني بحرف الجر «في». و«سطا» و«نصره» يتعدّيان بحرف الجرّ «على»، بينما عُدّي الأول منهما بالباء والثاني بحرف الجر «مِن». وفعل «استمع» يتعدّى بحرف الجر «إلى» بينما عُدّي في الآية الأخيرة بالباء.

هذا الأسلوب يسميه علماء اللغة والتفسير: التضمين، ويقصدون به: تضمين معنى الفعل المذكور معنى فعلٍ محذوفٍ وذلك بتعدية الفعل المذكور بحرف جرٍ يناسب الفعلَ المحذوف، أو إن شئت قل: تضمين الفعل المذكور معنى فعلٍ محذوف، دلّ عليه حرف الجر. فعلامة التضمين التي يُعرف بها هي تعدية الفعل بغير حرفه المعتاد..

يقول ابن جنّي: «اعلم أنّ الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر وكان أحدهما يتعدّى بحرفٍ والآخر بآخر، فإنّ العرب قد تتسع فتُوقِعُ أحدَ الحرفين موقع صاحبه إيذانًا بأنّ هذا الفعل في معنى ذلك الآخر، فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد مع ما هو في معناه، ويقول الزمخشري: «فإن قلت: أيُّ غرض في هذا التضمين؟ قلت: الغرض فيه إعطاء مجموعِ مَعْنَيَيْن، وذلك أقوى من إعطاء معنىً فذّ … ونحوه قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَهُمْ إِلَى أَمْوالِكُمْ﴾ أي ولا تضموها إليها آكلين لها.. ويقول ابن يعيش: "والتحقيق في ذلك أنّ الفعل إذا كان في معنى فعل آخر، وكان أحدهما يصل إلى معموله بحرف والآخر يصل بآخر، فإنّ العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه، إيذانًا بأن هذا الفعل بمعنى ذلك الآخر".

ويقول ابن يعيش: «والعرب تُضَمِّنُ الفعل معنى الفعل وتعدّيه تعديته، ومن هنا غَلِط مَن جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض، كما يقولون في قوله‏: ‏﴿‏لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ‏﴾‏ ‏[‏ص‏: ‏٢٤‏]‏ أي‏: مع نعاجه، و‏﴿‏مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ‏﴾‏ ‏[‏الصف‏: ‏١٤‏]‏ أي‏: مع اللّه، ونحو ذلك‏.‏ والتحقيق ما قاله نحاة البصرة من التضمين، فسؤال النعجة يتضمّن جمعها وضمّها إلى نعاجه، وكذلك قوله‏:‏ ‏﴿‏وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏﴾‏ ‏[‏الإسراء‏: ‏٧٣‏]‏ ضُمّنَ معنى يُزيغونك ويَصدّونك، وكذلك قوله‏: ‏﴿‏وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا‏﴾‏ ‏[‏الأنبياء‏: ‏٧٧‏]‏ ضُمّنَ معنى نجّيناه وخلّصناه، وكذلك قوله‏: ‏﴿‏يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ‏﴾‏ ‏[‏الإنسان‏: ‏٦‏]‏ ضُمّنَ: يُروى بها، ونظائره كثيرة...

ويقول ابن القيم : «وظاهرية النحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر، وأمّا فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة، بل يجعلون للفعل معنىً مع الحرف ومعنى مع غيره، فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال فيُشربون الفعل المتعدّى به معناه. هذه طريقة إمام الصناعة سيبويه رحمه الله تعالى وطريقةُ حذّاق أصحابه، يُضمّنون الفعل معنى الفعل، لا يُقيمون الحرف مقام الحرف، وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار تستدعي فِطنَة ولطافة في الذهن. وهذا نحو قوله تعالى: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ فإنّهم يُضمّنون «يشرب» معنى «يروى» فيُعدّونه بالباء التي تطلبها، فيكون في ذلك دليلٌ على الفعلين، أحدهما: بالتصريح به والثاني: بالتضمن والإشارة إليه بالحرف الذي يقتضيه مع غاية الاختصار، وهذا من بديع اللغة ومحاسنها وكمالها....

الغرض الظاهر من التضمين هو التوسّع في المعنى دون الزيادة في اللفظ،، وهذا من بديع البلاغة وسحر البيان. فإبدال حرف الجر بحرفِ جرٍّ آخر أضاف إلى معنى الفعل الأول معنى فعل ثانٍ، دون أن تزداد كلمات الجملة، أو يُزاد في تركيبها...

:الغرض من التضمين

الغرض الظاهر من التضمين في القرآن الكريم ؛ هو التوسّع في المعنى دون الزيادة في اللفظ،، وهذا من بديع البلاغة، وسحر البيان، فإنّ إبدال حرف الجر بحرفِ جرٍّ آخر أضاف إلى معنى الفعل الأول معنى فعل ثاني، دون أن تزداد كلمات الجملة أو يُزاد في تركيبها. فيصبح الأمر كما قال الزمخشري «إعطاء مجموعِ معنيين»، أو كما قال غيره «أن تؤدّي كلمةٌ مؤدّى كلمتين»، بل إنّه يُضاف إلى معنى الفعلين أحيانًا معنىً زائدًا متحصّلاً من الجمع بينهما!

ففي قوله ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ﴾ أي نصرناه عليهم بأن منعناه منهم، فإنّهم لما أرادوا أن يكيدوا له منعه الله؛ فلم يحصل لهم مرادهم، فكان نصرًا عليهم بهذا الاعتبار.

وكذلك في قوله تعالى: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾، فإنّه ضَمّن الشرب معنى الريّ كما قال ابن القيم، أو معنى التلذّذ، فصار معنى الآية يشربون منها مُرتوين متلذّذين بها.

ولا يُظنّ أنّه لو أُتي بالفعلين ظاهرين ومع كلٍ حرف الجر الذي يتعدّى به أن تصبح الجملة سواء هي والجملة المضمنة؛ فإنّهما ولو تماثلا في المعنى فإنّ في الإيجاز من البلاغة والفصاحة ما ليس في الإطناب.

من فوائد التَّضمين: التَّنبيه، فإنّ الأذن يطرقها بشدّة تغيّر حرف الجر عن الحرف المعتاد، والتنبيه يبعث على حضور الذهن، ويقلّل الشرود، ويجدّد النشاط عند القارئ

يقول د. فاضل السامرائي: «والعدول إلى طريقةٍ ما في التعبير بأقصرِ طريقٍ ظاهرة من ظواهر العربية، من ذلك ما مرّ في المفعول المطلق من ذكر فعل وذكر مصدر فعل آخر يلاقيه في الاشتقاق معه، كما في قوله تعالى ﴿وتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيْلاً﴾ فقد جمع معنى التبتّل والتبتيل، أي التدرّج والكثرة في آن واحد، ومنه ما ذكرناه في قوله تعالى ﴿وادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾، فقد كسبنا باستعمال المصدر بدلاً من اسم الفاعل معنى الحاليّة، والمفعول لأجله، والمفعولية المطلقة، بخلاف ما لو قال (ادعوه خائفين) فإنّه ليس فيه إلا معنى الحاليّة..

ومن فوائد التضمين أيضًا: التنبيه، بل إنّ فيه من التنبيه أكثر مما يكون في الالتفات، فإنّ الأذن يطرقها بشدّة تغيّر حرف الجر عن الحرف المعتاد، كما في أمثلة التضمين التي افتتحنا بها المقال. والتنبيه يبعث على حضور الذهن، ويقلّل الشرود، ويجدّد النشاط عند القارئ.

التضمين في استخدامه الأوسع:

أكثر أمثلة التضمين في القرآن هي في الأفعال وحروف الجر التي تتعدّى بها، إلا أنّ للتضمين نماذجَ أخرى، منها: ما عُدّي بحرف بينما هو يتعدى بنفسه كما في قوله تعالى: ﴿يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾، أو عدّي بنفسه وهو يتعدى بحرف، كقوله: ﴿كَفَرُوا رَبَّهُمْ﴾، وما يتعدى لمفعولِ فعدّاه لمفعولين، كما في قوله: ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً﴾، أو لازمٍ عدّاه لمفعولٍ كقوله: ﴿وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾، أو لازمٍ عدّاه لمفعولين: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً﴾، أو متعدٍّ جعله لازمًا: ﴿إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾، أو يتعدّى لمفعولين فعدّاه للثاني بحرف: ﴿وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾. وعليه يمكن أن نعرّف التضمين بمعناه الأوسع أنّه: استخدام كلمة على قاعدة كلمة أخرى فيحصل معنى مركّب من الكلمتين.

ربما كان التضمين من الأساليب التي لا ينتبه إليها العامّة، وهنا يأتي دور طالب العلم في تعلّمه ثم تقريبه للناس وإظهار جماله وروعته، وهذا لا شكّ من جملة تعليم القرآن (خيرُكم مَن تعلم القرآنَ وعلمه)

التدبّر في التضمين:

إنّ نورَ المؤمن وهدايَته وصلاحَه وزكاةَ نفسه في الإقبال على كتاب الله، تلاوة وترتيلاً وحفظًا وتفسيرًا وتدبّرًا، وتأمّلاً في أساليبه ، وزيادة العناية بالقرآن علامةُ التعلّق به والتعظيم له. وكلّ معنى يستفيده قارئ القرآن يزيد في يقينه وتدبّره. وربما كان التضمين من الأساليب التي لا ينتبه إليها العامّة، وهنا يأتي دور طالب العلم في تعلّمه، ثم تقريبه للناس وإظهار جماله وروعته، وهذا لا شكّ من جملة تعليم القرآن (خيرُكم مَن تعلم القرآنَ وعلمه).

فإذا مررت على موضع للتضمين فتوقّف عنده وتعلّمه: ما هو الفعل المضمّن في الفعل المذكور مما يتفق مع حرف الجر، ويناسب السياق؟ وماذا يصبح المعنى الواسع بناءً على ذلك؟ وكيف كان هذا التعبير أبلغَ من كلّ فعل لو ذكر منفردًا؟

ونكثر هنا ذكرَ أمثلة من التضمين، تُجَلّي معناه وأثره في تدبر الآيات، وتفتح الآفاق لقارئ القرآن ليبحث في معاني التضمين فيما يمرّ عليه مما لم نذكره...

﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٧٦].

قال القرطبي: «إن قيل: لمَ وصلْتَ (خلوا) بـ (إلى) وعُرفُها أن تُوصل بالباء؟ قيل له: خلوا هنا بمعنى ذهبوا وانصرفوا»، ويمكن أن نضمّنه معنى سكنوا، فالمعنى إذا انصرف بعضهم إلى بعض، فخلوا بهم وسكنوا إليهم أخذوا يتحدثون هذا الحديث سرًّا فيما بينهم.

﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: ١٨٥].

قال الزمخشري والعز بن عبد السلام: (تُكَبّروا) عُدّي بـ (على) لتضمّنه معنى (الحمد)، فيصير المعنى: لتكبروا الله وتحمدونه على ما هداكم.

﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٢٦].

آلى –بمعنى حلف- يتعدّى بـ (على) ولا يتعدّى بـ (من) ، وتعدّى بها هنا لتضمين معنى امتنع، قال الزركشي: أي يمتنعون عن وطء نسائهم بالحَلِفِ.

وإنّ عدم إدراك التضمين في الآية أدى إلى الإغراب والإبعاد في تفسيرها، يقول ابن هشام: «ولما خفي التضمينُ على بعضهم في الآية ورأى أنّه لا يُقال: حلفت من كذا بل حلفت عليه، قال: (مِن) متعلقة بمعنى (الذين)، كما تقول: لي منك مبرة» وأنت ترى بُعْدَ هذا القول بل وصعوبة فهمه».

﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ [النساء: ٢].

تأكلوا تتعدّى إلى مفعول، ولا تتعدّى بحرف الجرّ، لكنّه قال هنا: «ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم»، فما الذي تضمّنه الأكل؟ ضمّن الطبري (الأكل) معنى (الخلط)، وضمّنها أبو حيان معنى (الضم)، وابن جُزَيّ (الضم والجمع)، فصار المعنى لا تضموا أموالهم إلى أموالكم آكلين لها. وقال الزمخشري: «فإن قلتَ: قد حرّم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم، فلمَ ورد النهي عن أكله معها؟ قلتُ: لأنّهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال -وهم على ذلك يطمعون فيها- كان القبحُ أبلغَ والذمُّ أحقَّ، ولأنّهم كانوا يفعلون كذلك نعىٰ عليهم فعلهم وَسَمّع َبهم، ليكونَ أزجرَ لهم».

﴿وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا﴾ [النساء: ٥].

قال الزمخشري: «اجعلوها مكانًا لرزقهم بأن تتّجِروا فيها، وقال الرازي: وإنّما قال: ﴿فِيهَا﴾ ولم يقل: منها لئلّا يكون ذلك أمرًا بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقًا لهم، بل أَمَرَهم أن يجعلوا أموالهم مكانًا لرزقهم بأن يتّجروا فيها ويثمّروها فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح لا من أصول الأموال. فالمعنى: اتّجروا فيها وارزقوهم من ثمرتها».

﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾ [النساء: ٨٣].

(أذاع) تنصبُ مفعولها ولا تتعدّى إليه، فيقال أذاعَ السرّ، قال الجمل: ضمّن أذاع فعل (تحدّث) فعدّاه تعديته، وقال القرطبي: ﴿أَذَاعُواْ بِهِ﴾ أي أفشوه وأظهروه وتحدّثوا به قبل أن يقفوا على حقيقته. ويمكن أن نضمّنه -أيضًا- معنى: طاروا به.

﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ [النساء: ٩٧].

(تهاجر) يتعدى بـ (إلى) وعُدّي هنا بـ (في)، فضمّن (تهاجروا) معنى (تضربوا).

﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٤٠ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ٤٠-٤١].

(دعا) يتعدّى إلى مفعول به دون حرف جر، فتقول: دعوت الله، وليس دعوت إلى الله (والمقصود الدعاء وليس الدعوة)، فهنا ضمّن (ما تدعون) معنى تلجؤون إليه، كأنّه قيل: فيستجيب دعوتكم ويكشف ما لجأتم إليه لأجله.

﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [يوسف: ١٠٠].

(أحسنَ) يتعدّى بحرف الجر (إلى)، يقال: أحسن إليّ، قال الألوسي: «حَمَلَه بعضهم على تضمين (أحسن) معنى (لَطَفَ) ولا يخفى ما فيه من اللطف»، أي أحسن إليه فلطف به من حيث لم يحتسب.

﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ﴾ [إبراهيم: ٣].

قال العز بن عبد السلام: تضمن (يستحبّون) معنى يختارون ويؤثرون الحياة الدنيا على ثواب الآخرة، وقال الألوسي: «والفعل مُضمّن معنى الاختيار، والتعدية بـ (على) هي لذلك»، أي أنّهم آثروها على الآخرة حبًّا لها وتعلّقًا بها، وكذا في مواضع عدّة من القرآن ﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ﴾، ﴿اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ﴾.

﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا﴾ [الإسراء: ٤٧].

قال الحَوفي: "لم يقل يستمعونه أو يستمعونك، وكان مضمّنًا أنّ الاستماع كان على طريق الهُزْءِ فجاء بالباء ليُعلم أنّ الاستماع ليس المراد تفهّم المسموع. وقال ابن عطية: فكأنه قال: نحن أعلم بالاستخفاف والاستهزاء الذي يستمعون به؛ أي: هو ملازمهم، ففضح اللَّه بهذه الآية سرّهم"

﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: ٦٥].

عُدّي الفعل (اصطبر) باللام على سبيل التضمين، وأصله أن يتعدّى بـ (على)، قال الزمخشري: «فإن قلتَ: هلّا عُدّي اصطبر بـ (على) التي هي صلته، كقوله ﴿وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾؟ قلتُ: لأنّ العبادة جُعلت بمنزلة القرن في قولك للمحارب: اصطبر لقرنك، أي اثبت له فيما يُورد عليك من الشدائد، يريد أنّ العبادة تُورد عليك شدائد ومشاقّ؛ فاثبت لها ولا تَهِن، ولا يَضِقْ صدرك عن إلقاء عُداتِك من أهل الكتاب إليكَ الأغاليطَ، وعن احتباس الوحي عليك مدّة، وشماتة المشركين بك».

﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾ [الأنبياء: ٥٢].

(عَكَفَ) يتعدّى بـ (على) كقوله تعالى: ﴿يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ﴾، ذكر الزمخشري والعُكبري وأبو حيّان: أنّه ضمّن (عاكفون) معنى (عابدون) فعدّاه باللام. وقد يتضمّن أيضًا معنى الصلاة والتقديس المتعدّيين باللام.

﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِين﴾ [الأنبياء: ٧٧].

هذا حكاية عن نوح عليه السلام. قال ابن كثير: قَوْله ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنْ الْقَوْم﴾ أَي (وَنَجَّيْنَاهُ وَخَلَّصْنَاهُ مُنْتَصِرًا مِنْ الْقَوْم). وقيل: منعناه منهم، كقوله ﴿وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ﴾، وقال المرادي: والأحسن أن يُضمّن الفعل معنى (مَنَعْنَاه بالنصر) من القوم؛ ضمّن (ينصر) معنى (يُجِيْرُ ويمنع)، وذكر أبو حيان والعكبري: عُدّي نصرناه بـ (مِن) لتضمّنه معنى نجّيناه بـ نصرناه أو عصمناه ومنعناه. وقال الألوسي: نصرناه من: أي حميناه منهم بإهلاكهم وتخليصه. وقال بعضهم: نصرناه منتقمين من القوم.

