العدد الثالث

أبواب المجلة

افتتاحيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

افتتاحيّة

هذا العدد الثالث من مجلتنا الغرّاء التي عرف من اطلع عليها أن غرضها خدمة اللغة العربية  الشريفة، ومن يتحدّث بها في أصقاع الأرض، والأمم التي تلهج بها ، محافظة على خطتها لا تحيد عنها قيد شعرة، نثابر على متابعة طريقنا بلاضجر ، ولاوناء، غير مبالين بالتعب والسهر ليتحقق الهدف، ليس لنا غاية أخرى سوى الإعلاء من شأن لغتنا السمحة التي نتشرف بخدمتها ،والانتماء إليها،، ونشكر الشكر الجم أولئك الذين آزرونا في تحبير مقالاتهم، وأبحاثهم بلا منّ، ولاتململ. ويتضمن هذال العدد موضوعا مهما في حياتنا( اللغة والقانون) فالقوانين ما هي إلا مجموعة من القواعد التشريعية تصاغ باللغة وتظل محكومة بها وبضوابطها،، فالكلمات هي الأدوات الأساسية في القانون، والعناية باللغة في الأحكام القضائية تصبح مهمة أهمية الحقيقة نفسها ؛لأن الحقيقة في الأحكام يعبّر عنها باللغة بألفاظها ودلالاتها ،كما تضمن  العدد ظاهرة الاقتراض بين اللغات ،  فقد تأثرت العربية بغيرها من اللغات، وأثرت فيها، ولعل الفارسية، والتركية من أكثر اللغات التي أخذت من العربية، وأعطتها لعوامل كثيرة ، والعيون مرآة النفوس تعكس مافيها بلا زيف , حتى إن حاول أصحابها غير ذلك هي بكل أشكالها , وألوانها وأحجامها.. محيط صاخب ,ولكنه شفاف رقيق تستطيع أن ترى أعماقه, وكنوزه كما تستطيع أن تكتشف جموحه , وتقلبه , وصخبه , وغدره , وحبه .. إنها (الترمومتر )الصادق والواضح والصريح لقياس مشاعر الإنسان الحقيقية، فلغة العيون أكثر بلاغة , وأكثر صدقا من لغة اللسان ,تفصح عن أسمى المشاعر ,كما تفصح عن أبغضها . وكم من عيون تسطو عليك فتحسبها طلقات رصاص ,أوأشعة ليزر تفصح عما يدور بنفس صاحبها وإن أخفت ,  فقد رصد الأدب وعالمها الغريب ومافيه من تناقضات وأسرار...كما أنّنا هنا نجد باباً يُفتح على الإبداع لنستمتع بما جادت به أقلام المبدعين من شعراء وروائيين....

بلسان مبين

أسلوب الاستفهام في لغة القرآن الكريم

الاستفهام لغةً: معناه طلب الإفهام، و الإفهام هو طلب الفهم ،ومرادف كلمة استفهام هو الاستعلام أو الاستخبار.

أمّا الاستفهام اصطلاحاً: فهو أسلوب أو تركيب لغوي يستخدمه السائل لمعرفة شيء كان يجهله أو على غير علم بهذا الشيء.....

وهو أسلوب بلاغي يفيد طلب معرفة شيء لم يكن معروفًا لدى السائل ،أو المستفهم، ويكون باستخدام أداة خاصة للاستفهام، ومن أهم أدوات الاستفهام: (الهمزة، هل، ما، ماذا، لماذا، مَنْ)، وغيرها، وقد ورد هذا الأسلوب في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، وأحيانًا يكون الاستفهام حقيقيًا، وقد يكون بلاغيًا مجازيًا يخرج لأغراض أخرى.

وأنواع  الاستفهام :حقيقي يكون الاستفهام حقيقيًا بمعنى أنه يتطلب إجابة أو معرفة شيء يجهله السائل، ويحتاج إلى إجابة، ومن الأمثلة عليه: كم عمرك؟ مَن ضرب الولد؟ وغيرها، أمّا في القرآن الكريم فالاستفهام لا يأتي حقيقيًا؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- لا يستفهم عن شيء من عباده وخلقه، فغرض الاستفهام في القرآن يكون بلاغيًا مجازيًا يراد به أغراض أخرى... الاستفهام البلاغي المجازي قد يخرج الاستفهام عن معناه الحقيقي إلى أغراض بلاغية مجازية أخرى تعرف من خلال السياق أو الموقف الذي ورد فيه السؤال، وفائدته البلاغية هي إعطاء الكلام حيوية وزيادة الإقناع والتأثير، وإثارة السامع والقارئ، وأهم هذه الأغراض ما يأتي:

  • استفهام التوبيخ مثل: قوله تعالى: "أتدعون بعلًا وتذرون أحسن الخالقين." ففي هذه الآية يراد من الاستفهام توبيخ المخاطبين بسبب دعوتهم لإله غير الله عزّ وجل. وقوله تعالى: "ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها." وهنا الغرض من الاستفهام التوبيخ لترك الهجرة في الأرض من أجل إقامة شرع الله فيها.
  • استفهام النهي ويراد بهذا الغرض النهي عن القيام بأمر ما، ومن الأمثلة عليه ما يأتي: قوله تعالى: "أتخشونهم." بمعنى أنه ينهاهم عن خشية غير الله. وقوله تعالى: "ما غرّك بربّك الكريم." بمعنى النهي عن الغرور.
  • استفهام الدعاء يكون الغرض منه الدعاء وطلب شيء ما من الله، ومن الأمثلة عليه: قوله تعالى: "أتهلكنا بما فعل السفهاء منا." فغرض الاستفهام من الآية دعاء الله بعدم الهلاك. وقوله تعالى: "أتجعل فيها من يفسد فيها." فالغرض هو الدعاء بألا يجعل الله في الأرض من يفسد فيها.
  • استفهام التعجب يأتي هذا النوع من الاستفهام بقصد التعجب من فعل أو شيء معين، مثل ما يأتي: قوله تعالى: "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم." فيتعجب من الكفر بالله وهو الذي خلقهم وأحياهم بعد أن كانوا أمواتًا.
  • استفهام العتاب يقصد من استخدامه اللوم والعتاب، مثل ما يأتي: قوله تعالى: "ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله." فهنا يعاتب ويلوم المؤمن بسبب البعد عن الله.
  • استفهام النفي يراد منه نفي شيء مثل ما يأتي: قوله تعالى: "أفأنتَ تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين." بمعنى لا تكره أحدًا على الإيمان.
  • استفهام التكثير يراد به الدلالة على الكثرة، مثل ما يأتي: قوله تعالى: "وكم أرسلنا من نبي في الأولين." بمعنى كثرة ما أرسل الله من الأنبياء.
  • استفهام التسوية يراد به التسوية بين أمرين، مثل ما يأتي: قوله تعالى: "سواء عليهم سواء أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون." بمعنى الإنذار، وعدمه سواء؛ لأنهم لا يؤمنون.
  • استفهام طلبي يراد به الأمر والطلب، مثل: قوله تعالى: "فهل أنتم منتهون." يطلب منهم الانتهاء.
  • استفهام الترغيب مثل: قوله تعالى: "هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم." فيريد ترغيبهم بالأمر، وقوله تعالى: "من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا".
  • استفهام التمني مثل: قوله تعالى: "فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا." تمني وجود الشفعاء، وقوله تعالى: "هل نحن منظرون".
  • استفهام الاستبطاء مثل: قوله تعالى: "متى هذا الوعد إن كنتم صادقين." وقوله تعالى: "متى نصر الله".
  • استفهام التقرير مثل: قوله تعالى: "ألست بربكم"، وقوله تعالى: "أليس الله بكافٍ عبده".
  • استفهام التخويف والتهويل مثل: قوله تعالى: "الحاقة، ما الحاقة، وما أدراك ما الحاقة"
  • . استفهام التعظيم مثل: قوله تعالى: "وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين."
  • استفهام التهكم بغرض الاستهزاء مثل: قوله تعالى: "قل أأنتم أعلم أم الله". استفهام التحقير مثل: قوله تعالى: "إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون."...

أفصحنا (صلى الله عليه وسلّم)

أسلوب الاستفهام في الحديث الشريف

تعريف الاستفهام:

الاستفهام نمط تركيبي من الجمل الإنشائية الطلبية، فهو طلب العلم عن شيء لم يكن معلوما أصلا وهو مشتق من مادة (فهم) وقد عرّفه ابن منظور بقوله: "الفهم: معرفتك الشيء بالقلب وفهمت الشيء: عقلته وعرفته، وفهمت فلانا وأفهمته وتفهّم الكلام: فهمه شيئا بعد شيء واستفهمه: سأله أن يفهمه، وقد استفهمني الشيء، فأفهمته وفهّمته تفهيما "

تناول النحاة مباحث الاستفهام وخصّوها بالعناية والاهتمام، مع بيان ما لها من أثر في علم المعاني، مثلهم مثل البلاغيين، لأنّ الدراسات اللّغوية في بداياتها لم تكن قد فُصلَت عن بعضها إلا أنّ حديث النحاة كان أكثر تفصيلا في الأدوات خاصّة في حديثهم عن الهمزة و(هل)، وذلك لأنّ الهمزة تُستعمَل في طلب التصور والتصديق دائما، أمّا بقيّة الأدوات الأخرى فإنها لا تُستعمَل إلا لطلب التصور.