وقد يُقال: ما الفرق بين قولنا «نجيناه من القوم» وقولنا «نصرناه من القوم»؟ والجواب: أنّ في الأول النتيجة تتعلّق بالناجي فقط، فعندما تقول نجّيته منهم أي خلّصته منهم، ولم تذكر أنّك تعرّضت للآخرين بشيء، كما تقول نجّيته من الغرق، ولا تقول نصرته من الغرق، لأنّ الغرق ليس شيئًا يُنتَصف منه. أما النصر منهم ففيه جانبان: جانب الناجي وجانب الذي نجي منهم، فالمعنى: أنّك نجيته وعاقبت أولئك، أو أخذت له حقه منهم.

﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: ٦٣].

(خَالَفَ) يتعدّى بنفسه، تقول: خالفه، فحين عُدي بـ (عَنْ) تضمّن معنى صدَّ أو أعرض. وذكر الزركشي والعكبري: تضمّن يخالفون معنى يميلون أو يعرضون أو يعدلون أو ينحرفون أو يزيغون.

وقال الألوسي: أكثر استعمالها بدون (عن) فإذا ذكرت (عن) فعلى تضمين معنى الإعراض، وقيل: على تضمين معنى الخروج: يخرجون عن أمره. ونقل عن ابن الحاجب معنى التباعد والحَيَد أي يحيدون عن أمره بالمخالفة وهو أبلغ من يخالفون.

﴿وَمَا أَنْتَ بِهَادِى الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ﴾ [النمل: ٨١].

ذكر الجَمَل أن قوله: (بهادي العمي): مضمَّن معنى الصرف فعداه بـ (عن). أي ما أنت بهاديهم صارفًا إياهم عن ضلالتهم. وقال الألوسي: و«عن» متعلقة بالهداية باعتبار تضمّنها معنى الصرف. ويمكن تضمين (هادِ) معنى (رادٍّ) أي وما أنت برادِّ العمي عن ضلالتهم. فجمع التضمينُ المعنيين: الصرف والردّ عن الضلالة، والهداية إلى الحق.

﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [القصص: ١٠].

الفعل (تُبدِي) يتعدّى لمفعوله، كقوله (وتخفي ما في نفسك ما الله مبديه)، وقوله «إن تبدوا خيرًا أو تخفوه». قال العز بن عبد السلام: ضمّن (تُبْدِي) معنى تُصَرّح فعُدّي بالباء، وكذلك قال الزمخشري. وقال الزركشي: ضمّن (لتبدي به) معنى: تخبر به أو لتعلن؛ ليفيد الإظهار معنى الإخبار؛ لأنّ الخبر قد يقع سرًّا غير ظاهر، وكذا قال ابن القيم.

﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ﴾ [ص: ٢٤].

قال الزمخشري: تعدّى السؤال إلى المفعول الثاني بـ (إلى)لتضمّنه معنى الإضافة، وكذا قال الألوسي: والسؤال مصدر مضاف إلى مفعوله وتعديته إلى مفعول آخر بـ (إلى) لتضمّنه معنى الإضافة كأنّه قيل: لقد ظلمك بإضافة نعجتك إلى نعاجه على وجه السؤال والطلب، أو ظلمك بسؤال نعجتك مضافة إلى نعاجه.

ويقول د. نديم: ولولا (إلى) -والتي لا يتعدّى بها فعل السؤال- لَـمَا فهمنا معنى الضمّ، ولو قال: لقد ظلمك بضم نعجتك لفسد المعنى لأنّه لم يضمها ولا أضافها وإنّما طلب إليه أن يضمّها إليها، كما قال قبلها ﴿أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾.

﴿إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ [ص: ٣٢].

قال الزمخشري: (أحببت) مضمّن معنى فعل يتعدّى بـ (عَنْ)، كأنّه قيل: أَنَبْتُ حبّ الخير عن ذكر ربي، أو جعلت حبّ الخير مُجزيًا أو مغنيًا عن ذكر ربي.

﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الزمر: ٢٢].

فسّرها الزمخشري على وجهها فقال: مِن ذكر الله: من أجل ذكره، أي إذا ذُكر اللَّه عندهم أو تُليت آياته اشمأزّوا وزادت قلوبهم قساوة، كقوله تعالى: ﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾. ويمكن أن نقدّر تضمين فعل «ضاقت» أو «نفرت» من ذكر الله فكان سببًا لقسوتها.

﴿ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر: ٢٣].

قال أبو حيان: ضمّن (تلين) معنى تطمئن. وقال الزمخشري: فإن قلتَ: ما وجه تعدية (لَانَ) بـ (إلى)؟ قلتُ: ضمّن معنى فعلٍ متعدٍ بـ (إلى)، كأنّه قيل: سكنت أو اطمأنت إلى ذكر اللَّه، ليِّنة غير منقبضة راجية غير خاشية. وقال البيضاوي: والتعدية بـ (إلى) لتضمين معنى السكون والاطمئنان.

﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ [فصلت: ٦].

ذكر العزُّ بن عبد السلام وأبو حيان والزركشي والجمل: أنّه ضمّن استقيموا معنى (وجِّهوا) فلذلك تعدّى بـ (إلى): أي وجّهوا استقامتكم إليه وارجعوا إلى توحيده. وقال البيضاوي: استقيموا في أفعالكم متوجّهين إليه. ويمكن أن نضمّنها معنى (انقاد) أيضًا.

هذا ما تيسر انتخابه من الأمثلة مما يتسع له المقال، وقد عدّها بعضهم أكثر من ٢٥٠ موضعًا في القرآن. ولعلّ القارئ الكريم قد وجد في هذه الأمثلة ما أُشير إليه من الالتفات، وتوسيع المعنى، وإيجاز العبارة، مما يرفع من ذائقته لكلام الله حين يتلوه، ويزيد من معارفه لعلومه من هذا الكتاب العزيز الذي لا تنقضي عجائبه، ولا تبلى درره، بل يقرأ القرآن ابن الخمسين والستين والسبعين فيقف على معانٍ وكأنّه يقف عليها لأول مرة، فسبحان الله ليس كمثله شيء، وليس مثل كلامه كلام.

[1] التضمين هو مذهب البصريين، أمّا الكوفيون فلا يقولون بالتضمين، وإنّما يقولون أنّ حروف الجر تتناوب، ويحلّ بعضها مكان بعض، وهو قول مرجوح، وقد نصر القولَ الأولَ جملةٌ من علماء اللغة والتفسير والشريعة.

جائز على قاعدة أمان اللبس، وقد سقنا كثيراً من الأمثلة المشابهة لهذه. 

نستطيع أنْ نلخّص قضية (التضمين) الآن، ونصل إلى النتائج الآتية:

(1) ما أخرجوه بأنفسهم من التضمين على أنّه متعلِّق بمحذوف، وهذا لا علاقة لنا به. 

(2) ما يقع في المعاني التي يضمّها جنس واحد من المعنى، ولكنّ فيها تمايزاً على نحو أو آخر، تمايزاً لجهة الخصوص، أو العموم. 

(3) ما يقع في المعاني المتقاربة، أو ما يكون فيه المعنى الثاني مفسّراً أو مرادفاً للمعنى الأوّل، وبعضهم يخرج هذا من التضمين أيضاً، ولا يراه منه، إذ ما فائدة مجيء معنيين (هما معنى واحد) على موقع واحد. ننظر كتاب الاقتضاب ص 240 وما بعد، وفي هذا الميدان يقع العديد من شواهد هذه الظاهرة، واعتماداً على هذا وعلى ما سبقه وجّهنا الكثير ممّا يدعى بالأخطاء الشائعة، وكثرة الأخطاء الشائعة في هذا الميدان تؤكّد ولا تنفي أنّها مسألة تقارض. 

(4) ما يقع في المعاني المتعدّدة للكلمة الاحتماليّة أي: تلك التي تأتي لمعنى عام مثل ذلك: (لفت نظره إلى الشيء، وعنه) ((فاللَفت)) بحدّ ذاته يحتمل أن يكون إلى جهة الشيء، أو إشاحة عنه، ومثل ذلك: (رغب في الشيء وبه، ورغب عنه)، وانصرف إليه ،وعنه...

(5) ما يقع في المعاني المتعدّدة. 

(6) ما يكون بسبب اختلاف استخدام الشيء الذي يمكن استخدامه على أكثر من وجه. 

(7) ما يقع بسبب أمان اللبس: وأمان اللبس لا يحدّده الحرف، ولا اللفظ، بل يتحدّد بالسياق، والمعنى المتحصّل منه، وعلى هذا جاءت شواهد كثيرة ، ومتنوّعة، واعتماداً عليه وجّهنا كثير اً من الأخطاء الشائعة.

الخاتمة

التضمينَ، وما أدراك ما التضمين،  ففقد كان لنا فيه رأي جديد فهو ليس ظاهرة واحدة متجانسة، بل ينحلّ إلى أكثر من ظاهرة منها أمان اللبس، والتطوّر اللغوي....، وتوجيه بعض الأخطاء الشائعة التي تعد صوابا إذا ما وجهناها توجيها منصفا....

تعددت الأساليب اللغوية التي استخدمها العربي في كلامه لإصابة القصد منه، وبيان المعنى. وكان أسلوب التضمين أحد هذه الأساليب التي وردت في القرآن الكريم، والحديث الشريف، والتراث الشعري والنثري في عصر الاحتجاج، والعصور اللاحقة.

ولأسلوب التضمين حضوره لدى الأدباء والكتّاب في التعبير عن أفكارهم، وتأليف صورهم ومعانيهم، وعلى أساسه فسّر علماء النحو والبلاغة جانباً مهماً من الدلالات اللغوية بين عناصر التركيب، فوجهوا الإعراب والدلالة الصرفية والعناصر الجمالية وفق مفهومه.

عرفنا أنّ التضمين لغةً هوأنّه إيداع شيء في شيء، بينما اصطلاحاً: فإنّه يكتسب مفاهيم متعددة تأتي تبعاً لتنوع العلوم التي تناولته، واختلاف مباحثها، فهناك التضمين البديعي، والتضمين العروضي، والتضمين البياني، والتضمين النحوي. ومفهوم التضمين أول ما نشأ عند البصريين وكان يعني أن الفعل المذكور قد تجرّد تماماً من معناه الأصلي، واستُعمل دالاً على معنى الفعل المُضَّمن فقط. وهذا ليس من التضمين الذي جرى عليه علماء البيان والنحاة لاحقاً. وعندما تناول ابن جني مفهوم التضمين كانت مقاربته له لا تختلف عما عند البصريين، بيد أن الزمخشري، إن أمكننا القول، كان هو أول من وضّح مفهوم التضمين، إذ خرج به من مجال التأويل النحوي للعبارات، إلى ميدان الإبداع، وعدّه أسلوباً بيانياً، ينطوي على فوائد بلاغية، وبيّن أنه يعني تضمين كلمة معنى كلمة أخرى، تؤدي وظيفتها في التركيب؛ وعنه نقل عامة النحاة والبيانيين والأصوليين من بعده.

وويبنّا أنّه في العصر الحديث أثيرت مسألة التضمين أولاً في مجمع القاهرة، الذي انتهى إلى قرار في هذا الشأن، بعد مناقشات طويلة غلب عليها الأخذ والرد، وولّدت انقساماً واضحاً بين المَجمَعِيين، إذ انتصر فريق لقرار المجمع، وأنكر فريق التضمين، أو طعن في صحة القرار.

يبدو أن التضمين البياني هو قريب من التضمين النحوي، وأن الفرق بينهما يسير، إذ لا يوجد فرق بين نوعين من التضمين، وإنما الفرق هو بين التضمين من جهة، ومجاز الحذف من جهة أخرى. بيد أن هذا التفريق بين نوعين من التضمين هو الذي أوجد الخلاف بين العلماء، وحال دون الوصول إلى نتائج دقيقة. وسبب هذا التفريق بين المفهومين، كما يقول ابن كمال باشا: هو أن الزمخشري قدم توجيهين للتضمين: أحدهما الغرض منه توجيه الإعراب، والآخر الغرض منه توجيه المعنى، ثم جاء بعض علماء البيان لاحقاً وأخذوا تفسيره الذي وضعه لتوجيه المعنى، واعتمدوه لتوجيه الإعراب.

رأى مجمع اللغة العربية أن التضمين قياسي لا سماعي، وحدد له ثلاثة شروط لقياسيته تناول الشرط الأول منها موضوع تحقق المناسبة بين الفعلين، وهذه المناسبة قد تتمثل في عدة أمور أهمها: السببية، والمصاحبة، وأن يكون أحد الفعلين توجيهاً لما نتج عن الآخر، وأن يكون أحد الفعلين هيئة لفاعل الآخر أو مفعوله. في حين انتقل الشرط الثاني الذي وضعه المجمع للحديث عن وجود قرينة تدل على ملاحظة الفعل الآخر، ويؤمن معها اللَبس، ويعدُّ حرف الجر من أشهر هذه القرائن، وأكثرها وروداً. أما الشرط الثالث فهو ملاءمة التضمين للذوق العربي، والحق أن المجمع لم يكن موفقاً حين اعتمد هذا الشرط ضرورة لتحقق قياسية التضمين، فالذوق ليس له قواعد وقوانين كي يُعرف متى يكون الكلام ملائماً، أو غير ملائم. فهو أمر خفي يرتبط بعوامل نفسية، وأخرى لغوية واجتماعية وبيئية وزمانية ومكانية، كما أنه يختلف من فرد إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى.

وللتضمين بطبيعة الحال الكثير من الفوائد الدلالية والبلاغية كان لها الفضل في الرقي بأساليب التعبير، ويمكن حصر هذه الفوائد في ثلاث، هي: الإيجاز، والمبالغة ، والتوكيد، والتوسع في استعمال اللفظ بجعله من خلال التضمين يؤدي مؤدى غيره....

المَرَاجِع

-أدب الكاتب لمحمد بن قتيبة الدينوري

-أزاهير الفصحى في دقائق العربية لعباس أبو السعود

- الاقتضاب في شرح أدب الكتّاب لابن السيد البطليوسي

-الألسنيّة مبادئها وأعلامها لميشال زكريّا

-الإيضاح في علل النحو لأبي القاسم الزجّاجي

- كتاب الخصائص لابن جنّي

- المفصل لابن يعيش الموصلي

-دراسات في العربيّة وتاريخها لمحمّد الخضر حسين

 -الكليّات معجم لأبي البقاء الكفوي

-لغتنا السمحة لمحمّد خليفة الّتونسي

-اللّغة مبناها ومعناها لتمام حسّان 

- المدارس النحويّة لشوقي ضيف

- كتاب المزهر في الّلغة للسيوطي 

-الصاحبي في اللّغة لابن فارس

-الموازنة بين أبي تمّام والبحتري للآمدي

-المجامع العربيّة ،والمصلح العلمي للدكتور إبراهيم بيّومي مدكور.

- معاني النحو الدكتور فاضل السامرائي

- مؤتمر تعريب التعليم الجامعي والعالي، مطبوعات اتحاد الجامعات العربيّة بالقاهرة 1980م.

اللغة في حياتنا

لغة الإعلام بين التوسع والحذف

المقدرة اللغوية عنصر أساسي في الكتابة، وأداة رئيسة يحتاج إليها الكاتب والإعلامي حتى يكون قادرا على امتطاء صهوة الإبداع الكتابي والتحريري ،والأساليب الكتابية متنوعة ( علمية ،أدبية، صحفية)لكن بينها قاسم مشترك هو سلامة اللغة ،وجودة السبك ،ووضوح التعبير ،وجزالة التركيب........

لغة العلم تمتاز بالسهولة والوضوح، ولغة الأدب تمتاز بالصور الجميلة ،لغة الإعلام تمتاز بالجاذبية والإثارة، والاختصار؛ لذلك أفادت من ميزة الحذف والتقديرفي اللغة العربية ؛فأوجدت هذا التركيب الإعلامي المختصر الموفّق ،كما أفادت من الاستغناء عن الموصوف بصفته، فكثيراً ما تختصر لغة الصحافة معتمدة على هذه الميزة، فتحذف الموصوف استغناء بصفته التي صار معروفاً بها في سياقات استعمالية وموضوعيّة محددة، وذلك كقولهم: المركزي يعلِّق التعامل بالروبل ، يريدون: المصرف المركزي، ويقولون : مجموعة السبع، ويريدون مجموعة الدول الصناعية السبع ، ونظائر ذلك كثيرة عندهم حتى صار الحذف على هذا النحو في لغة الصحافة ظاهرة لافتة ومميزة، وقريب من ذلك استغناء لغة الصحافة بالمضاف إليه عن المضاف الذي بات معروفاً لدى قُرَّاء مواد صحفية محددة ، وذلك كقولهم: ترتيب متأخِّر لليد .... ، يريدون ترتيب متأخِّر لكرة اليد في .... ويقولون :بدوري الطاولة، ويريدون بدوري كرة الطاولة ، ويقولون : إياب سلة الثانية ، ويريدون: مرحلة إياب دوري كرة سلة الدرجة الثانية ، ويقولون : زراعة كذا فعلت كذا وكذا، ففي هذه التراكيب، ونظائرها الكثيرة تتضح إفادة لغة الصحافة من ميزة الاستغناء بالمضاف إليه عن المضاف التي غدت ظاهرة لافتة ومميزة للغة الصحافة ، غرضُها الاختصار.‏‏

ومن التراكيب الموفقة في الاختصار والشائعة في لغة الإعلام عامة ، والصحافة خاصة ، حذفُهم العاملَ في شبه الجملة التقليدية المتمثلة بقولهم: (إلى ذلك) التي كثيراً ما تتصدر كلاماً يستأنف الحديث عن موضوع نتحدث عنه من قبل ،فبعد كلام مستفيض مثلاً عن تفجير سفارة ما يستأنف المتحدث الكلام في الموضوع نفسه قائلاً : إلى ذلك عثر المحققون في حادث تفجير السفارة على كذا وكذا، فقولهم:(إلى ذلك) في هذا السياق شبه جملة عاملها محذوف، والتقدير : نضيف إلى ذلك ، وحذف العامل في هذه الحالة مظهر من مظاهر الحرص على الاختصار في لغة الصحافة، والذي يسوِّغ هذا الحذف إضافة إلى وضوح المحذوف المقدَّر أن المراد من هذا التركيب - وهو قولهم إلى ذلك - في الأعم- هو الربط الأسلوبي بين التراكيب ، والتنويع في هذا الربط ، فالمتكلم لم يقصد تماماً من إيراد هذا التركيب إلى بيان معناه النحوي والدلالي بقدر ما يعوِّل عليه في الانتقال من فكرة إلى فكرة ،أو من تركيب إلى تركيب بأسلوب مترابط متين ، بدليل أن معنى جزيئات هذا التركيب الذي نحن بصدد الحديث عنه مفهوم من السياق، وإن لم تذكر هذه الجزيئات ، لذلك يُلْتَزَمُ حذف بعض هذه الجزيئات ؛ لأنّ هذا الحذف فيه شيء من الاختصار المحروص عليه في بعض تراكيب لغة الإعلام ، لكن من المفارقات أن نجد إلى جانب هذا الحرص على الاختصار كثيراً من التراكيب اللغوية الإعلامية التي تعاني التورّم‏‏ ،والتورم غير التضخم الذي يعدّ من التوسع اللغوي، فمن الملاحظ بيسر أن كثيراً من تراكيب صحافة اليوم تشكو غير قليل من التورُّم، ومن معالم ذلك حشوها بعبارات من قبيل (فيما يتعلَّق) و(بالنسبة) و(بخصوص) و(من جهته) و(من جانبه) و(بدوره) فهذه العبارات تعجُّ بها لغة الصحافة مع أنها تفتقر إلى الوظيفة الدلالية، أي :إنها لا تذكر لما تعنيه فعلاً بدليل أنَّ حذفها لا يضير التركيب دلالياً كما سنرى، ويبدو أنَّها حشو يُقصد منه ضرب من التنوع والربط الأسلوبيين، وذلك لكسر رتابة تراكيب متشابهة يكثر دورانها ، وهذا واضح فيما وقفت عليه في إحدى المواد الصحفية من قولهم: (بدوره أكد النائب محمد ... ومن جانبه قال النائب حسن ... ومن جهته أكد المطران ... ومن جهته أكد النائب اللبناني ... من جانبها أكدت القيادة ) فعبارة (بدوره) ونحوها الواردة في النص يمكن أن تسقط دون أن نخسر شيئاً مما يريد المتحدث أن يخبرنا به ، وكذلك حال عبارة (فيما يتعلق) ونحوها في التراكيب الآتية: أمّا فيما يتعلَّق بانقطاعات التيار الكهربائي ... فهي مسألة حساسة- أما بالنسبة لموضوع معادلة الشهادة ... فقد تمَّ بغية التعين - أما بخصوص الوضع .. فقد قرَّر الوزراء كذا وكذا.‏‏..

ومن معالم التورُّم في لغة الصحافة إقحام المضاف ،ونحوه حيث يمكن الاستغناء عنه دلالياً ونحوياً، وهذا باد بوضوح في نحو قولهم : يَنْعُون وفاة فقيدهم - خلال مدة ثلاثين يوماً - يَطْلبُ مَنْحَه سَنَدَ تمليك بديلاً - يطلب إعطاءه بدلاً عنه - تعلن الشركة عن إجراء مناقصة - طلب استدراج عروض أسعار.‏‏

فكلمات(وفاة، مدة، منحه، إعطاء، إجراء، استدراج) كلها في هذه التراكيب ونحوها يمكن الاستغناء عنها ،لأن سقوطها لا يخلّ بالمعنى المراد، ما يعني أنها مظهر من مظاهر التورم في لغة الصحافة ،ومن ذلك عبارة (إلاّ أنَّ) الشائعة كثيراً هذه الأيام في مثل التراكيب الآتية : رغم تضخم ديون بعض الدول ... إلّا أنّ هذه الدول لا تتوقف عن الاستدانة - رغم كلِّ الدعم ... إلا أننا نواجه مجموعة من الصعوبات – مع هذا التناقض ... إلا أنه يؤكد كذا وكذا . فعبارة (إلّا أنّ) في هذه التراكيب، ونظائرها الكثيرة لا يخلّ سقوطها بمعنى التركيب، ما يعني أنها مظهر من مظاهر التورّم في تراكيب لغة الصحافة، إضافة إلى أن توجيهها نحوياً مُشكِلٌ، ما يلقي عليها ظلالاً من الخلل النحوي .‏‏

ومن معالم هذا التورم شيوع الفعل المساعد (تمَّ) مسنداً إلى مصدر الحدث الذي يريدون الإخبار به، وذلك كقولهم: عبر أنشطة يتم إقرارها بالتعاون مع السلطات المحلية ، فالمجيء بالفعل (تمَّ) في مثل هذا التركيب يمكن الاستغناء عنه دلاليّاً ، ونحويّاً باستعمال المبني للمجهول من المصدر المسند إليه الفعل (تمَّ) فيقال في مثالنا السابق: عَبَرَ أنشطة أُقِــــــــــرَّتْ بالتعاون مع السلطات، ولكن لماذا عدلوا إلى الصيغة الممثَّلة بمثالنا ؟ وماذا ترتب على ذلك العدول ؟ أما العدول إليه فبسبب النزوع إلى اليسر والسهولة المتمثّلة بالعزوف عن صيغة المبني للمجهول التي غالباً ما لا تكون ميسرةً بسرعة على المتكلم صياغة ، ولا على القارئ ضبطاً ما لم تضبط بالشكل، أمَّا ما ترتَّب على هذا العدول فتضخم لغوي يتمثّل بزيادة كلمة في هذا التركيب، ويمكن أن نتصور مدى هذا التضخم إذا علمنا أن هذا التركيب كثير في استعمالهم فقد وقفت في صفحة واحدة على استعمال الفعل (تمَّ)على النحو السابق (28) ثمانياً وعشرين مرة ، بل على استعماله(19) تسع عشرة مرة في مادة لا تشغل أكثر من خمس الصفحة .‏‏

ومن معالم التورّم في تراكيب لغة الصحافة الاستعمال المجاني لاسمي الإشارة (ثمة وهناك) الدالين على الظرفية المكانية، فكثيراً ما يستعملان في هذه الأيام غير مقصود بهما الإشارة إلى مكان محدد، وهو ما نلمسه في قولهم : قبل مئة عام لم يكن هناك شخص يتصور وجود طائرات ، فـ(هناك) في هذا التركيب ليس له وظيفة دلالية ذات أهمية ، لأنه لا يشير إلى مكان محدد، بل يشير إلى الكون أجمع ، وهذا تحصيل حاصل، لأنه لابد لوجود الشيء إن وجد من أن يُحَيَّـــــــز مكانياً في مكان ما من هذا الكون، وقد أفضى بهم الإفراط في الاستخدام المجاني للظرفين (هناك) و(ثمة) إلى الجمع بين أحدهما وبين ظرف آخر يقوم بالوظيفة نفسها التي يقوم بها أحد هذين الظرفين، ومن هذا القبيل في لغة الصحافة قولهم: هل ثمة فارق داخلي بينهما - إنَّ ثمة اعتقاداً عند الكثيرين- هناك أمور كثيرة في هذا السهل- إن هناك إجماعاً لدى الأوساط الإسرائيلية. ففي هذه الأمثلة يلاحظ أن الظرفين (هناك) و(ثمة) يمكن الاستغناء عن كل منهما بالظرف الذي ذكر معه لاحقاً، ولتوجيه مثل هذه التراكيب نحوياً نتكلَّفُ حمل الظرف الثاني على أنه بدل من الظرف الأول وهو إما (هناك) وإما (ثمة)، ويساعد على ذلك ما يُلْمَحُ من غموض في دلالة هذين الظرفين على المكان مقارنين بالظرف اللاحق، وإبدالُه من أحدهما إزالةٌ لهذا الغموض، وهي إحدى وظائف البدل في اللغة العربية.‏‏

وهذا التوجيه النحوي يتعذّر لدى جمعهم بين أحد هذين الطرفين، وظرف آخر لا يسمح بحمله على البدليَّة على النحو السابق، كأن يجمع بين الظرفين (هناك) و(ثمة) نفسيهما كما في قولهم: كان هناك دوماً ثمة نوع من حلم الوحدة ، ففي هذا التركيب يتعذر القول إن الظرف (ثمة) بدل من الظرف (هناك) لأن الشيء لا يُبْدَل من نفسه إلا إذا كان في ذلك معنى ما كالتوضيح والتوكيد، وهذا غير متوافر في مثالنا، مما يعني أن التزيُّد في استعمال هذين الظرفين قد يترتب عليه خلل نحوي إضافة إلى التضخُّم اللغوي، والشيء نفسه يُقال إذا ما جيء بأحد هذين الظرفين متأخراً عن الظرف الذي اجتمع وإياه في تركيب واحد كقولهم: في لبنان كان هناك كأس محبة - في إسبانيا كان هناك دورة رباعية . والصواب: في لبنان كان كأس محبة، وفي إسبانيا كان دورة رباعية. ما يعني أن(هناك) في هذين المثالين استعمل بالمجَّان، لأنه لا يضيف شيئاً جديداً إلى ما يفيده الظرف المتقدم عليه، فالظرف المتقدم أقدر على تحديد المكان المقصود، لذا كان حمل (هناك) في هذه التراكيب على البدلية فيه ما فيه من الافتعال والتكلف مما يلقي بظلال الخلل النحوي على هذه التراكيب .‏‏

ومن معالم التضخّم في تراكيب لغة الصحافة الزجّ بالضميرين(هو) ،و(هي) غير مقصود بهما قيمة دلالية، أو توضيحية، أو توكيدية، وهذا جليّ في نحو قولهم : إنَّ أخطر ما يتعرَّض له الشخص المسن هو تدهور صحته، فـ (هو) في هذا المثال ليس له وظيفة دلالية ، كما أنه ليس له قيمة توضيحية أو توكيدية، لأن المعبّر عنه بهذا التركيب غير محتاج إلى ذلك بدليل أنه يمكن حذفه دون أن نخسر شيئاً، فنقول: إنّ أخطر ما يتعرض له الشخص المسن تدهور صحته ، وهذا يعني أن الضمير استعمل هنا بالمجان، وقد غدا الاستعمال المجاني لهذا الضمير تقليداً يقوم المرء به بفعل التأثر بالواقع اللغوي، لا رغبة في أداء وظيفة خاصة به استعمال هذا الضمير بدليل أنهم صاروا يستعملونه استعمالاً يجمع بين التضخم والخلل النحوي وذلك في قولهم : من أشهر الاستعراضات ... هو استعراض بعنوان كذا وكذا - مما خَفَّفَ من آلام صدمة لاعب المنتخب ... هو الاهتمام به - من العوامل المكتسبة هي قلة الحركة .‏‏

فحشر(هو) و(هي) في هذه التراكيب فيه محظوران، أولهما أن الضمير لا يعود على اسم ظاهر متقدم، وليست هذه من الحالات التي يسوَّغ فيها ذلك ، وثاني المحظورين أن الضمير هنا يكوِّنُ مع ما بعده جملة يجب أن تكون خبراً في جملة أخرى ليس فيها ما يُخْبَرُ عنه ، أي ليس فيها مسندٌ إليه، وهذا خلل خطير في البنية، وكل ذلك سببه إقحام(هو) و(هي) فبحذفهما تستقيم التراكيب السابقة ، فيقال مثلاً: من العوامل المكتسبة قلة الحركة.‏‏

وقريب من ذلك إيقاعهم هذين الضميرين وهما ضميرا رَفْعٍ، موقع اسم الحرف المشبه بالفعل في قولهم: لعل مما يجب الإشارة إليه هو تجربته في كتابه الوليمة - إن من العلائم التي تدل على قرب القيامة هي انتهاء مشروع دمَّر، فالضميران (هو) و(هي) في هذين المثالين وقعا حيث يقع اسم الحرف المشبه بالفعل ، وهذا غير جائز وبحذفهما يصبح ما بعدهما اسم متأخراً للحرف المشبه بالفعل، فيستقيم الكلام، أما إبقاؤهما فيتطلب تكلُّف القول: إنَّ اسم الحرف المشبه بالفعل ضمير الشأن المحذوف، ولكن ذلك لا ينفي أن الضمير في هذه الحالة لا يعود إلى اسم ظاهر متقدِّم، وكل ذلك سببه التزيُّد في إقحام هذين الضميرين تزيداً يفضي إلى التضخم اللغوي المكَّلل بظلال من الخلل النحوي، وبعد فقد عرضنا فيما تقدم طائفة من التراكيب الشائعة في لغة الصحافة، تتسم بغير قليل من التورم اللغوي ، لكن العلاقة بين اللغة والإعلام لا تسير دائماً في خطوط متوازية؛ فالطرفان لا يتبادلان التأثير، نظراً إلى انعدام التكافؤ بينهما، لأنّ الإعلام هو الطرف الأقوى، ولذلك يكون تأثيره في اللغة بالغاً الدرجة التي تضعف الخصائص المميزة للغة، وتُلحق بها أضراراً تصل أحياناً إلى تشوّهات تفسد جمالها.

وإذا كان لكلّ علم وفن وكلّ فرع من فروع النشاط الإنساني لغة خاصة به، بمعنى من المعاني، فإن اللغة في الإعلام تختلف، من وجوه كثيرة، عنها في تلك الحقول من التخصصات جميعاً، فهي في موقف ضعف أمام قوة الإعلام وجبروته، فقلما تفرض اللغة نفسها على الإعلام، وإنما الإعلام هو الذي يهيمن على اللغة، ويقتحم حرمها، وينال من مكوّناتها ومقوماتها، فتصبح أمام عنفوانه وطغيانه، طيّعة لينة، تسير في ركابه، وتخضع لإرادته، وتخدم أهدافه، ولا تملك إزاءه سلطة ولا نفوذاً. ولما كانت قوة اللغة تستمدها من قوة أهلها، لأن اللغة تقوى وتزدهر وتنتشر، بقدر ما تتقوّى الأمة التي تنتسب إليها وتترقى في مدارج التقدم الثقافي والأدبي والعلمي والازدهار الاجتماعي والسياسي والحضاري، فإن الوضع الذي تعيشه الأمة العربية الإسلامية في هذه المرحلة من التاريخ، لا يوفر للغة العربية حظوظاً أكبر للبروز وامتلاك شروط القوة، مما يترتب عليه ضعف اللغة وعدم قدرتها على فرض الوجود والتحكم في توجّهات الإعلام، والخروج من دائرة سيطرة نفوذه، والفكاك من هيمنة وسائله، بحيث تصير اللغة تابعة للإعلام، متجاوزةً بذلك الفواصل بين الإصلاح والإفساد. لقد كان الغيورون على لغة الضاد عند ظهور الصحافة في البلاد العربية في القرن التاسع عشر، يحذرون من انحدار اللغة إلى مستويات متدنية، فتعالت صيحات الكتاب والأدباء في غير ما قطر عربي، داعية إلى الحرص على صحة اللغة وسلامتها، وظهرت عدة كتب تعنى بما اصطلح عليه بلغة الجرائد؛ تصحح الخطأ، وتقوّم المعوج من أساليب الكتابة، وتردّ الاعتبار إلى اللغة العربية. وقد أفلحت الجهود التي بذلها أساطين اللغة والرواد الأُول الحريصون على سلامة اللغة السائدة في الصحافة، أو (اللغة السيَّارة)، قياساً على قولنا (الصحف السيَّارة) ،ولكن مع الانتشار الواسع للصحافة الذي تَزَامَنَ مع الازدياد في عدد المتعلمين من خريجي الجامعات والمعاهد والمدارس، وما استصحب ذلك كلّه من هبوط في المستوى الدراسي بصورة عامة، نتيجة لأسباب وعوامل كثيرة، اقتصادية وسياسية وثقافية، انتهى الأمر إلى ضعف اللغة العربية وهيمنة اللهجات العامية المحلية عليها، وسريان ذلك إلى وسائل الإعلام، على نحو يكاد يكون مطرداً، بعد أن لم تعد تجدي صيحات التحذير التي يطلقها علماء اللغة والغيورون عليها، ولم تعد تنفع القرارات والتوصيات التي تصدر عن المجامع اللغوية، أو تلك التي تصدر عن الندوات والمؤتمرات المختصة. وقد ترتَّب على هذا الوضع الذي وصلت إليه اللغة العربية، أن دخلت عصر الإعلام الواسع الانتشار، وهي تعاني من ضعف المناعة، مما أدَّى إلى هجوم مكتسح وغزو جارف لما يطلق عليه (لغة الإعلام)، على اللغة الفصحى، فوقع تداخل بين اللغتين الفصيحة والعامية، تولَّدت عنه لغة ثالثة هجينة ما لبثت أن انتشرت على نطاق واسع داخل الأقطار العربية وخارجها حيث يوجد من يعرف اللغة العربية من الجاليات العربية وممن تعلَّم العربية وهي ليست لغته الأم. واللغة الثالثة هذه التي صارت لغة الإعلام المعتمدة، هي منزلة بين المنزلتين، كما كان يقول أهل العدل والتوحيد في تاريخنا؛ فلا هي اللغة الفصيحة في قواعدها ومقاييسها وأبنيتها وأصولها، ولا هي لغة عامية لا تلتزم قيوداً، ولا تخضع لقياس ولا تسري عليها أحكام. ولكن ميزة هذه اللغة أنها واسعة الانتشار انتقل بها الحرف العربي إلى آفاق بعيدة، ولكن الخطورة هنا، تكمن في أنها تحل محل الفصحى، وتنتشر بما هي عليه من ضعف وفساد باعتبارها اللغة العربية التي ترقى فوق الشك والريبة. وبذلك تكتسب هذه اللغة الجديدة (مشروعية الاعتماد)، ويخلو لها المجال، فتصير هي لغة الفكر والأدب والفن والإعلام والإدارة والديبلوماسية، أي لغة الحياة التي لا تزاحمها لغة أخرى من جنسها أو من غير جنسها.