ويقصد بالتصور: إدراك المفرد أي عند التردد في تبيين أحد الشيئين، أمّا طلب التصديق: فهو إدراك النسبة أي إدراك علاقة شيء بآخر، فالنسبة جملة تامّة، وإدراك الجملة يستدعي الكثير من التأمل لا يتطّلبه المفرد، والسؤال عن المفرد (التصور) يكون بتوجيه السؤال نحو طرف واحد في كل الجملة ولا يتوجه نحو الإسناد بين الفعل والفاعل، أو بين المبتدأ والخبر كما هو السؤال عن النسبة (التصديق) الذي يرغب السائل من خلاله معرفة مدى تحقق النسبة بين طرفي الجملة لذلك هو يستفهم عنها، وسمّي بالتصديق لأنه طلب تعين الثبوت والانتفاء في مقام التردد، ولهذا كان اهتمام البلاغيّين بالهمزة و(هل) يفوق اهتمامهم بالأدوات الأخرى.

ورد أسلوب الاستفهام في الحديث النبوي بصور متعددة وأدوات مختلفة، وبنسبة كبيرة مقارنة بالأساليب الإنشائية الأخرى، ومجال التطبيق في هذا البحث يكمن في رصد أدوات الاستفهام الواردة مع بيان الأنماط المختلفة التي وردت عليها، ونبدأ بأكثر الأدوات ورودا في الحديث النبوي وهي:

  • الهمـزة: هي أكثر الأدوات استعمالا في الاستفهام النبوي وأغلبها دورانا ويعود سبب ذلك إلى أنّها تستعمل للاستفهام عن مضمون الجملة أي: عن صحة نسبة المسند إلى المسند إليه، وهو ما يسمى بالتصديق، كما تستعمل لطلب التعيين وهو ما يسمى بالتصور، وهذا من خصائص (الهمزة) في حين تختص الأداة (هل) عند أكثر النحاة بالاستفهام عن مضمون الجملة فقط ، يضاف إلى ذلك بعض المعاني المجازية تكاد تنفرد بها (الهمزة) ومنها: التسوية والتقرير ولاسيما إذا علمنا أن التقرير هو أكثر المعاني المجازية التي يخرج إليها الاستفهام في الحديث النبوي.

ورودها مع الجملة الفعلية:

  • مع الفعل الماضي: وردت (الهمزة) مع الجملة الفعلية كثيرا في الاستفهام الصادر عن رسول الله ، ومن أمثلة ذلك ما رواه أَنسٍ:" أَنَّ رَجُلاً كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ  فَمَرَّ بِه رجلٌ فَقال: يا رسول اللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّ هَذا، فقال له النبيُّ: أَأَعْلمتَهُ؟ قَالَ: لا، قَالَ: «أَعْلِمْهُ» فَلَحِقَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّكَ في اللَّه، فقالَ: أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْببْتَنِي لَهُ .

كثيرا ما يتلطّف المتكلم بالمخاطب فيوجّه له الأمر بأسلوب الاستفهام، والأمر يشمل كل ما تستعمل له صيغة الأمر من تكليف، أو نصيحة، أو موعظة، أو إرشاد، أو دعاء أو التماس، أو غير ذلك، والرسول  في هذا الحديث استعمل الهمزة للاستفهام بغرض إرشاد الصحابي إلى إعلام من يحب أنه يحبه، لما في ذلك من غاية نبيلة وهي نشر المودة بين أفراد المجتمع.

وأيضا عنْ أَنَسٍ  قال: كَانَ ابْنٌ لأبي طلْحةَ يَشْتَكي، فخرج أبُو طَلْحة، فَقُبِضَ الصَّبِيُّ فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحةَ قال: ما فَعَلَ ابنِي؟ قَالَت أُمُّ سُلَيْم وَهِيَ أُمُّ الصَّبيِّ: هو أَسْكَنُ مَا كَانَ فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ الْعَشَاءَ فَتَعَشَّى ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا، فَلَمَّا فرغَ قَالَتْ: وارُوا الصَّبيَّ، فَلَمَّا أَصْبحَ أَبُو طَلْحَة أَتَى رسولَ اللَّه، فَأَخْبرهُ، فَقَالَ: « أَعرَّسْتُمُ اللَّيْلَةَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قال: «اللَّهمَّ باركْ لَهُما» فَولَدتْ غُلاماً فقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: احْمِلْهُ حتَّى تَأَتِيَ بِهِ النبيَّ  وبَعثَ مَعهُ بِتمْرَات، فقال: «أَمعهُ شْيءٌ؟» قال: نعمْ تَمراتٌ، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ، فَمضَغَهَا ثُمَّ أَخذَهَا مِنْ فِيهِ فَجَعَلَهَا في فيّ الصَّبيِّ ثُمَّ حَنَّكَه وسمَّاهُ عبدَ اللَّهِ.