وبحكم التوسّع في وسائل الإعلام وتعدّد قنواته ومنابره ووسائطه، ونظراً إلى التأثير العميق والبالغ الذي يمارسه الإعلام في اللغة، وفي الحياة والمجتمع بصورة عامة، فإن العلاقة بين اللغة العربية والإعلام أضحت تشكل ظاهرة لغوية جديرة بالتأمل، وهي ذات مظهرين اثنين :

ـ أولهما مظهر إيجابي يتمثل بأن انتشرت اللغة العربية، وتوسَّع نطاق امتدادها وإشعاعها إلى أبعد مدى، بحيث يمكن القول إن العربية لم تعرف هذا الانتشار والذيوع في أي مرحلة من التاريخ. وهذا مظهر إيجابي، باعتبار أن مكانة اللغة العربية قد تعززت كما لم يسبق من قبل، وأن الإقبال عليها زاد بدرجات فائقة، وأنها أصبحت لغة عالمية بالمعنى الواسع للكلمة.

ـ ثانيهما مظهر سلبي يتمثَّل في شيوع الخطأ في اللغة، وفشوّ اللحن على ألسنة الناطقين بها، والتداول الواسع للأقيسة والتراكيب والصيغ والأساليب التي لا تمتّ بصلة إلى الفصحى، والتي تفرض نفسها على الحياة الثقافية والأدبية والإعلامية، فيقتدى بها ويُنسج على منوالها، على حساب الفصحى التي تتوارى وتنعزل إلاَّ في حالات استثنائية. وبذلك تصبح اللغة الهجينة هي القاعدة، واللغة الفصيحة هي الاستثناء. وهذا مظهر سلبي للظاهرة.

وإذا قمنا بالتكييف اللغوي ـ على غرار التكييف القانوني ـ لهذه الظاهرة، لا نعدو الحق إذا قلنا إن اللغة العربية تعاني في هذه المرحلة من (التورم) الذي يُلحق أفدح الأضرار بالبيئة اللغوية، ويفسد الفكر، ويشيع ضروباً من الاضطراب والإرباك والقلق في العقول، علاوة على ما يسبّبه هذا الوضع اللغوي غير المستقر، من فساد في الحياة العقلية للأمة، تنتقل عدواه إلى فساد في معظم المجالات، فتختلط المعاني والدلالات والمفاهيم والرموز في لغة الحوار بين الطبقات المثقفة، وبين قيادات المجتمع، فيؤدي ذلك إلى الغموض والالتباس والتداخل في مدلولات الكلمات، مما ينشأ عنه حالة من (الفوضى اللغوية) التي إن عمّت وانتشرت، أفضت إلى فوضى عارمة في الحياة الفكرية والثقافية، وإلى ما هو أعظم خطراً من ذلك كله.

إن هذا التشخيص للعلاقة بين اللغة والإعلام يمكننا من أن نقف على حقيقة الوضع اللغوي للضاد، في هذه المرحلة الحافلة بالمتغيرات الإقليمية والدولية الحاسمة. وليس من المبالغة في شيء، في ضوء ذلك، قولنا إن هذا الوضع خطر بالمقاييس جميعاً، وبالمعاني كلها، ومن عدة وجوه، ولكن هذه الخطورة لا تمنع من معالجة الخلل وتطهير البيئة اللغوية من التلوث، وإفساح المجال أمام تنمية لغوية يُعاد فيها الاعتبار إلى الفصحى، وتستقيم فيها حال اللغة، بحيث تقوم العلاقة بينها وبين الإعلام على أساس سليم، فيتبادلان التأثير في اعتدال وفي حدود معقولة، فلا يطغى طرف على آخر، بحيث تبقى اللغة محتفظة بشخصيتها، ويظل الإعلام يؤدي وظيفته في التنوير والتثقيف والترفيه النظيف، فيتكامل الطرفان وينسجمان، فتصبح اللغة في خدمة الإعلام، ويصبح الإعلام داعماً لمركز اللغة.

ولكننا لا نيأس من إصلاح اللغة العربية في المدى القريب، فلقد تحقق اليوم ما يعبر عنه (بالتضخم اللغوي)، أو (التوسّع اللغوي) ، وذلك نتيجة لاتساع رقعة الإعلام وتأثيره في المجتمعات، ولانتشار اللغة العربية بوضعها الحالي، على نطاق واسع، وهو الأمر الذي يخدم أحد أغراض التنمية اللغوية بالمعنى الشامل للتنمية المعتمد في الخطاب المعاصر. وليس في التضخم اللغوي خطرعلى اللغة، كما هو الشأن في الاقتصاد، لأن التضخم هنا توسيع لنطاق استخدام اللغة، وإغناء لمضامينها ومعانيها، وتلك غاية سامية من الغايات التي تهدف إليها التنمية اللغوية.

وكما أن للتنمية من حيث هي، سواء أكانت اقتصادية أم اجتماعية أم ثقافية، قواعد وضوابط ومعايير وأهداف مرسومة، فكذلك هي التنمية اللغوية التي لن يتحقق الغرض منها ما لم تتوافر لها الشروط الموضوعية.

ويأتي في مقدمة هذه الشروط التي إن انتفى شرط واحد منها، فقدت التنمية اللغوية الهدف المتوخى منها، ثلاثة شروط، هي:

أولاً : أن تلتزم اللغة القواعد والأبنية والتراكيب والمقاييس المعتمدة التي بها تكتسب الصحة والسلامة، في غير ما تزمت، أو تقعر، أو انغلاق، مع مراعاة المرونة والتكيّف مع المستجدات التعبيرية، فلا تسف، ولكنها تحافظ على طبيعتها وأصالتها ونضارتها.

ثانياً : أن تفي اللغة بحاجات المجتمع، وأن ترتقي إلى المستويات الرفيعة لشتى ألوان التعبير، بحيث تكون لغة متطورة، مسايرة لعصرها، مندمجة في محيطها، معبرة عن ثقافة المجتمع، ونهضته وتطوره، مواكبة لأحواله، مترجمة لأشواقه وآماله.

ثالثاً : أن يُحتفظ بمساحات معقولة بين لغة الخطاب اليومي عبر وسائل الإعلام جميعاً، وبين لغة الفكر والأدب والإبداع في مجالاتها، بحيث يكون هناك دائماً المثل الأعلى في استعمال اللغة، يتطلع إليه المتحدثون والكتاب على اختلاف طبقاتهم، ويسعون إلى الاقتداء به ،ويجتهدون للارتفاع إليه، فإذا عدم هذا المثل الراقي حلَّ محله مثل أدنى قيمة وأحط درجة، لا يربي ملكة ولا يصقل موهبة ولا يحافظ على اللغة، إن لم يسِء إليها ويفسدها.

والشرط الثالث هو من الأهمية بمكان، لأن انتفاء المثل الأعلى في اللغة يؤدي إلى هبوط حادّ في مستوى التعبير الشفاهي والكتابي على حد سواء، ويتسبَّب في شيوع اللهجات العامية التي تنازع الفصحى السيادةَ على الفكر واللسان، لدرجة أنها تصبح مثلاً يحتذى به. وتلك هي الخطورة التي تتهدّد شخصية اللغة العربية في الصميم. وهذه هي النتيجة التي يخشى اللغويون العرب من الوصول إليها، لأنها تمثّل خطراً حقيقياً على الفصحى وعلى ما تمثله من قيم ثقافية رفيعة، هي من الخصوصيات الحضارية للأمة العربية الإسلامية.

وهذه الشروط الثلاثة تتمثل اليوم في (الفصحى المعاصرة)

. واستناداً إلى هذه المرتكزات، فنحن نرى أن الفصحى المعاصرة هي لغة الحاضر والمستقبل، وهي الردُّ الموضوعيُّ على الأخطار التي تتهدّد اللغة العربية، وهي إلى ذلك، التطور الطبيعيُّ للفصحى الأصيلة التي ضعف استعمالها في المجتمع نتيجة للأسباب والعوامل التي ذكرناها آنفاً.

وليس في هذا التركيب : (الفصحى المعاصرة)، المعنى المجرّد الواحد فقط الذي يتبادر إلى الأذهان للوهلة الأولى، وإنما فيه معانٍ كثيرة، منها ربط الفصحى بالمعاصرة، بما يستلزمه ذلك من الانخراط في العصر، والاندماج في تحولاته، والاستغراق في تياراته، وهو الأمر الذي يعني في المقام الأول الأخذَ بالنتائج التي انتهى إليها علم اللغة الحديث، والاستفادة من ابتكارات العلوم المرتبطة بفقه اللغة وعلم الأصوات. وبذلك يكون أحد المعاني التي يوحي بها مصطلح (الفصحى المعاصرة)، أنها لغة تلتزم قواعد العلم الحديث.

إن تزايد نفوذ الإعلام المقروء والمسموع والمرئي، يشكل عاملاً مساعداً لذيوع اللغة العربية وسعة انتشارها ووصولها إلى آفاق بعيدة، تتخطى رقعة الوطن العربي إلى العالم الإسلامي، وإلى مناطق شتى من العالم، خصوصاً وأن الإعلام المرئي يؤدي دوراً بالغ التأثير في تبليغ الرسالة الإعلامية إلى العالم أجمع. وبذلك اتسعت الساحة أمام الضاد على نحو لا عهد لها به من قبل. وفي هذا الامتداد للغة العربية تجديدٌ لها، على نحو من الأنحاء، وتبديدٌ للوهم الذي ساد في فترات سابقة، بأن الضاد لم يعد لها مكان في هذا العصر، وهنا نشير إلى أن المتخصصين ،والتراجمة والإعلام أبواب خلفية تتسلل منها الأخطاء التي تهشم لغتنا الأم الجميلة وتشوهها...!

من أخطر من يسيء إلى لغتنا العربية التراجمة، والإعلاميون ، و أولئك المتخصصون بها ..هؤلاء يظنون أنهم عرفوا كل ما يخص اللغة العربية، فهم يبررون شيوع استخدام الألفاظ الهجينة ،والتراكيب الغريبة الذي ينخر في جسد اللغة ويؤدي إلى تآكلها رويداً رويداً، إذ تتراجع الألفاظ الأصيلة الرصينة ،وتتوارى بينما يفسح المجال للألفاظ والتراكيب الأعجمية التي بتنا نراها مكوناً واضحاً في لغة الحياة اليومية، ومن أخطر الآثار السلبية التي ضربت بها الترجمة جذع لغتنا العربية أنها أسهمت في اختفاء الفروق اللغوية، وطمست ملامح التباين بين الألفاظ، فاستحال الترادف الذي كان أحد فضائل العربية ،وأهم ميزاتها مغبةً ورزئاً عظيماً، فامتزجت معاني الألفاظ ،وغابت محدداتها، وأصبح العموم هو السائد في المحتوى اللغوي. لذا فإنه من المؤسف أن سلب التراجمة الضعاف اللغة واحدة من أهم سماتها ألا وهي سمة الدقـّة.

وكيف يمكن للمترجم أن يختار المفردة الدقيقة، ويعرف الترادف على أنه دلالة عدد من المفردات المختلفة على معنى واحد ومثال ذلك: (الكرم، والسخاء، والجود والبذل)

أو ( يرى، ويبصر، ويشاهد، ويعاين) ، (سرور ،وفرح، وحبور، وسعادة، وبهجة) (خوف، فزع، رهبة، خشية، ذعر، وجل) (الثرى والتراب) وغير ذلك من الألفاظ التي تختلف في حروفها وكتابتها إلا أنها تشير إلى المعنى الواحد لكل مجموعة منها...

لقد أصبحت الترجمة بابا خلفياً تتسلل منه عوامل اللحن والخطأ، لكن ذلك الخطر يتفاقم إذ نجد أن هذه الأخطاء التي تدس في خزانة اللغة العربية تتخذ شكل جواهرها اللفظية نفسه ، بل وربما تبدو ذات بريق ألمع، فيقحم المترجم على اللغة الرائقة متشابهات تجعل غير ذي الاختصاص يحسب أن هذه الألفاظ أو التراكيب عربية أصيلة.

أما الإعلاميون فيعرفون أن العلاقة بين اللغة والإعلام لا تسير دائماً في خطوط متوازية؛ فالطرفان لا يتبادلان التأثير نظراً إلى انعدام التكافؤ بينهما لأنّ الإعلام هو الطرف الأقوى، ولذلك يكون تأثيره في اللغة بالغاً الدرجة التي تضعف الخصائص المميزة للغة، وتُلحق بها أضراراً تصل أحياناً إلى تشوّهات تفسد جمالها. فاللغة العربية تعيش مأزقاً أوضح مايكون في وسائل الإعلام على اعتبار أنها تمثل الواجهة التي تعكس مختلف التفاعلات الثقافية والقيمية في أي مجتمع ، لذلك فإنها تؤدي أخطر الأدوار في الارتقاء باللغة العربية ،أو الحط من شأنها، ذلك أن التأثير الهائل الذي أخذت تلك الوسائل تمارسه في حياة الناس أصبح يضعها في مقدمة العوامل المؤسِّسة والمشكّلة للإدراك العام. ومشكلة اللغة العربية في وسائل الإعلام لها ثلاثة مظاهر، هي: شيوع الأخطاء النحوية في العربية الفصحى المستخدمة، والتي هي ركيكة في الأساس، وشيوع الكتابة بالعامية في المقالات والإعلانات، وفي تقديم البرامج التلفزيونية والإذاعية، وكثرة استخدام المفردات الأعجمية في ثنايا الخطاب الموجه إلى المتلقي العربي، وفي بعض الأحيان تنشر الصحف العربية إعلانات كاملة باللغات الأجنبية، بل إن هناك مجلات عربية وبرامج إذاعية وتلفزيونية تحمل أسماء وعناوين أعجمية مكتوبة بالأحرف العربية.

ومن الباب عينه يدخل المتخصصون ليبرروا تجاوزات الترجمة، والإعلام معا ،ويسيئون للغة اللأم بهذه التبريرات والتسويغات ،فقد قدم د. محمد لطفي اليوسفي (مدرس نقد)ورقة بعنوان "اللغة العربية والإعلام والحب القاتل" في ندوة اللغة والإعلام ، ودارت حول أن وسائل الإعلام لم تخذل اللغة العربية وتسهم في تعطيل قدراتها، بل ظلت منذ نشأة الصحافة العربية وظهور القنوات الفضائية فيما بعد توسّع من دائرة انتشار اللغة العربية وتخدمها. وركز في ورقته على كشف المغالطات التي ما فتئ أصحاب (التصور الصفوي) للغة يكرسونها ويروجونها بحجة الدفاع عن اللغة ،وهم يقومون بتنفير الأجيال من اللغة العربية. ورأى أن تستخدم اللهجات الدارجة في الإعلام فهي لا تؤثر على الفصيحة ، وما درى، وربما يدري أن اللغة من الناحية الشعورية والوجدانية تمثل روح الأمة وهويتها، ومن الناحية الثقافية تمثل الوعاء والوسيلة الناقلة للأفكار والتقاليد والخبرات عبر الأجيال المتعاقبة على تاريخ الأمة، وكانت من الناحية السياسية هي معالم الحدود الحقيقية للرقعة الجغرافية الوطنية ، ومن الناحية السيادية هي أهم أسس الهوية ومكونات الشخصية والوحدة الوطنية، لأي مجموعة بشرية، تعيش في انسجام على وجه الكرة الأرضية.. إذا كانت اللغة كذلك فلأنها تعد دون منازع أفضل وسيلة للتخاطب بين الأفراد، والتعبير عن أفكارهم

ولما كانت قوة اللغة تستمدها من قوة أهلها لأن اللغة تقوى وتزدهر وتنتشر بقدر ما تتقوّى الأمة التي تنتسب إليها وتترقى في مدارج التقدم الثقافي والأدبي والعلمي والازدهار الاجتماعي والسياسي والحضاري، فإن الوضع الذي تعيشه الأمة العربية الإسلامية في هذه المرحلة من التاريخ، لا يوفر للغة العربية حظوظاً أكبر للبروز وامتلاك شروط القوة، ما يترتب عليه ضعف اللغة وعدم قدرتها على فرض الوجود والتحكم في توجّهات الإعلام، والخروج من دائرة سيطرة نفوذه، والفكاك من هيمنة وسائله بحيث تصير اللغة تابعة للإعلام متجاوزةً بذلك الفواصل بين الإصلاح والإفساد.. وهنا أشير إلى أنّه لا داعي للتبرير والتسويغ لما تؤديه الترجمة والإعلام من دور يسهم في اهيار السلطات اللغوية...

ولئن كان هذا الاتساع المطرد والانتشار المستمر للغة العربية يعبّران عن حالة صحية تبعث على الارتياح، فإن التأمل المتأني في الوجه الثاني لهذه الظاهرة، ينتهي بنا إلى الوقوف على الحجم الحقيقي للمشكلة التي تعاني منها اللغة العربية في هذا العصر، والتي ستتفاقم في المستقبل، ما لم نبادر إلى البحث عن الحلول المناسبة. وبيان ذلك أن ثمة نوعاً من الخداع في الظاهرة موضع البحث، لأن لها مستويين؛ أولهما إيجابي، وثانيهما سلبي، فالإيجابي يتمثـّل في انتشار اللغة العربية على أوسع نطاق في هذا العصر، والسلبي يكمن في أن الرضا بمستوى اللغة والركون إلى وضعها الحالي، يورثان حالة من الاطمئنان والقبول والتسليم بالأمر الواقع، مما يتسبَّب في العزوف عن تراث اللغة والزهد في رصيدها على النحو الذي قد يؤدي، إذا ما استمرت الحال على ما هي عليه اليوم، إلى ما يشبه القطيعة مع الثقافة العربية الإسلامية في مصادرها وأصولها. ولتلافي هذه الازدواجية، ولتجاوز هذه السلبية، فإنه لا مناص لنا من اعتماد المنهج التكاملي في تعاملنا مع اللغة، وقوامُه أن تواكب الجهودُ التي نبذلها على مستوى مجامع اللغة العربية في الوطن العربي، وعلى مستويات أخرى في أقسام اللغة العربية بالجامعات العربية، التطورَ الذي تعرفه اللغة بحكم تأثير وسائل الإعلام فيها، وأن يساير هذا العملُ الأكاديميُّ والفني، الوضعَ الحاليَّ للغة العربية، فلا يرتفع عنه، ولا يستهين به، وإنما يتفهمه، ويستوعبه، بحيث لا يتم خارج نطاق الواقع، وإنما يكون جزءاً من هذا الواقع، يتفاعل معه تفاعلاً إيجابياً ينتج عنه ازدهار اللغة العربية وانتشارها، والحفاظ عليها وحمايتها، وتطويرها وتجديدها.

ولهذا المنهج أربع قواعد نُوجزها فيما يلي:

أولاهـا : التعامل مع اللغة على أساس أنها كائن حي قابل للتطور وَفـْق ما يقرره أبناء اللغة، أي: إن تطوير اللغة يأتي من إرادة الناطقين بها، ويصدر عنهم، فهم أصحاب المصلحة في هذا التطوير. فكلمة قصّ  بمعنى قطع تطورت لتصبح حكى وتتبّع الأثر، وكلمة عيش تعني الحياة تطورت لتصبح الخبز والرز..

ثانيتها : إحكام العلاقة بين عملية تطوير اللغة وإصلاحها وتحسينها وتجديدها، وبين المتغيرات التي تعيشها المجتمعات العربية، بحيث تكون عملية التطوير استجابةً لتطور المجتمع ونابعة من واقعه المعيش.

ثالثتها : الانفتاح على المستجدات في العالم، خاصة في مجالات العلوم والتقانة والمعلوميات وعلم اللغة الحديث بكل تفريعاته، والحقول البحثية المرتبطة به، والسعي إلى الاقتباس والنقل والاستفادة الواسعة من نتائج هذه العلوم جميعاً في إغناء اللغة العربي،ة وربطها بحركة الفكر الإنساني.

رابعتها : الاهتمام بالجانب القانوني والتشريعي في عملية التطوير، حرصاً على ضبط مساره والتحكم في نتائجه، من خلال وضع قوانين تصادق عليها الجهات المختصة في الدولة، لفرض هيبة اللغة وإلزام أفراد المجتمع والهيئات والجماعات باحترامها طبقاً للقانون، أسوة بما هو عليه الأمر في بعض الدول الغربية.

إن هذا المنهج الذي ندعو إليه، يلائم عصر العولمة الذي نعيشه، وينسجم مع طبيعة التحديات التي تواجه الضاد، ويتناسب والواقع الثقافي في العالم العربي.

إن لغة الإعلام في عصر العولمة لا تستقر على حال، فهي في تطور مطـّرد، لا يكون دائماً في خدمة اللغة. ولكننا لا نملك أن نعزل أنفسنا عن تيار العولمة، أو ننأى بلغتنا عن (الإعلام العولمي).

ومهما كان حكمنا على العولمة، ومهما يكن رأينا فيها، فإنها تتيح فرصاً كثيرة لكل من يرغب في تطوير لغته، حيث تقدم الصحون اللاقطة والإنترنيت والبريد الإلكتروني والحاسوب، كل ما يستلزم من عمليات الإحصاء والترتيب والتخزين والاسترجاع والتصحيح، والمستقبل مفتوح لما لا يخطر على البال.

ويستلزم الأمر في هذا المجال القيام بالخطوات الآتية:

أولاً : تفعيل المنظومة التربوية تفعيلاً معاصراً، وذلك بتطوير الخطاب اللغويّ، حتى يلبي كل أنماط الخطاب البسيط العلمي، ويغطي كل أساليب التعبير، ويصاحب هذا بالتجديد في متن اللغة استجابة لملاحقة العصر.

ثانياً : بناء الذخيرة اللغوية، وبنوك المعطيات ، ونشر التراث اللغوي العربي في تقنيات حديثة مع توظيف هذا الكم اللغوي الكبير(مشترك ، ترادف ، تضاد)في التنمية اللغوية ،وفهم النصوص وخاصة المشترك اللفظي وما له من أثر في تفسير النصوص ، وفهمها وفق السياق الذي وردت فيه

لأن فهم النصوص اللغوية يعتمد على طبيعة المتلقي وثقافته من جهة، وعلى طبيعة النص اللغوي من جهة أخرى، وفهمه للسياق: فمثلاً جملة: “نحن نريدُ السلامَ“ نفهم نحن منها شيئاً غير ما يفهمه أعداؤنا، وجملة:“تمّت العمليةُ بنجاح“ يفهمها الطبيب فهماً مختلفاً عما يفهمه القائد العسكريّ مثلاً.

كذلك طبيعة النص اللغوي قد تؤدي إلى أكثر من فهم للنص الواحد، دقق النظر في الجملة التالية:

أنتظرك عند بوابة الجامعةِ الجديدةِ

ما الذي تفهمه منها؟ قد تفهم منها

  • أن الجامعة هي الجديدة.
  • وقد تفهم منها أن البوابة هي الجديدة.
  • فطبيعة النص اللغوي أتاحت لك تفسيرين لنص واحد.

وإذا سمعت أحداً يقول:(ما أحسنَ العيونَ)!

فقد يكون المقصود عيون امرأة، وقد يكون عيون الماء أي الينابيع، فطبيعة كلمة (عين) بسبب حملها لأكثر من دلالة أدت إلى أكثر من فهم للنص.

وتزخر كتب الأدب ومجالس العلماء بالحكايا والقصص والطرائف التي يكون مدارها اختلاف فهم النص اللغوي:

من ذلك أن ابنة أبي الأسود الدؤلي قالت ذات يوم:ما أجملُ السماءِ

فقال أبوها: أي بنية، نجومها. فقالت: يا أبت ما أردت هذا، ولكني أردت أن أتعجب من من جمال نجومها، فقال: قولي: ما أجملَ السماءَ. فهذا أثر واضح للغة في فهم النص.

ومن ذلك قصة عتبان الحروري وهو أحد الخوارج عندما قال:

فإن يك منكم كان مروانُ وابنه * وعمرٌو ومنكم هاشمٌ وحبيب

فمنا حُصَينٌ والبُطَين وقُعنُبٌ * ومنّا أميرُ المؤمنينَ شبيــــــبُ

فغضب الخليفة عبد الملك بن مروان ،واستدعاه إلى مجلسه ليقتله، وقال له كيف تقول كذا وكذا، فقال إنما قلت: ومنا أميرَ المؤمنين شبيب على النداء، فأعجبه ،وأطلقه.

والأصل في اللغة أن يكون لكل لفظ معنى يختلف عن الآخر، فكلمة (يد) تختلف في دلالتها عن كلمة(رِجْل) وكلمة (شجرة) تختلف في دلالتها عن كلمة (حجر) وهكذا، لكن لأسباب معينة فقد تصبح كلمتان مختلفتان تدلان على معنى واحد كالسيف والمهنّد، والأسد والليث، وقد تصبح كلمة واحدة تدل على معنيين مختلفين كالمشترك اللفظي ..

ثالثا:ما ألفه الدكتور شوقي ضيف في مجال تيسير اللغة يعد مثالاً يحتذى، فمن جملة الكتب التي أصدرها التي تعدّ قدوة وأسوة حسنة، كتابه (تيسيرات لغوية) الذي جاء فيه بتيسيرات في جوانب من استعمالات اللغة وقواعد العربية، رأى أن يعرضها على الكتاب والقراء، حتى ينحي عن طريقهم ما قد يظنونه إزاء بعض الصيغ انحرافاً عن جادة العربية وقواعدها السديدة ...

إن قسماً كبيراً من مشاكل اللغة العربية يعود إلى أسباب ذاتية، ونقصد بها ضعف همة أبناء الضاد وقصورهم في القيام بواجبهم تجاه لغتهم التي هي لسان دينهم وعنوان هويتهم الثقافية ورمز سيادتهم الحضارية، وتفريطهم في مسؤوليتهم التاريخية في الحفاظ على تراثهم وحماية وجودهم المعنوي.

إن محنة العربية لا تتمثل في حشود الألفاظ والمصطلحات الوافدة من عالم الحضارة المعاصرة، إلى عالمها الذي يبدو متخلفاً، ليس ذلك فحسب، بل إن محنتها الحقيقية هي في انهزام أبنائها نفسياً أمام الزحف اللغوي الداهم، واستسلامهم في مجال العلوم للغات الأجنبية، بحيث قد تكونت في العالم العربي جبهة عنيدة تجاهد للإبقاء على العربية بمعزل عن مجال العلوم والتكنولوجيا، فما دامت صفوة المشتغلين بالعلوم تعرف الانجليزية أو الفرنسية مثلاً، فلا بأس من عزل العربية، بل وقتلها. هذا مع أن هناك شبه إجماع على ثلاثة أمور تشكّل اقتناعاً مشتركاً بين جميع من يُعنى بحاضر اللغة العربية ومستقبلها، ويهتم بمعالجة مشكلاتها، وهي :

ـ الأول : أن العربية قادرة على استيعاب العلوم، ولا يمكن لأي مجتمع أن ينهض ويتحضر إلا من خلال لغته، ومن ثم لن ينهض العرب إلاَّ بواسطة العربية.

ـ الثاني : أن معرفة أكثر المشتغلين بالعلوم للغة الإنجليزية لا ترقى إلى مستوى معرفة أهلها أنفسهم، فهم يستخدمون لغة لا يتقنونها إتقاناً كاملاً، ويهملون لغتهم التي يمكن أن يحققوا بها مستوى أداء أفضل، فيزدادون ضعفاً على ضعف.

ـ والثالث : أن مستوى الطلاب في الكليات العلمية لما يتلقونه بالإنجليزية أو الفرنسية ضعيف، وهو أضعف قطعاً مما لو تلقوا موادهم بالعربية على أيدي أساتذة يحسنونها ..

ويمكن لنا أن نقول، في ضوء هذا كله: إن العيب في أبناء اللغة وليس في اللغة، وإن التنمية اللغوية مرهونة بالجهد الذي نبذله نحن في الواقع وبين الناس، لا في القراطيس، وإن الآثار الإيجابية للعلاقة بين اللغة والإعلام، لا يكون لها نفع أو جدوى أو فائدة، ما لم نقم، كل في موقعه ومجال تخصصه، بما يجب أن نقوم به، من العمل المدروس والممنهج للحفاظ على صحة اللغة وسلامتها، ولتحقيق المزيد من التنمية اللغوية مستغلين الإمكانات الفنية والتقانية الكثيرة التي تتاح لنا اليوم، لتعزيز مكانة لغتنا بالعلم والعمل وتضافر الجهود ووضع الضوابط والتشريعات التي تحول دون انفلات اللغة وتراجعها عن أداء دورها في البناء الحضاري والنماء الاجتماعي. لم يسجل التاريخ يوما أن اللغة العربية كانت في حاجة إلى نصرة كما هي عليه اليوم، فهي تبث حزنها وتشكو هوانها لا من ضعف فيها، وإنما من ضعف وهوان الناطقين بها، فأصحاب العربية الذين نقلوا لغتهم خلال الفتوحات الإسلامية إلى مشارق الأرض ومغاربها ،وأصبحت اللسان الوحيد السائد بين هذه الشعوب أصبحوا اليوم يندبون حظها، ويتباكون عليها، لأنها لم تعد في الصدارة بين اللغات، ولا عند أهلها في سلم الأوليات. مع أنها تمثل كيانا دينيا وقوميا يمثل أغلى ممتلكات الأمة العربية والإسلامية، فهي قرين ذاتنا وهويتنا وثقافتنا وحضارتنا، وبالتالي فالمساس بها أو الإساءة إليها هي إساءة لنا، بل إساءة للإسلام نفسه..ومن هذه المفارقات العجيبة التي لا تليق إطلاقا باللغة العربية ما كشفت عنه منظمة التربية والثقافة ،والعلوم (الألكسو) في تقرير لها عبّرت فيه عن انشغالها لغياب اللغة العربية عما أسمته بـ "العالم الفسيح الذى يمثله الإنترنت". واستنادا إلى هذا التقرير الذي صدر بمناسبة الاحتفال بـ "اليوم العالمي للغة الأم" فاللغة العربية لا تمثل سوى 4 بالمائة من مجموع اللغات الحاضرة على شبكة الإنترنت، مقابل 47 بالمائة للإنجليزية، و 9 بالمائة للصينية، و 8 بالمائة لليابانية، و 6 بالمائة للألمانية، و 4 بالمائة لكل من الإسبانية والفرنسية"لهذا كان لزاما أن نتوجه إلى دراسة تأصيل الكلمات بعمق وجمعها في معجم يؤرخ لها لتنتشر، وتصل إلى العالمية بجذورها الممتدة في كل العصور التاريخية (آخذة ومعطية..)

قضايا أدبية وقراءات نقدية

صورة الوطن النمطية في اللغة والأدب:

بادئ ذي بدء يحسن بنا – ونحن بصدد الحديث عن الصورة النمطية للوطن في الشعر والأدب– أن نقف عند المدلول اللغوي للفظة الوطن ،والصورة الاصطلاحيه لهذه اللفظة لنكون على بينة من المدلولين

لفظة (الوطن) في اللغة: وطَنَ،  يَطِن ، وَطْنًا ، فهو واطِن ، والمفعول  موطون  به ..وَطَنَ  فلانٌ بالمكانِ أقام به ، سكَنه وألِفه واتَّخذه وطَنًا   وَطَن ؛جمع أوطان : بلد الآباء والأجداد . 

مكانُ الإنسان ومقرُّه ، وإليه انتماؤه ، وُلِد به أو لم يولد ، والموطن جمعه مَوَاطِنُ  ، وتعني كل مَقام قام به الإنسان لأَمر فهو مَوْطِنٌ له ، كقولك : إذا أَتيت فوقفت في تلك  المَوَاطِنِ  فادْعُ الله لي ولإخواني .  أما وَطَّن فلها معان منها: وطّنَ فلانًا أنزله سكنًا يُقيم فيه :- وَطَّن  البدوَ : نقلهم من حال البداوة والتِّرحال إلى الإقامة الدَّائمة ، حضَّرهم . 

  • وطَّنَ  نباتًا أو حيوانًا : طبَّعه ، ألّفه على بيئة جديدة . 
  • وطَّن  نفسَه على الأمر / وطَّن  نفسَه للأمر : حَمَلها عليه وهيَّأها لفعله :- ولا خير فيمن لا  يوطِّن  نفسَه ... على نائبات الدهر حين تنوبُ .