ولا يخفى هنا أنّ أسلوب الاستفهام من سياق هذا الحديث لم يأْتِ للاستفهام فحسـب بل خرج عنه لغرض التعجب، ولتركيب الجملة الاستفهامية دور مهم في إبراز الدلالة، حيث استفهم النبي عن الفعل لأنّه محل الاهتمام، ولأنه أراد أن يدعو لهما، ففي رواية للبخاري: قال بن عيينة: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصارِ: فَرَأيْتُ تِسعَةَ أوْلادٍ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَؤُوا القُرْآنَ، يَعْنِي: مِنْ أوْلادِ عَبدِ الله المَولُودِ.

وعن أُسامةَ بنِ زَيْدٍ قال: بعثَنَا رسولُ اللَّه  إلى الحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَصَبَّحْنا الْقَوْمَ عَلى مِياهِهمْ، وَلحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنهُمْ فَلَمَّا غَشِيناهُ قال: لا إِلهِ إلاَّ اللَّه، فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصارِيُّ، وَطَعَنْتُهُ بِرْمِحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدينَةَ، بلَغَ ذلِكَ النَّبِيَّ  فقال لي: «يا أُسامةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ ما قَالَ: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ ؟»، قلتُ: يا رسولَ اللَّه إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذاً ، فَقَالَ: «أَقًتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ؟» فَما زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذلِكَ الْيَوْمِ.

دخلت الهمزة في هذه الحديث على الفعل، ودخولها على الفعل هو الأصل عند سيبويه حيث يقول: « وحروف الاستفهام كذلك لا يليها إلا الفعل، إلا أنهم توسعوا فابتدأوا بعدها الأسماء والأصل غير ذلك» كما نلاحظ استعمال الهمزة للتقرير والإنكار، فالرسول  أنكر على أسامة قتله للرجل الذي قال: (لا إله إلا الله)، كما نلاحظ تكرار أسلوب الاستفهام في هذا الحديث فالرسول يقوم بتكرار النداء أو السؤال أو العبارة، إذا تطلب المقام ذلك، بغرض ترسيخ المبادئ في العقول، لأن درجة الفهم عند المتلقين تتفاوت وبالتكرار يتمكن الجميع من الاستيعاب والعمل بما قيل لهم.

ب- مع الفعل المضارع: وردت (الهمزة) كثيرا مع الفعل المضارع في الأحاديث النبوية ومن الشواهد على ذلك الحديث الذي رواه أبو هريرة قال: قرأَ رسولُ اللَّه: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ [الزلزلة: الآية 4] ثم قال: «أَتَدْرُونَ مَا أَخَبَارُهَا؟» قالوا: اللَّهُ ورَسُولُهُ أَعْلَمُ قال: “فَإِنَّ أَخْبَارَها أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَوْ أَمةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا. تَقُولُ: عَمِلْتَ كَذَا وكذَا في يَوْمِ كَذَا وَكَذَا، فهَذِهِ أَخْبَارُهَا”

 ..

خرج أسلوب الاستفهام في هذا الحديث من معناه الأصلي إلى غرضين بلاغيين هما التشويق والإخبار.

وأيضا من الشواهد على مجيء (الهمزة) مع الفعل المضارع ما روي عن أبي مُحمَّد سَهْلِ بن أبي حَثْمة الأَنصاري  قال: انْطَلَقَ عبْدُ اللَّهِ بنُ سهْلٍ وَمُحيِّصَةُ ابْنُ مَسْعُودٍ  إِلى خَيْبَرَ وَهِيَ يَوْمَئِذ صُلْحٌ، فَتَفَرَّقَا، فَأَتَى مُحَيِّصةُ إِلى عبدِ اللَّهِ بنِ سَهلٍ وهو يَتَشَحَّطُ في دمهِ قَتيلاً فدفَنَهُ ثمَّ قَدِمَ المدِينَةَ فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرحْمنِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ وَحُوِّيصةُ ابْنَا مسْعُودٍ  إِلى النَّبِيِّ  فَذَهَب عَبْدُ الرَّحْمنِ يَتَكَلَّمُ فقال: «كَبِّرْ كَبِّرْ»

 وَهُوَ أَحْدَثُ القَوْمِ، فَسَكَت فَتَكَلَّمَا، فقال: "أَتَحْلِفُونَ وَتسْتَحِقُّونَ قَاتِلكُمْ؟" .

وعن أَبي هريرة أَن رسولَ اللَّه  قال: «أَتَدْرُون من الْمُفْلِسُ؟ قالُوا:" الْمُفْلسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ. فقال: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقيامةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وزَكَاةٍ ويأْتِي وقَدْ شَتَمَ هذا، وقذَف هذَا وَأَكَلَ مالَ هَذَا، وسفَكَ دَم هذَا، وَضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذَا مِنْ حسَنَاتِهِ وهَذا مِن حسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حسناته قَبْلَ أَنْ يقْضِيَ مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرحَتْ علَيْه، ثُمَّ طُرِح في النَّار". .