والوطن في الاصطلاح الحديث تعني:-القطر الذي ينتسب إليه المرء من حيث جنسيته أو تابعيته ،والوطنية هي:-ارتباط الفرد بوطنه وتعلقه به بوصفه مثوى آبائه وأجداده ،والمعايير الفعالة المعبرة عن الوعي لمفهوم الوطنية تأخذ شكل مظاهرتبين ما أثارت من شعور وطني , وأيقظت من موروثات، وأججت من شعور. ووجهت إلى أهداف بعيدة الأثر في الحياة الوطنية. وكل هذالاينشأ بمعزل عن بيئة الإنسان , ولا عن الحركة الفكرية والاجتماعية,ولا عن التطور العام الناشئ من الاحتكاك , وإنما يأخذ كل هذا ،حتى يبدو لنا في هذه الصورة النابضة المشحونة بهذه الطاقة الدافعة,التى تجمع بين مجد الماضي , وجهد الحاضر، وأمل المستقبل. لذلك كان طبعيا أن يعبر الشعراء والأدباء عن هذه المظاهر المتعلقة بحب الوطن والمتمثلة بالحنين إليه، والتغني به، ويروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عند هجرته من مكة مسقط رأسه: ((ما أطيبَك من بلدٍ! وما أحبَّك إليَّ! ولولا أن قومي أخرجوني منك، ما سكنتُ غيرَك))؛ رواه الترمذي.كلمات قالها - صلى الله عليه وسلم  وهو يودِّع وطنه، إنها تكشف عن حبٍّ عميق، وتعلُّق كبير بالوطن، بمكة المكرمة، بحلِّها وحَرَمها، بجبالها ووديانها، برملها وصخورها، بمائها وهوائها، هواؤها عليل ولو كان محمَّلًا بالغبار، وماؤها زلال ولو خالطه الأكدار، وتربتُها دواء ولو كانت قفارً.، ومن ألوان الدواء لقاءُ المحب بعد الفراق ، أو تحسس، وشمّ أثرًا من آثاره؛ ألم يُشفَ يعقوبُ ويعود إليه بصره عندما ألقَوْا عليه قميصَ يوسفَ؟!  قال الجاحظ: "كانت العرب إذا غزَتْ، أو سافرتْ، حملتْ معها من تربة بلدها رملًا وعفرًا تستنشقه".إنها الأرض التي ولد فيها، ونشأ فيها، وشبَّ فيها، وتزوَّج فيها، فيها ذكرياتٌ لا تُنسى، فالوطن ذاكرة الإنسان، فيها الأحباب والأصحاب، فيها الآباء والأجداد.

قال الغزالي: "والبشر يألَفُون أرضَهم على ما بها، ولو كانت قفرًا مستوحَشًا، وحبُّ الوطن غريزةٌ متأصِّلة في النفوس، تجعل الإنسانَ يستريح إلى البقاء فيه، ويحنُّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجِم، ويَغضب له إذا انتقص".إنه يحب وطنه، وهذا من طبيعة الإنسان، فقد فَطَرَه الله على حبِّ الأرض والديار.

بِلاَدِي وَإِنْ جَارَتْ عَلَيَّ عَزِيزَةٌ       وَأَهْلِي وَإِنْ ضَنُّوا عَلَيَّ كِرَامُ

ولقد أحبَّ الصحابةُ ديارَهم، ولكنهم آثروا دين الله - عز وجل - فقد أُخرجوا - رضي الله عنهم - من مكة، فهاجَرَ مَن هاجر منهم إلى الحبشة، وهاجروا إلى المدينة، خرجوا حمايةً لدينهم، ورغبةً في نشر دين الإسلام.

وما أقساه من خروج وما أشدَّه! لذلك وصف الله الصحابةَ الذين أُخرجوا من ديارهم بالمهاجرين، وجعل هذا الوصفَ مدحًا لهم على مدى الأيام، يُعلي قدرَهم، ويبيِّن فضلَهم؛ قال – تعالى -: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} الحشر: 8.

ولما كان الخروج من الوطن يبعث على كل هذا الحزن، ويُسبِّب كلَّ هذا الألم، قرن الله - عز وجل - حبَّ الأرض في القرآن الكريم بحبِّ النفس؛ قال – تعالى -: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} النساء: 66..

وجعل النفيَ والتغريبَ عن الوطن عقوبةً لمن عصى، وأتى من الفواحش ما يَستحق به أن يُعذَّب ويُغرَّب.

الحبُّ للوطن لا يقتصر على المشاعر والأحاسيس؛ بل يتجلَّى في الأقوال والأفعال، وأجمل ما يتجلى به حبُّ الوطن في الدعاء ،وقد حكى الله - سبحانه وتعالى - عن نبيِّه إبراهيمَ - عليه السلام - أنه دعا لمكة المكرمة بهذا الدعاء، قال الله - تعالى -: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} البقرة: 126.

ودعاء إبراهيمَ – عليه السلام - يُظهِر ما يفيض به قلبُه، مِن حبٍّ لمستقر عبادته، وموطن أهله.

وحب الوطن يعني: الحفاظ على الحق العام، وقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الناس شركاءُ في أمورٍ، لا يجوز لأحد الاستئثارُ بها، أو الاعتداء عليها.

قال - صلى الله عليه وسلم -(الناس شركاء في ثلاثة: في الكلأ، والماء، والنار))؛ رواه أحمد 

وقال: ((وإماطة الأذى عن الطرق صدقة)).

وقال: ((أعطوا الطريق حقه))

وقال: ((اتَّقوا اللاعِنَينِ؛ الذي يتخلَّى في طريق الناس أو ظلِّهم)).

حب الوطن في الإسلام: هو محبة الفرد لوطنه وبلده، وتقوية الرابطة بين أبناء الوطن الواحد، وقيامه بحقوق وطنه المشروعة في الإسلام، ووفاؤه بها.

وحب الوطن في الإسلام: لا يعني: العصبيةَ، التي يُراد بها تقسيمُ الأمة إلى طوائفَ متناحرةٍ، متباغضة، متنافرة، يَكِيد بعضها لبعض، وفي الحديث: ((مَن قُتل تحت راية عُمِّيَّة، ينصر العصبية، ويغضب للعصبية، فقتلتُه جاهليةٌ)).

حب الوطن في الإسلام: لا يعني: اتِّباعَ القومِ أنَّى ساروا، ونصرَهم على كل حال؛ بل يعني: العدلَ والإنصاف.

وحب الوطن في الإسلام: لا يعني: الانفصال عن جسد الأمة ، أو نسيان مبدأ الإنسانية، فلا ننصر مظلومًا، ولا نغيث ملهوفًا، ولا نعين مكروبًا، ما دام أنه ليس في حدود الوطن، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَثَلُ المؤمنين في تراحمهم وتوادِّهم وتعاطفهم مثلُ الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تَداعَى له سائر الجسد بالسهر والحمى))؛ متفق عليه. 

وتتسع دائرة  حب الوطن لتشمل الإحسانَ إلى أهل الأديان الأخرى، وهم شركاؤنا في الوطن، وجاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ألا مَن ظَلَمَ مُعَاهدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ - فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ))

والوطن في الشعر العربي  موجود منذ أن ولد الشعر , وهو يعدّ أوّل وسيلة يلجأ إليها العربيُّ للتّعبير عن مشاعره الجيّاشة سواء أكانت هذه المشاعر فرحاً أم حزناً أو حنيناً.،ولهذا هو الآن عبارة عن مرآة تعكس لنا الحالة الاجتماعيّة والسّياسيّة و غيرها في مختلف الأزمنة , وربّما يعود الفضل لهذه الميزة في معرفتنا الآن لمراحل تطوّر مفهوم الوطن في كلِّ عصرٍ, ولو عدنا للشّعر الجاهليّ نجد أن الوطنيّة في تلك الفترة كانت تظهر من خلال مشاعر الشّوق والحنين عند الشّاعر للديار القديمة التي احتضنته لفترة محددة ثم أرغم على الابتعاد عنها, إما بسبب الحروب أو بسبب الجفاف و القحط ,وأجبر بهذا أيضاً على الابتعاد عن المحبوبة ما كان يترك في قلبه حسرةً و ألماً بسبب هذا الفراق فكان يصوغ أروع القصائد , ومثال هذا قول الشّاعر جرير وهو يتذكر ديار محبوبته فيتمنى لو يستطيع العودة إليها و يقول: 

حيٍّ المنازل إذ لا نبتغي بدلاً        بالدار داراً و لا الجيران جيرانا 

ثم تطوّر مفهوم الوطن في شعر ما بعد الإسلام بسبب الازدهار، و العمران الذي شهدته البلاد العربيّة , وغدا الوقوف على الأطلال جزءاً من النّفس البشريّة العربيّة ,وبات كل مكان يحل فيه الشّاعر هو وطن له,ولعلّ هذا الشعور تعمق بعد خضوع الوطن العربيّ لسيطرة الاستعمار فقد ترك هذا الاحتلال جرحاً نازفاً في قلب و روح كل عربيٍّ,ما جعل كل ارتباطٍ قلبيٍّ يتحول بشكلٍ تلقائيٍ إلى ارتباطٍ قوميٍّ,و بات كلّ انتماء يتشعب ليشمل الشّعب العربيّ كله,وما يؤكّد على هذا قول الشّاعر نسيب عريضة:

 الأهل أهلي و أطلال الحمى وطني       و ساكنو الرّبع أترابي و أقراني

 بعد هذا جاءت مرحلة محاولة تدميرالوطنيّة,فبعد أن تغلغلت أيادي الاستعمار في كلِّ شبرٍ عربيٍّ اضطر أبناء الوطن إلى الهجرة و الابتعاد عن الوطن,ما أدى إلى استعادة مشاعر الوطنيّة في القلوب حتى تحول الوطن في عيونهم إلى جسد إنساني متجردٍ من كل الصفات الماديّة ،و آخذاً مساراً جديداً هو صورة الوطن الجسد لا بل هو أقرب من هذا,فهو الوطن السّاكن في القلب و المجاور للرّوح الذي بقدر ما يقدّم من مشاعر دافئة و حنان للمغترب إلا أنه يعذّبه ببطء لشدّة الحبِّ و الحنين و لوعة الفراق ..

وقد عبّر إيليّا أبو ماضي عن هذا عندما قال : 

زعموا سلوتك ... ليتهم نسبوا إليّ الممكنا 

فالمرء قد ينسى المسيء المفترى ، و المحسنا 

و الخمر ، و الحسناء ، و الوترالمرنّح ، و الغنا 

و مرارة الفقر المذلّ بل ، و لذّات الغنى 

لكنّه مهما سلا هيهات يسلو الموطنا

كم عانقت روحي ربا ك  وصفقت في المنحنى                                                 

من أروع الصفات التي تميز شعرَ الأسى والاغتراب, والترحال بعيدا عن الأوطان , وكلما ذكر الوقوف على الأطلال والبكاء , ذُكر امرؤُ القيس ومعلقتُهُ التي مطلعها :

قِفَا نَبْكِ من ذكرى حبيب ومنزل. بسقط اللوى بين الدخول فحومل

فتوضحَ فالمقراةِ لم يعفُ رسمـها ... لمــا نسجتها من جنوبٍ وشمأل

وتبقى الغربة غربة , والهجرُ هجراً , ويبقى ترابُ الوطن خيراً من الغربة وذهبها , فالإنسان يألف بلاده ويهواها حتى وإن لم تتوافر فيها مقومات الحياة البسيطة , لذلك قال الشاعر:

 بـــلاد ألفناها على كل حالة ... وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسنْ

ونستعذب الأرض التي لا هوا بها ... ولا مـــاؤها عذب ولكنها وطنْ

قيل لأعرابي ماالغبطة ؟ قال : الكفاية مع لزوم الأوطان. وقديما قالت العرب: 

من علامات الرشد أن تكون النفس إلى بلدها تواقة وإلى مسقط رأسها مشتاقه. لذا جاء الشعر العربي طافحا بهذا النوع من الشعر : شعر الحنين إلى الوطن ، ويتذكر ابن الدمينة الشاعر الأموي بلده نجد فيقول : 

ألا ياصبا نجد متى هجت من نجد  لقد زادني مسراك وجدا على وجد 

أإن هتفت ورقاء في رونق الضحى   على فنن غض النبات من الرند 

بكيت كما يبكي الوليد ولم            تكن وأبديت الذي لم تكن تبدي 

وقد زعموا أن المحب إذا دنى       يمل وأن النأي يشفي من الوجد 

بكل تداوينا فلم يشف مابنا         على أن قرب الدار خير من البعد 

على أن قرب الدار ليس بنافع        إذا كان من تهواه ليس بذي ود

أما قيس بن الملوح فيحنّ إلى ساكني ديار الوطن قبل الوطن.... 

أمرّ على الديــــــار ديار ليـلى ... أقبل ذا الـــــــجدار وذا الجـدارا

وما حب الديار شـــــغفن قلبي ... ولكن حب من ســـــــكن الديارا

وكذلك الشريف الرضي وقف على مابقي من ديار , ولما خفيت الديار , وتلفت بعينه فلم يرها , ما كان منه إلا أن تلفت بقلبه يقول :

ولقد مررتُ على ديـارهمُ ... وطلولها بيــد البلى نهبُ

فوقفتُ حتى عجَّ من نصبٍ ... نضوي، ولجَّ بعذليَ الركبُ

وتلفتتْ عيني فمذ خفيتْ ...       عني الديارُ تلفت القــلبُ

وابن الرومي يجد نعماه وسعادته في ربوع وطنه:

ولي وطنٌ آليت ألا أبيعَهُ         وألا أرى غيري له الدهرَ مالكا 

عهْدتُ به شرخَ الشبابِ ونعمة ً  كنعمة ِ قومٍ أصبحوا في ظِلالكا 

فقد ألفَتْهُ النفسُ حتَّى كأنه         لها جسدٌ إن بانَ غودِرْتُ هالكا 

وحبَّب أوطانَ الرجالِ إليهمُ         مآربُ قضَّاها الشبابُ هنالكا 

إذا ذكروا أوطانَهُم ذكَّرتهمُ         عُهودَ الصبا فيها فحنّوا لذلكا

والشاعر زياد الأعجم ذكرته حمامة بوطنه ودياره ،فأعطاها الأمان في عشها،إذ كان المهلب بن أبي صفرة بخراسان فخرج إليه زياد الأعجم فمدحه، فأمر له بجائزة، فأقام عنده أياماً، وفي جلسة شراب مع حبيب بن المهلب في دار له ،وفيها حمامة إذ سجعت الحمامة ؛فقال زياد:

تَغَنَّيْ أنتِ في ذِممِي وعَهدي     وذمّةِ والدي إنْ لم تُطارِي 

وبيتُك فاصلِحيهِ ولا تخافي       على صُفْرٍ مزغَّبة صِغارِ 

فإنّكِ كلَّما غَنَّيْتِ صوتاً         ذكرْتُ أحبَّتي وذكرْتُ داري 

فإما يَقتلوكِ طلبْتُ ثأراً             له نبأٌ لأنك في جِواري

فقال حبيب: يا غلام هات القوس، فقال له زياد: ما تصنع بها، قال: أرمي جارتك هذه، قال: والله لئن رميتها لأستعدين عليك الأمير، فأتى بالقوس، فنزع لها سهماً فقتلها، فوثب زياد فدخل على المهلب فحدثه الحديث، وأنشده الشعر، فقال المهلب علي بأبي بسطام، فأتي بحبيب، فقال له: أعط أبا أمامة دية جارته ألف دينار، فقال: أطال الله بقاء الأمير إنما كنت ألعب قال :أعطه كما آمرك ؛فأنشأ زياد، يقول:

فللّه عينَا مَنْ رأى كَقَضيّةٍ    قَضَى لي بها قَرْمُ العِراق المهلَّبُ 

رماها حبيبُ بن المهلَّب رميةً       فأثبتَها بالسَّهم والسهمُ يغرب 

فألْزَمَهُ عَقْلَ القَتيل ابنُ حُرّةٍ         وقال حبيبٌ إنَّما كنت ألعبُ

فقال زيادٌ لا يروَّعُ جارُه      وجارة جاري مثل جِلدي وأقربُ

قال: فحمل حبيب إليه ألف دينار على كره منه...

وشوقي يجعل فردوسه الوطن، ولابديل ...!:

وطني لو شغلت بالخلد عنه           نازعتني إليه في الخلد نفسي

وهفا بالفؤاد في سلسبيل                  ظمأٌ للسواد من عين شمس

شهد الله، لم يغب عن جفوني         شخصه ساعةً ولم يخلُ حسي

ومهما سكن الإنسان الدور والقصور فإن ذلك لن ينسيه وطنه ،فهذه ميسون بنت بحدل خطبها أحد الخلفاء فتركت وطنها البادية، وجلست معه في المدينة حيث العيش الرغيد ، لكنها لم تطق فراق وطنها فقالت : 

لبيت تخفق الأرواح فيه أحب إلي من قصر منيف 

وكلب ينبح الطراق دوني أحب إلي من قط أليف 

ولبس عباءة وتقر عيني أحب إلي من لبس الشفوف 

وأكل كسيرة في كسر بيتي أحب إلي من أكل الرغيف 

وأصوات الرياح بكل فج أحب إلي من نقر الدفوف 

خشونة عيشتي في البدوأشهى إلى نفسي من العيش الطريف 

فما أبغي سوى وطني بديلا وما أبهاه من وطن شريف. 

فلما سمعها زوجها طلقها لتعود إلى أهلها. 

وتتفتح صورة الوطن الجسد في الشعر العربي ليصبح جسدا شديد القرب ونقطة تفجير مركزيه للخيال الشعري, إنها صورة الوطن المحمول في القلب ,ينسج حولها أبو سلمى شعره , وينشئ علاقة تضاد بين البعد والقرب , الوطن البعيد باغتصابه والقريب في حلمه يقول: 

وطني هل سمعت من خفق قلبي أغنياتي، وهل شجاك النشيد؟ 

قد حملناك في القلوب وكنا          نتناجى , وأنت دان بعيد 

   غير أن التحول الجذري لصورة الوطن في الشعر العربي يأخذ رمز المرأة الوطن فالشاعر هنا يختزل كل  شيء في تجربته وتجربة شعبه والتجربه الوجوديه المشتركة التي تنصهر فيها الذات بالجماعه حيث تشترك فيها الأرض بوصفها جسدا بعيدا والمرأة بوصفها حلما قريبا وتذوب فيه التفاصيل بين المحبوبة والوطن إذ يقول نزار قباني : 

قادم من مدائن الريح وحدي فاحتضني كالطفل يا قاسيون 

احتضني ولا تناقس جنوني ذروة العقل يا حبيبي الجنون 

مستشارك اللغوي ( أخطاء وتصويبات)

أخطاء وتصويبات:

  1. يَقُولُونَ: (سَألتُهُ: عَمَّا إذَا كَانَ نَجحَ؟) وَالصَّوَابُ: (سَألتُهُ: هَلْ نَجحَ؟) والسَّبَب؛ لأنَّ (إذا) فِي هَذَا الأسلُوبِ شَرْطِيَّةٌ، وَلَيسَ فيه الجَوَابُ للشَّرطِ، فَهُوَ- حِينَئِذٍ- خَطَأٌ كَبيرٌ وَدَخِيلٌ عَلَى لُغَتِنَا الفُصْحَى. 
  2. يَقُولُونَ: (أَذَّنَ المغْرِبِ) وَالصَّوَابُ: (أذَّنَ المؤَذِّنُ بِالمغْرِب) أَوْ نَقُولُ: (أُذِّنَ لِصَلاةِ المغْرِبِ) والسَّبَب؛ أنْ نَذْكُرَ الفَاعِلَ المؤَذِّنَ أَوْ نَبْنِي الفعلَ للمَجهُولِ، فَكِلاهُمَا صَحِيحٌ، قَالَ الله تَعَالَى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} ( الحج) فالمؤذِّنُ هُوَ المخَاطَبُ سَيِّدُنَا إبرَاهيمُ. 
  3. يَقُولُونَ: (أُذُنُ المولُودِكَبيرٌ) وَالصَّوَابُ: (أُذُنُ المولُودِكَبيرَةٌ) والسَّبَب؛ لأنَّ أُذُن) تَلزَمُ التَّأنيثَ فِي لُغَتِنَا العَرَبِيَّة، وَتَصغيرُهَا أُذَيْنَةٌ).
  4. يَقُولُونَ: (أَذِنَ لَهُ بِالسَّفَرِ) وَالصَّوَابُ: (أَذِنَ لَهُ فِي السَّفَرِ) والسَّبَب؛ لأنَّ مَعْنَى أَذِنَ بِالشَّيءِ هُوَ عَلِمَ به، قَالَ الله تَعَالَى: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ} (البقرة )أي: كُونُوا عَلَى عِلْمٍ، أمَّا قَوْلنَا: أَذِنَ لَهُ فِي الأمرِ أَبَاحَهُ لَهُ أوْ استَمِعَ مُعْجَبًا.
  5. يَقُولُونَ: (قَطَّعَهُ إرَبًا إرَبًا وَالصَّوَابُ: (قَطَّعَهُ إرْبًا إرْبًا) والسَّبَب؛ لأنَّ كَلِمَةَ (إرْب) لا تُقَالُ إلا للعُضوِ فِي الإنسَانِ أوْ الحيَوَان، وَجَمعُها آرَاب أوْ آرْآب وَقدْ تَأتِي (إرْب) بِمَعنَى الحَاجَة أوْ العَقل أوْ الدِّين أو الدَّهَاء فِي الجُمَل العَرَبِيَّة. 
  6. يَقُولُونَ: (للأسَفِ مَاتَ فُلانٌ) وَالصَّوَابُ: (يَا للأسَفِ مَاتَ فُلانٌ) والسَّبَب؛ لأنَّ هُنَاكَ مَوَاضِعَ لا يَصِحُّ فيه حَذفُ الحَرف (يَا)، مِنْ أشهَرهَا المنَادَى المتَعَجَّب منهُ. 
  7. يَقُولُونَ: (مَا آليْتُ جهدًا) وَالصَّوَابُ: (مَا آلوْتُ جهدًا) والسَّبَب؛ لأنَّ مَعنَى الفعلِ (مَا آلَوْتُ) مَا قَصَّرتُ, أمَّا (مَا آليتُ) مَعنَاهَا: مَا حَلَفْتُ لِذَلِكَ؛ فَالتَّعبيرُ الثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ. 
  8. يَقُولُونَ: (حَدَّثتُهُ عندَمَا وَقفَ أمَامِي) وَالصَّوَابُ: (حدَّثتُهُ عندَمَا وَقفَ تُجَاهِِي أَوْ قُبَالَتِي أوْ إزَائِي) والسَّبَب؛ لأنَّ المرءَ يُحِدِّثُ غَيرَهُ وَهُوَ يُوَاجِهُهُ، أمَّا وَقفَ أمَامِي فَتَعنِي وَقفَ مُديرًا لِي ظَهْرَهُ كَمَا يُديرُ الإمَامُ للمُصَلِّين ولا يُحدِّث إنسانٌ آخَر-عَادةً- إلا إذَا كَانَ أحَدُهُمَا يَرَى الآخَرَ. 
  9. يَقُولُونَ: (سَارَعَ الفَلاحُونَ إلَى وِقَايَةِ مَزْروعَاتِهِم وَإلاَّ لَتَلفَ المحصُولُ) وَالصَّوَابُ: (وإلاَّ تَلفَ المحصُولُ) والسَّبَب؛ لأنَّهُ مِنَ الخًطَأ دُخُولُ اللامِ فِي جَوَابِ (إِنْ)، فَفِي التَّركيب السَّابق إنْ مُدْغَمَةٌ فِي لا وَالمعنَى (إِنْ لَمْ يُسَارِعْ الفَلاحُونَ تَلفَ المحصُولُ).
  10. يَقُولُونَ: (قُلتُ لَهُ أَنْ يَفعَلَ كَذَا) وَالصَّوَابُ: قُلتُ لَهُ لِيَفَعلْ كَذَا) والسَّبَب؛ (أنْ) لا تَقَع بَعدَ لَفظِ القَولِ، وَالصَّوَابُ: التَّعبيرُ الثَّانِي، وَإنْ شِئتَ حَذَفتَ لامَ الأمر مِنَ الفعل فَتُصبح الجُمْلَة (قُلتُ لَهُ يَفعَلْ كَذا أوْ يَفعَلُ كَذَا) بِرَفع الفعلِ يَفعَل) أوْ جَزمِهِ. 
  11. يَقُولُون: (فُلاَنٌ مُتَآمِرٌ) وَالصَّوَابُ: فُلانٌ مُؤامِرُ) والسَّبَب؛ لأنَّ الفعلَ تَآمَرَ وَوَزنُهُ تَفَاعَلَ يَتَطَلَّبُ التَّشَارُكَ بَينَ اثنَينِ أَوْ أَكْثَر؛ َلِذَلِكَ نَقُول: (هُمَا مُتَآمِرَانِ) وَ (هُمْ مُتَآمِرُونَ) أمَّا مَعنَى آمَرَ: شَاوَرَ، وَمنهُ الحديثُ: «آمِرُوا النِّسَاءَ فِي أنفُسِهِنَّ» أي: شَاوِروُهُنَّ فِي تَزويجِهِنَّ.
  12. يَقُولُونَ: (يَنبَغي عَلَيكَ أنْ تَفعَلَ كَذَا، وَالصَّوَابُ: (يَنبَغِي لَكَ أنْ تَفعَلَ كَذَا) والسَّبَب؛ لأنَّ الفعلَ (يَنبَغِي) مُتَعَدٍّ بِحَرفِ الجَرِّ (اللام)، قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} (يس)
  13. يَقُولُونَ: (أسَافَرَ زَيدٌ أمْ عَمرُو؟) وَالصَّوَابُ: أَزَيدٌ سَافَرَ أمْ عَمرُو؟ والسَّبَب؛ لأنَّ المسؤولَ عنهُ هُوَ مَا يَلِي الهَمزَةَمباشرة؛ لذَلِكَ الاستفهَامُ فِي التَّعبيرُ الثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ.

           وللسُّؤَال عنِ الحَال نَقُولُ: أَرَاكِبًا جِئتَ أمْ مَاشِيًا؟

            وللسُّؤَال عَنِ المفعُول نَقُولُ: أَعِنَبًا أَكَلْتَ أمْ تُفَّاحًا؟

            وللسُّؤَال عَنِ الفعلِ نَقُولُ: أَسَافَرَ زَيدٌ أمْ أَقَامَ؟

  1. يَقُولُونَ: (مَا إبرَاهيمُ نَائِمًا بَلْ سَاهِرًا) وَالصَّوَابُ: مَا إبرَاهيمُ نَائَمًا بَلْ سَاهِرٌ) والسَّبَب؛ لأنَّهُ إذَا وَلِىَ خَبَرَ مَا) اسمٌ مَسبُوقٌ بِبَلْ ،أوْ لَكِنْ وَجَبَ رَفعُهُ عَلَى أنَّهُ خَبَرٌ لِمُبتَدَأ مَحذُوفٍ، وَتُعرَبُ بَلْ أوْ لَكِنْ حَرْفَي ابتِدَاءٍ، فَلَوْ عَطَفْنَا عَلَى الخَبَرِ لتسلَّط النَّفي عَليهِ وَفِي ذَلِكَ تَنَاقُضٌ؛ لأنَّ النَّفي سَيَنفي عَنْ إبرَاهيمَ النَّومَ والسَّهرَ مَعًا، والضِّدَّانِ لا يَجْتَمِعَانِ ولا يَرتَفِعَانِ. 
  2. يَقُولُونَ: (البَنْكُ التِّجَارِيُّ، وَالصَّوَابُ: فِي لُغَتِنَا العَرَبِيَّة (المصْرِفُ التِّجَارِيُّ) والسَّبَب؛ لأنّ الفعلَ (صَرَفَ يَصْرِفُ صَرفًا) واسمُ المكَانِ عَلَى وَزنِ (مَفْعِل) لأنَّ الفعلَ الصَّحيحَ مَكسُورُ العَينِ، وَكَذَا التِّجَارِي لاَ التُّجَارِي فَهِيَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى التِّجَارَةِ.
  3. يَقُولُونَ: (بُوفِيهِ الطَّعَامِ، وَالصَّوَابُ: (مَقْصِفُ الطَّعَامِ) حَيثُ أجَازَ مَجمَعُ اللُّغَةِ العَرَبيَّة مَقْصِف، لا بُوفِيه فِي جَدْوَلِهِ رَقْم 25
  4. يَقُولُونَ: (بَرَزَ فُلانٌ فِي العلم بُرُوزًا عَظيمًا) وَالصَّوَابُ: (بَرَّزَ فُلانٌ فَي العلمِ تَبرِيزًا عَظيمًا) والسَّبَب؛ لأنَّ برَزَ مَعْنَاهَا ظَهرَ بَعدَ خَفَاءٍ أمَّا بَرَّزَ) فَاقَ أصحَابَهُ, وهَذاَ هُوَ المعنَى المقصُود فِي الَّتعبير الثَّانِي الصَّحِيح.
  5. يَقُولُونَ: (أضنى أُمَّه البُعَادُ) وَالصَّوَابُ: (أضنى أُمَّه البِعَادُ) والسَّبَب؛ لأنَّ البِعَادَ مصدرُ الفِعْلِ بَاعَدَ، وَالمصْدَرُ الآخَرُ مِنْهَا (مُبَاعَدَة) وَتَعْنِي: البُعْد. 

شاطىء الإبداع

:من شعر المعارضات قصيدة للشاعر الباحث( محمّد اليوسف التميمي)

المعارضات الشعرية هي أحد الفنون الأدبية في الأدب العربي، وهي نوع من المباريات الشعرية التي تجري بين الشعراء، وهي تختلف عن التقليد فهي نوع من إثبات الذات والقدرة على الإبداع في ظل قيود معينة، وتبدأ بأن ينظم شاعر ما قصيدة، فيأتي شاعر آخر، إما للإبداع داخل هذا القالب لأنه أعجبه وإما لنقض معاني هذه القصيدة وأفكارها لأنه يتبنى وجهة نظر أخرى مضادة،

:المعارضة لغة

تُفهم المعارضة في اللغة على أوجة عدّة، ولها الكثير من المعاني، ومنها ما جاء في لسان العرب في مادة عرض: عارض الشيء بالشيء مُعارضة: قابله، وفلان يعارضني أي يباريني. وعارض الشخص في المسير، أي سار، ومشى حياله، وعارض الكتاب بالكتاب؛ أي قابله، وعارض الشّخص بمثل ما صنع ؛ أي أتى بمثل ما فعل.

:المعارضة اصطلاحًا

عُرِّف شعرُ المعارضات اصطلاحًا على أنّه شعر موافق لشعر آخر في موضوع معيّن، ويلتزم فيه الشّاعر النظم على الوزن، والقافية، والبحر، والموضوع نفسه، وذلك التزامًا تامًّا، ويحرص فيه على مضاهاة الشّاعر المعَارَض في شعره إن لم يتفوق عليه، وقد يلجأ الشّاعر إلى هذا النوع من الشّعر عندما يرى في شعر غيره من الشعراء ما يمتاز به من فصاحة، وروعة صياغة، أو صور معّبرة، وغيرها من أمور تثير في نفسه العجب