عبر الرسول  بالفعل المضارع بعد (الهمزة) لكونه يسأل عن معرفتهم في تلك الحال وهذا لكي يصحح لهم مفهوم كلمة المفلس، فأسلوب الاستفهام هنا خرج من معناه الأصلي إلى معنىً آخر وهو تحديد المفاهيم.

ج- مع الاسم: وردت الهمزة مع الجملة الاسمية في أحاديث عدة ومن ذلك ما ورد عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِير أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ رَسول اللَّهِ  فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْني هذا غُلاماً كَانَ لي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: « أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحلْتَهُ مِثْلَ هَذا؟» فَقَال: لا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "فأَرْجِعْهُ". في تقديم المفعول به على الفعل دلالة على ما يقصده الرسول من لفت النظر إلى ما يريده أوّلا ليتبعه بعد ذلك بالأمرK وهو (فأرجعه)، والاستفهام في هذا الحديث يدخل في دائرة التقرير والإنكار، حيث ينكر الرسول على هذا الصحابي التمييز بين أبنائه في الهبات فهو استفهام إنكاري.

د- مع حروف الجر: وردت (الهمزة) مع حروف الجر في الأحاديث النبوية ومن الشواهد على ذلك الحديث الذي رواه المُغِيرةِ بن شُعْبَةَ قال: كُنْتُ مع رسول اللَّه ذاتَ ليلَة في مسيرٍ، فقال لي: «أَمعَكَ مَاء؟» قلت: نَعَمْ، فَنَزَلَ عن راحِلتِهِ فَمَشى حتى توَارَى في سَوادِ اللَّيْلِ ،ثم جاءَ فَأَفْرَغْتُ علَيْهِ مِنَ الإِدَاوَةٍ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ ،وَعَلَيهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ، فلم يَسْتَطِعْ أَنْ يُخْرِجَ ذِراعَيْهِ منها حتى أَخْرَجَهُمَا مِنْ أَسْفَلِ الجُبَّةِ، فَغَسَلَ ذِرَاعيْهِ وَمَسَحَ برأْسِه ثُمَّ أَهْوَيْت لأَنزعَ خُفَّيْهِ فقال: «دعْهمَا فإني أَدخَلْتُهُما طَاهِرَتَينِ» وَمَسَحَ عَلَيْهِما .

دخلت (الهمزة) هنا على حرف الجر، وهو من باب تحقيق أصالتها في الوقوع في صدر الجملة ،وهو موضع إجماع عند العلماء، والاستفهام هنا يحمل دلالة إضافية وهي التلطف في الطلب، فقد كان من الممكن أن يأمر الرسول  الصحابي بإحضار الماء ،ولكنه  لم يشأ ذلك، كونه  مربيا للأمة الإسلامية فلم يستغل سلطته الدينية أو حب الصحابة له ليفرض أوامره في مثل هذه الأمور.

هـ- دخولها على الجملة المنفية: الاستفهام بـ (أليس): دخلت همزة الاستفهام على الجملة المنفية بـ (ليس) لتفيد التقرير بما بعد النفي ،وهذا ما تنفرد به (الهمزة) عن (هل)، ويرى علماء اللغة أنّ (ليس) قبل دخول همزة الاستفهام عليها تعني نفي مضمون الجملة في الحال فقد رجّح ابن الحاجب أن تكون لنفي مضمون الجملة مطلقا حالا كان أو غيره، وإذا دخلت عليها همزة الاستفهام فأكثرهم يرى أنّها تفيد التقرير بعد النفي أ،مّا الزمخشري فيرى أنّها في الحقيقة للإنكار أي الإنكار للنفي وإنكار النفي عائد به إلى الإثبات والوجوب .

ومن شواهد ذلك ما رواه أبو ذر جندب بن جنادة  أنَّ ناساً قالوا: يا رسُولَ اللَّهِ ذَهَب أهْلُ الدُّثُور بالأجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّى، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بَفُضُولِ أمْوَالهِمْ قال :"أوَ لَيْس قَدْ جَعَلَ لَكُمْ مَا تَصَدَّقُونَ بِهِ؟ إنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدقَةً، وكُلِّ تَكبِيرةٍ صدقة وكلِّ تَحْمِيدةٍ صدقةً، وكلِّ تِهْلِيلَةٍ صَدقَةً، وأمرٌ بالمعْرُوفِ صدقةٌ، ونَهْىٌ عنِ المُنْكر صدقةٌ وفي بُضْعِ أحدِكُمْ صدقةٌ" قالوا: يا رسولَ اللَّهِ أيأتي أحدُنَا شَهْوَتَه، ويكُونُ لَه فيها أجْر؟ قال: "أرأيْتُمْ لو وضَعهَا في حرامٍ أَكَانَ عليهِ وِزْرٌ ؟ فكذلكَ إذا وضَعهَا في الحلاَلِ كانَ لَهُ أجْرٌ" .ورد أسلوب الاستفهام بـ (أليس) لطلب إقرار المخاطَب بما يريد المتكلم، وهذا النوع من الاستفهام هو إنشاء لفظاً ومعنىً؛ فهو إنشاء من حيث اللفظ ؛لأنّه على صورة الاستفهام والاستفهام من أقسام الإنشاء، وهي إنشاء من حيث المعنى ؛لأنّ المقصود من العبارة حمل المخاطَب على الإقرار، وهذا النوع من الاستفهام يحتاج إلى جواب بـ (بلى)، وهذا ما لمسناه من خلال الحديث.

2-الاستفهام بـ (ألا): اختلف العلماء في (ألا) فجعلها ابن الحاجب مركبة من همزة الإنكار وحرف النفي وركب الحرفان لإفادة الإثبات والتحقيق فصارت بمعنى (إن) ، ومن شواهد ذلك في الحديث النبوي الحديث الذي رواه ابن مسعود  قال: قال رسول اللَّه: «"أَلا أَخْبرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ ؟ تَحْرُمُ على كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ ليِّنٍ سَهْلٍ" .

وتفيد (ألا) العرض والتحضيض، فهما يجريان وفق أسلوب الاستفهام لأنهما منه، فدلالتهما على العرض والتحضيض من قبيل المعاني البلاغية التي يخرج إليها الاستفهام.

ومن ذلك أيضا أَنَّ رسُولَ اللَّهِ  قال: «أَلا أَدُلُّكُمْ على ما يَمْحُو اللَّه بِهِ الخَطَايا، ويرْفَعُ بِهِ الدَّرجاتِ؟» قَالُوا: بلى يا رَسُول اللَّهِ، قَالَ: "إِسْباغُ الوُضُوءِ على المكَارِهِ، وكَثْرَةُ الخُطَا إلى المساجِدِ وانْتِظَارُ الصَّلاةِ بعْد الصَّلاةِ، فَذلِكُمُ الرِّبَاطُ، فذلِكُمُ الرِّباطُ".

  • الاستفهام ﺒ (أما): يرى علماء اللغة أن (أما) حرف استفتاح بمنزلة (ألا) وإذا وقعت (أن) بعد (أما) كسرت همزتها كما تكسر بعد (ألا) الاستفتاحية.

ومن ذلك قوله: "يَا فَاطمةُ أَما تَرْضِينَ أَنْ تَكُوني سيِّدَةَ نِسَاء المُؤْمِنِينَ، أوْ سَيِّدةَ نِساءِ هذهِ الأمَّةِ؟ “وردت (أما) في هذا السياق بمعنى التحقيق والتثبيت، فالسائل في هذا المقام وهو الرسول لا يريد جوابا بل يريد أن يخبر فاطمة (رضي الله عنها) أنّها من أهل الجنة كما يريد أن ينتزع منها إقرارا برغبتها في ذلك واعترافا.

هذا النوع من الاستفهام الوارد في الحديث من الاستفهام التقريري، وهو إنشاء من حيث اللفظ خبر من حيث المعنى، إنشاء من حيث اللفظ لأن صيغة الاستفهام من أقسام الإنشاء وخبر من حيث المعنى لأنّ معناه تثبيت الخبر وتحقيقه، فقوله (أما علمت؟) يقصد بها (قد علمت).

4-الاستفهام ﺒـ (أرأيت): ورد فعل (رأيت) مع الهمزة كثيرا في الأحاديث النبوية ويرى علماء اللغة أن (أرأيت) تكون للاستفهام بمعنى (أخبرني) وتكون للتعجب، وتكون للتنبيه أيضا.

وذهب الزركشي إلى أن الفعل (رأى) إذا دخلت عليه همزة الاستفهام امتنع أن يكون من رؤية البصر والقلب وصار بمعنى أخبرني، ومنهم من ذهب إلى أن (أرأيت) اسم فعل أمر واشترطوا أن يعقبه استفهام ظاهرا كان أم مقدرا .

ومن ذلَك ما روي عنْ أَبي هُرَيْرةٍ قَال: سمِعْتُ رسُول اللَّه  يَقُولُ: «أَرأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْراً بِباب أَحَدِكم يغْتَسِلُ مِنْه كُلَّ يَوْمٍ خَمْس مرَّاتٍ، هلْ يبْقى مِنْ دَرَنِهِ شَيءٌ؟» قالُوا: لا يبْقَى مِنْ درنِهِ شَيْء، قَال: "فذلكَ مَثَلُ الصَّلَواتِ الخَمْسِ، يمْحُو اللَّه بهِنَّ الخطَايا". الظاهر أنّ الاستفهام في هذا الحديث للتنبيه والتقرير، فالاستفهام الوارد في هذا الحديث كان لتقرير الحجة.

  • الاستفهام ﺑـ (مـا): كثر استعمال (ما) الاستفهامية في الأحاديث النبوية، وقد وردت مع الجملة الفعلية ،والجملة الاسمية على حدّ سواء.