يا نــَـاقتي جئتِ الديارَ فسلّمي

هذا المكانُ مكانُ سلمى فاعْلِمي

ولقد وقفتُ على رسومِ أحبّتي

لــكنَّ رســـــمَ الـدارِ لم يتكلّمِ

إلاّ الرياحَ تنوحُ في عرصاتِهِ

حتّى غدَت مثلَ الجريحِ المُكْلَمِ

إنّي أطلتُ على المنازِلِ وقفتي

حتّى عرفتُ الدارَ بعْدَ توهُّمِ

ولقد نحَلتُ من الغرامِ فها أنا

يغري نحولي كلَّ نسرٍ قشعَمِ

يا أيُّها الظبيُ المُسدِّدُ رمشَهُ

مـاذا فعلتَ بناسكٍ وبمحـرِمِ

فكأنَّ نارَ الحبِّ لمّا أُضْرِمَت

نــارٌ تلظّتْ في مِنىَ بمخيّمِ

ولقد شكا قلبي العذابَ بهجْرِها

مـــَن قال: إنَّ القلبَ لم يتألّمِ

لو لا الضلوعُ لقلتُ إنَّ بنارِهِ

لــم يبقَ شبرٌ منْهُ لم يتضرّمِ

إنَّ الغـرامَ إذا توقّدَ جمــرُهُ

طارت نوافِذُهُ بقلبِ المغرمِ

قد فقتُ كلَّ العاشقينَ جميعَهُم

مــَن قال إنَّ الفضلَ للمُتَقَدِّمِ؟

دع عنْكَ غيلاناً ومجنونَ الهوى

وكـــــثيّراً قدْ فقتُ كلَّ متيّــــمِ

نرجو السلامةَ من كلامِ خلائقٍ

والمصطفى من قولهم لم يسلمِ

النــاسَ لا تــأمَنْ أَذَاهُم فاعلَمِ

حتّى لو ترقى السماءَ بســلّمِ

لوعاذلي كفَّ الملامَ شكـرتُهُ

لكنَّـــهُ بالصمتِ لم يتكــرَّم

لوأنّها في عصر عنترَ لم يقُلْ

هل غادرَ الشعراءُ ِمن متردَّمِ

إنّـــي فُتنتُ بظبيةٍ خرعوبةٍ

تُجلي الظلامَ بثغرِهَا المُتبسِّمِ

لو أنّها ابتسمت بليلٍ حالكٍ

حلَّ الصباحُ وشمسُهُ لم تُعلَمِ

بيضاءَ فاقت كلَّ ناعمِ ملمسٍ

تُغريِ الحريرَ بجيدِها المتنعّمِ

العقــلُ حاولَ بالفؤادِ تحكّماً

لــكنّهُ بالقلــــبِ لم يتحــكَّمِ

فيما مضى كم ذقتُ من خمر الهوى

مـــِن ريقـــها لا من زجاجــةِ حنتمِ

ماذا أقولُ، وكيفَ أنْصفُ وصفَهَا

والحســـنُ فوقَ وصائِفِ المُتكَلِّــمِ

لولا الهــــوى ما قلتُ عصماءً بها

رمتِ الفـــؤادَ بسهمِها حتّى رُمي

الــخــدُّ مــحمــرٌّ كَنـــارٍ أوقِدَت

والخــالُ في الوجنــاتِ كالمُتفحِّمِ

ولقَد كتمتُ الحبَّ لم أنطِقْ بهِ

لــكنَّ دمــــــعَ العينِ لم يتكتّمِ

كلّ العبادِ على الظروفِ تأقلَمَت

لـــكنَّ هـــذا القلــبَ لم يتأقلَــمِ

قد سالَ دمعي وحشةً لفراقِها

حتّى تلوّنَ مــاءُ دمعيَ بالدمِ

بالله فاسقي عاشقاً من وصلِكُم

كأســـاً سقاكِ اللهُ سُقيا زمْزَمِ

عــودي! وأيمُ اللهِ إنَّ القلبَ لا

ينسى من المعروفِ حبّةَ خمخمِ

سأظلُّ أذكرُكُم وإنْ لم تذكروا

مـــا ظــلَّ شــعرٌ خالدٌ لمتمّمِ

لسنا بأوَّلِ عاشقينِ تفرّقا

وسقتهُما الأيّامُ كأسَ العلقَمِ

لسنا بجنّات الخلودِ نعيمُها

والعيشُ فيها خالدٌ لم يُصرَمِ

يا صفقةً للهجرِ حيكَت خفيةً

بُرِمَت بليلٍ ليتَها لم تُبْرَمِ

إنَّ الحسودَ إذا رآكَ بنعمةٍ

حسَدَ البياضَ ولو بجلدِ الأجذَمِ

قد حال من دون اللقاءِ مهالكٌ

بيدٌ على بيدٍ تمورُ وترتمي

بيدٌ لإبلِ الجنِّ صارت مَبْركاً

للجنِّ لمْ تُحرَمْ ولي لمْ تُحرَمِ

وتنائفٍ ما جاء إنسانٌ لها

الرملُ فيها مثلُ حبّ السمسمِ

إنَّ المطالبَ بعدَها فتجهّزي

يا نفسُ عذراً رسمَ أمِّ الهيثمِ

يا ناقتي سيري فإنَّ غرامَها

في القلبِ لا في المنزلِ المُتهدِّمِ

سيري بحفظ اللهِ في طلَب العلا

لا تستريحي قبل قطفِ الأنجُمِ

هيــــّا اقطعي بيداً تُقطِّعُ أنْفســاً

فمتى سلمتُ من الحتوفِ لتسلمي

فيــها الســـرابُ أراهُ جُنَّ جنونُهُ

لا يستقـــرُّ بموضعٍ كالـــمجرمِ

الآلُ يزدادُ ارتفاعاً في الضُحى

لــولا ارتفاعُ الآلِ لمْ يتنسّـــمِ

من حرِّ شمسٍ كالسعائِرِ لفحُهَا

لو جـــازَ لي شبّهتُهَا بجهــنّمِ

يا آلُ جُد لي من يديكَ بشربةٍ

يــــا آلُ بالظمــآنِ لا تتهكّمِ

إنّي قطعتُ مفاوزاً لا تنتهي

هل من نجاةٍ بعدَها إنّي عمي

بطليــحِ أســـفارٍ تغيّرَ حالُها

بعــدَ السُرى فكأنَّها لمْ تُسنِمِ

فيــها على البيداءِ غلٌّ زائدٌ

تطِسُ الإكامَ بوَخْذِ خُفٍّ ميثمِ

فـــي عينِــها شرٌّ كأنَّ بعينِهَا

طـــلاّبُ ثــــأرٍ همُّهُ بالمنقـَـمِ

جابَتْ بي الصحراءَ بنتُ نجائبٍ

عيديّـــةٌ والفــحلُ ليــسَ بمُبْهَــــمِ

أتعبتُ في طلبِ المعالي ناقتي

فشكت إليَّ فقلتُ :لا تتظلّمي

يــا أيّها الظبيُ الملثــّمُ قل لنا

مــــاذا فعلتَ بفارسٍ متلثّمِ؟

قد غيَّرتْ شمسُ الهواجِرِ لونَهُ

حتَّى غدا باللونِ مثلَ الأسحَمِ

إنّي إذا الرعديدُ هابَ كتائِباً

أقدمتُ إنْ أحجَم، ولم يتقدّمِ

يا أيُّها الليثُ الذي في غابِهِ

مــــاذا تقولُ لباسِلٍ مُتعــمّمِ

ليثٍ لبائِـــدُهُ عمامةُ رأسِــهِ

يغشى الوغى وإذا غشى لم يندمِ

عوّدت نفسي ما ترى فتعوّدت

والنفسُ مثلُ الطفلِ إنْ لم تُفطَمِ

النفس إنْ جرّأتَها تجرؤْ وإنْ

عوّدتَها تركَ الوغى لم تقدمِ

عوّدتُ نفسي أن تكونَ فأصبحت

رغم الأنوف، وأنفُها لم يُرْغَمِ

فالصبرُ من شيمِ الرجالِ وهمّتي

هرمَ الزمانُ ورأسُها لم يهرَمِ

لا تعجبوا من شدّتي وجلادتي

إنّي إلى عليــــــــا تميمٍ أنتمي

واللــهِ لم أذخَر لمجدٍ حاجةً

إنَّ الكريمَ بهِ المكارمُ تحتمي

الحــرُّ يوفي كلَّ شــيءٍ حقَّــهُ

يعطي الحقوقَ، وحقُّهُ لم يُهْضَمِ

إنـــّي إذا بادرتُ يومــاً مطلباً

عــــارٌ على مثلي إذا لم يُتممِ

صادمتُ يا سلمى الجبالَ بمنكبي

فصدَمتُــها، وكأنّني لم أصدمِ

ولقد دخلتُ على الطبيبِ فقالَ لي:

فيـــــكَ الشقيقةُ يا مُحمّـــدُ فاعلمِ

من نقــصِ نومٍ قلتُ :من طلبَ العلا

ســـَــهِر الليالي قد أجبتُكَ، فاحْكُمِ

إمّـــــا أُحَقّـــقُ غايــــــةً مرجوّةً

أو أنْ تُوارى في الكواكبِ أعظُمي

مسألة بلاغيّة

الاحتباك في اللغة والبلاغة

في اللغة:

 الحَبْك معناه: الشدُّ والإحكام، وتحسين أثر الصَّنعة في الثوب، فحَبْكُ الثَّوب سدُّ ما بين خيوطه من الفُرَج، وشدُّه وإحكامُه، بحيث يَمنع عنه الخلل، مع الحسن والرَّونق، وبيانُ أخْذِه منه مِن أنَّ مواضع الحذف من الكلام شُبِّهت بالفُرَج بين الخيوط، فلمَّا أدركَها النَّاقد البصير بِصَوغه الماهرِ في نَظمه وحَوْكِه، فوضَعَ المحذوفَ مواضِعَه كان حابِكًا له، مانعًا من خللٍ يَطرُقه، فسدَّ بتقديره ما يَحصل به الخلل، مع ما أكسبه من الحُسن والرونق....

ويقال : حبَكَ الثوبَ، وحَبَّكَه، واحْتَبَكَهُ: إذا أجاد نَسْجه وأتقنَه، وحَبكَ الحبْلَ: إذا شدَّ فتله، وحبَكَ الثوب: إذا ثنَى طرفَه وخاطه.

في المصطلح:

قال الجرجانِي: الاحتِباك هو أن يَجتمع في الكلام متقابِلان، ويُحذف من كلِّ واحدٍ منهما مُقابِلُه؛ لدلالة الآخَر عليه، كقوله":عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءًا بَارِدَا ؛أي علفتها تبنًا، وسقيتُها ماء باردًا. وفي كتاب "الكليات" لأبي البقاء الكفوي:

الاحتباك هو من الحَبْك الذي معناه الشدُّ والإحكام، وتَحسين أثر الصَّنعة في الثَّوب، والاحتباك من ألطَفِ أنواع البديع وأبدَعِها، وقد يُسَمَّى حذْفَ المقابل، وهو أن يُحذف من الأول ما أُثبت نظيرُه في الثاني، ومن الثاني ما أُثبت نظيرُه في الأول؛ كقوله تعالى: ﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأحزاب: 24]؛ فلا يعذِّبَهم، وكقوله تعالى: ﴿ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ ﴾ [آل عمران: 13].

سمّى العلماء القدامى الاحتباك الحذفَ المقابلي ، ومنهم السيوطي والزركشي وذكَره الزَّركشيُّ في "البرهان" ،وأفرده بالتصنيف من أهل العصر العلاَّمةُ برهان الدين البقاعيُّ، قال الأندلسي في "شرح البديعية": من أنواع البديعِ الاحتباكُ، وهو نوعٌ عزيز، وهو أن يُحذف من الأوَّل ما أُثبت نظيرُه في الثاني، ومن الثاني ما أُثبت نظيره في الأول.

وقال  السيوطي عن الاحتباك  أيضا: "هو فنٌّ عزيز نفيس، وقد جَمَعتُ فيه كتابًا حسَنًا، ذكَرْتُ تعريفه، ومأخذه من اللُّغة، وما حضرني من أمثلته من الكتاب العزيزِ، وكلامِ الفقهاء، وسمَّيتُه: الإدراك لفن الاحتباك" وهو نوعٌ لطيفٌ، ولَم نرَ أحدًا ذكَره من أهل المعاني والبيان والبديع، وكنت تأمَّلتُ قولَه تعالى: ﴿ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 13]، والقولين اللَّذين في الزمهرير، فقيل: هو القَمر في مقابلة الشَّمس، وقيل: هو البَرْد، فقلتُ: لعلَّ المراد به البَرد، وأفاد بالشمس أنَّه لا قمر فيها، وبالزمهرير أنه لا حرَّ فيها، فحذف مِن كلِّ شقٍّ مُقابِلَ الآخَر، وقلت في نفسي: هذا نوعٌ من البديع لطيف، لكنِّي لا أدري ما اسْمُه، ولا أعرف في أنواع البديع ما يُناسبه، حتَّى قادني بعضُ الأئمة الفضلاء [يقصد شيخَه البقاعيَّ] أنَّه سمع بعض شيوخه قرَّر له مثل ذلك في قوله تعالى: ﴿ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ ﴾ [آل عمران: 13].

ثُمَّ وجد الباحثون هذا النوع بعينه مذكورًا في "شرح بديعية أبي عبدالله بن جابر" لرفيقه أحمد بن يوسف الأندلسيِّ، وهما المشهوران بالأعمى والبَصير التطيلي، قال مما نصُّه: "من أنواع البديع: "الاحتباك" وهو نوعٌ عزيز، وهو أن يُحذف من الأول ما أُثبت نظيره في الثَّاني، ومن الثاني ما أثبت نظيرُه في الأول، كقوله تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ ﴾ [البقرة: 171]؛ التَّقدير: مثَلُ الأنبياء والكفَّار كمثل الذي ينعق والذي ينعق به، فحذف من الأوَّل: الأنبياء؛ لدلالة الذي ينعق عليه، ومن الثاني: الذي ينعق به؛ لدلالة الَّذين كفروا عليه..."[1].

أمثلة قرآنية: كقوله تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ ﴾ [البقرة: 171]؛ الآية، التقدير: ومَثَلُ الأنبياء والكفار كمثل الذي ينعق، والذي ينعق به، فحذف من الأوَّل الأنبياء؛ لدلالة "الذي ينعق" عليه، ومن الثاني الذي ينعق به؛ لدلالة "الذين كفروا" عليه. وقولِه: ﴿ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ ﴾ [النمل: 12] التقدير: تَدْخُلْ غير بيضاء، وأخرِجْها تخرُجْ بيضاء، فحذف من الأول "غير بيضاء"، ومن الثاني "وأخرِجها". وقال الزركشيُّ: هو أن يَجتمع في الكلام متقابلان، فيحذف من كلِّ واحد منهما مُقابِلُه؛ لدلالة الآخر عليه؛ كقوله تعالى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ﴾ [هود: 35]؛ التقدير: "إن افتريتُه فعليَّ إجرامي، وأنتم بُرَآء منه، وعليكم إجرامُكم، وأنا بريءٌ مما تجرمون". وقوله: ﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأحزاب: 24] التقدير: "ويعذب المنافقين إن شاء فلا يتوب عليهم، أو يتوب عليهم فلا يعذِّبهم". وقوله: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ ﴾ [البقرة: 222]؛ أيْ: حتَّى يَطْهُرن من الدَّم، ويتطهَّرن بالماء، فإذا طَهُرن وتطهَّرن فأْتُوهن.

وقوله: ﴿ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ﴾ [التوبة: 102]؛ أيْ: عملاً صالِحًا بسيِّئ، وآخر سيِّئًا بصالح ، ومن لطيفِه قولُه: ﴿ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ ﴾ [آل عمران: 13]؛ أي: فئةٌ مؤمنةٌ تُقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرةٌ تقاتل في سبيل الطاغوت، وفي "الغرائب" للكرماني: في الآية الأُولى التقدير: "مثل الذين كفروا معَك يا محمَّد كمثَلِ النَّاعق مع الغنم"، فحذف من كلِّ طرَفٍ ما يدلُّ عليه الطرفُ الآخر، وله في القرآن نظائر، وهو أبلغ ما يكون من الكلام؛  قول الله - عزَّ وجلَّ - في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول): ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [آل عمران: 13].

نُلاحظ في هذه الآية حَذْفًا مِنَ الأَوَائل؛ لدلالة ما في الأواخر، وحذْفًا من الأواخِرِ؛ لِدلالَةِ مَا فِي الأوائل، وهذا من بدائع القرآن، وإيجازِه الرائع. إنَّ إبراز المَحاذيف يتطلَّب منا أن نقول: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ ﴾ مُؤْمِنَةٌ ﴿ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ﴾ فئةٌ ﴿ أُخْرَى كَافِرَةٌ ﴾ تُقَاتِلُ فِي سبيل الطَّاغوت ﴿ يَرَوْنَهُمْ... ﴾ إلى آخر، فتحقَّقَ "الاحتباكُ" بدلالة ما في الأوائل على المَحذوف من الأواخر، ودلالة ما في الأواخر على المحذوف من الأوائل. وقول الله - عزَّ وجلَّ - في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول): ﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 102].

قالوا: أيْ: خَلَطُوا عَمَلاً صَالحًا بِسَيِّئ، وعملاً آخَرَ سيّئًا بصالح.

﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا ﴾؛ أيْ: جَمَعُوا جمعًا مختلطًا أَعَمْالاً مختلفة ﴿ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ﴾، والمعنى: أنَّهم يعملون عملاً صالحًا، ويعملون بعده عملاً سيِّئًا، وهكذا دواليك، فهذا المعنى التتابُعي الذي يَجمع في صحائفهم خليطًا غير متجانس لا يؤدِّيه تقدير: خلطوا عملاً صالحًا بسيِّئ، وعملاً آخر سيِّئًا بصالح.

قول الله - عزَّ وجلَّ - في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) حكايةً لَما خاطب به موسى - عليه السَّلام - عند تكليمه: ﴿ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ﴾ [النمل: 12]؛ التقدير: ﴿ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ ﴾ تَدْخُلْ غَيْرَ بيضاء، وأَخْرِجْهَا ﴿ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ﴾، فدلَّ لفظ "بيضاء" في الأواخر على عبارة "غير بيضاء" المحذوفة من الأوائل، ودلَّتْ عبارة: "وَأَدْخِلْ" في الأوائل على عبارة "وأخرِجها" المحذوفة من الأواخر، فتمَّ الاحتباك.

أمثلة شعرية:

كَمْ عَمَّةٍ لَكَ يَا جَرِيرُ وَخَالَةٍ     فَدْعَاءَ قَدْ حَلَبَتْ عَلَيَّ عِشَارِيفَدْعاء" صفة لـ "خالة" و"لعمَّة" مجرورًا؛ أو منصوب لِمَا ذكَرْنا، ولها صفةٌ أخرى مُماثلة لصفة "عمة" المذكورة معها؛ والتقدير: كم عمَّة لك فدعاء، وخالة لك فدعاء؛ فحذف من كلِّ واحد مِثلَ ما أثبت في الآخر؛ وهذا ما يُسَمَّى في علم البديعِ: الاحتِباك.

أمثلة نثرية:

من "نَزْع الخافض في الدَّرس النحوي" للأستاذ حسين بن علوي بن سالم الحبشي: قول العرب: "راكبُ الناقةِ طليحان"، لا يطابق الخبَرُ فيه المبتدأ؛ لذا خرَّجه النَّحويُّون على أوجهٍ:

  • تقدير مضاف في موقع الخبَر قام المضافُ إليه مقامه، والتقدير: راكبُ الناقة أحدُ طليحين.
  • تقدير معطوف على المبتدأ؛ أيْ: راكب الناقة والناقة طليحان، وهو الأظهر؛ اكتفاءً بذكر الناقة عن أن يذكرها مرة ثانية. إنَّه من باب الاحتباك؛ وذلك بأن يُحذف من الأول ما أُثبِت نظيرُه في الثاني، ومن الثاني ما أُثبِت نظيره في الأول، والتقدير: راكب الناقة طليح، وهما طليحان، وفيه حذفٌ كثير، وتقليل المقدَّر ما أمكَن أولَى.

أبواب المجلة

Scroll to Top