ومن الشواهد على ذلك الحديث الذي رواه أَبو العباس سهلِ بنِ سعدٍ السَّاعِدِيِّ أَنّ رسولَ اللَّه قال: «يَا أَبَا بَكْرٍ ما منعَك أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ حِينَ أَشرْتُ إِلَيْكَ؟» فقال أَبُو بكْر: مَا كَانَ ينبَغِي لابْنِ أَبي قُحافَةَ أَنْ يُصلِّيَ بِالنَّاسِ بَيْنَ يَدَيْ رسولِ اللَّه  .

فقد أنكر الرسول على أبي بكر  حين امتنع عن الصلاة بالناس وقد أشار له بأن يصلي، فقال له: (ما منعك؟) وفي نفس الحديث وردت بصيغة (مالكم) لتفيد الإنكار والتوبيخ والتعجب من عمل الصحابة حين بدأوا بالتصفيق في أثناء الصلاة.

وعن أَنس  أَن أَعرابياً قال لرسول اللَّه: مَتَى السَّاعَةُ؟ فقال رسولُ اللَّه: «مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟» قال: حُب اللَّهِ ورسولِهِ قال: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ" .

وكذلك ورود (ما) في الجملة الاسمية: وقد يرد استعمالها مع الجملة الاسمية، فيليها الاسم كثيرا، وسبب ذلك كونها للاستفهام عن حقيقة الشيء ،وماهيته ومن شواهد ذلك ما ورد عن أَبي العباسِ سهلِ بنِ سعدٍ الساعِدِيِّ  قال: مرَّ رجُلٌ على النَبيِّ  فقالَ لرجُلٍ عِنْدهُ جالسٍ: «ما رَأَيُكَ فِي هَذَا؟» فقال: رَجُلٌ مِنْ أَشْرافِ النَّاسِ، هذا وَاللَّهِ حَريٌّ إِنْ خَطَب أَنْ يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَع أَنْ يُشَفَّعَ فَسَكَتَ رسول اللَّه ، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخرُ، فقال له رسولُ اللَّه:" مَا رأُيُكَ فِي هَذَا ؟" فقال: يا رسولَ اللَّه هذا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هذَا حريٌّ إِنْ خطَب أَنْ لا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَع أَنْ لا يُشَفَّعَ ،وَإِنْ قَالَ أَنْ لا يُسْمع لِقَوْلِهِ ،فقال رسول اللَّه: " هَذَا خَيْرٌ منْ مِلءِ الأَرْضِ مِثْلَ هذَا".

6-الاستفهام ﺒـ (ماذا): وردت ماذا في الحديث الذي رواه عمرو بن العاص قال: أتيت ،فقلت له: ابسط يمينك لأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي، فقال: «مالك يا عمرو؟» قلت: أردت أن أشترط قال: « تشترط ماذا؟» .

نلاحظ مجيء (ماذا) على حسب رأي الكوفيين وهو الرأي القائل بأنّ (ماذا) لا تجب لها الصدارة في الكلام فيجوز أن يعمل فيها ما قبلها من العوامل.

-7الاستفهام ﺑ (هـل): الأصل في (هل) دخولها على الجملة الفعلية، فإن دخلت على الاسم فإن ذلك يكون لنكتة بيانية ،وغرض بلاغي فالجملة الاسمية كما نعلم تدل على الثبات والدوام كما أنها غير مقيدة ،والفعلية ليست كذلك. أكثر ما وردت (هل) في الأحاديث النبوية الواردة في المدونة كان مع الجملة الفعلية، كما وردت مع شبه الجملة ومن شواهد ذلك الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص قَالَ: أقبلَ رَجُلٌ إِلَى نَبيِّ الله ، فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى الهِجْرَةِ وَالجِهَادِ أَبْتَغي الأجْرَ مِنَ الله تَعَالَى. قَالَ: «فَهَلْ لَكَ مِنْ وَالِدَيْكَ أحَدٌ حَيٌّ؟» قَالَ: نَعَمْ، بَلْ كِلاهُمَا قَالَ: «فَتَبْتَغي الأجْرَ مِنَ الله تَعَالَى؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا".

جاءت الأداة (هل) في هذا الحديث بدلالتها الأصلية فاستفهام الرسول كان بغرض التثبت حول ما إذا كان للصحابي أحد من والديه حيّ قبل أن يوجهه إلى قيمة من القيم التي أتى بها الدين الإسلامي وهي الإحسان إلى الوالدين، أما الاستفهام الثاني الوارد ضمن نفس الحديث فقد ورد بالهمزة وذلك بغرض التقرير.

ترد (هل) مع الماضي لتفيد معنى التحقيق والتقرير بمعنى أنها تفيد معنى التحقيق الذي تفيده (قد) حين دخولها على الماضي، ومن شواهدها في الحديث النبوي ما رواه أَنسٍ قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلى النبيِّ ، فقال: يا رسولَ اللَّهِ أَصَبْتُ حدّاً، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، وَحَضَرتِ الصَّلاةُ فَصَلَّى مَعَ رسول اللَّه ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلاة قال: يا رسول اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حدًّا، فأَقِمْ فيَّ كتَابَ اللَّهِ قال: «هَلْ حَضَرْتَ مَعَنَا الصَّلاَةَ ؟" قال: نَعم، قال: "قد غُفِرَ لَكَ" .

نجد في هذا الحديث أنّ الرسول قد علم بأن الصحابي قد حضر الصلاة معه، إلا أنّه أراد باستفهامه هذا حمل الصحابي على الإقرار بذلك و(هل) هنا لم ينسلخ عنها معنى الاستفهام حين أفادت التحقيق والتقرير، ونستنتج من هذا أنّ الاستفهام التقريري قد يكون بغير الهمزة.

-8الاستفهام ﺑ (كيف): ويستفهم بها عن الحال، يقال: كيف أنت؟ فتقول: صحيح، أو آكل، أو شارب، أو نائم، أو ما شابه ذلك، ﻔـ (كيف) تحيط بالأحوال كلها، وردت في مواضع عدّة في المدونة دخلت فيها على الجملة الفعلية والاسمية ومنها:

أ‌- دخولها على الجملة الفعلية ومن الشواهد على ذلك الحديث الذي رواه أبو سعيدٍ الخُدْرِيِّقال: قال رسول: "كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ، وَاسْتَمَعَ الإِذْنَ مَتَى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ فَيَنْفُخُ » فَكَأَنَّ ذلِكَ ثَقُلَ عَلى أَصْحَابِ رسول اللَّه ، فقالَ لَهُمْ: "قُولُوا: حَسْبُنَا اللَّه وَنِعْمَ الْوكِيلُ" .

دخلت (كيف) على الفعل المضارع لتعطي المعنى دلالة الاستمرار على الحال دون الثبات عليه، فالاستفهام عن الحال هنا جاء للتعجب، إذ كيف ينعم الرسول  والأمر كما ذكر؟ فالاستفهام في هذا السياق خرج إلى غرضين هما التعجب والاستبعاد.

ب- كما دخلت (كيف) على الجملة الاسمية وذلك في الحديث الذي رواه ابن عمر قال: كُنَّا جُلُوساً مَعَ رسولِ اللَّه ، إِذْ جاءَ رَجُلٌ مِن الأَنْصارِ فسلَّم علَيهِ، ثُمَّ أَدبرَ الأَنْصَارِيُّ فقال رسول اللَّه: «يَا أَخَا الأَنْصَارِ، كَيْفَ أَخِي سعْدُ بنُ عُبادةَ ؟» فقال: صَالحٌ، فقال رسول اللَّه": «مَنْ يعُودُهُ مِنْكُمْ ؟» فَقام وقُمْنا مَعَهُ، ونَحْنُ بضْعَةَ عشَر ما علَينَا نِعالٌ وَلا خِفَـافٌ وَلا قَلانِسُ، ولا قُمُصٌ نمشي في تلكَ السِّبَاخِ حَتَّى جِئْنَاهُ، فاسْتَأْخَرَ قَوْمُهُ مِنْ حَوْلِه حتَّى دنَا رسولُ اللّهِ ، وَأَصْحابُهُ الَّذِين مَعهُ ، وردت (كيف) في هذا الحديث بدلالتها الأصلية وهي السؤال عن الحال.

ت- كما وردت (كيف) وقد وليها حرف تحقيق فيخرج بذلك الاستفهام بها عن دلالته الأصلية إلى غرض الإنكار والاستبعاد وذلك في الحديث الذي رواه أبو سِرْوَعَةَ عُقْبَةَ بنِ الحارِثِ  أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لأبي إِهاب بنِ عَزِيزٍ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فقالت: إِنِّي قَد أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ وَالتي قَدْ تَزَوَّجَ بها فقال لَها عُقبةُ: ما أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرضَعْتِني وَلاَ أَخْبَرتِني، فَرَكَبَ إِلى رسُولِ اللَّهِ  بالمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ فقال رسُولُ اللَّهِ: « كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟» ففَارقَهَا عُقْبَةُ ونكَحَتْ هي زَوْجاً غيرَه .

-9الاستفهام ﺑ (مَنْ): تعتبر من الأدوات التي يستفهم بها عن المفرد، ومن العلماء من يرى أن (من) و(ما) من أصل واحد وقال ابن قتيبة: "(ما) و(من) أصلهما واحد، فجعلت (من) للناس و(ما) لغير الناس يقال من مرّ بك من القوم ؟ وما مر بك من الإبل".

وردت (مَنْ) في المدونة في أكثر من شاهد، وكانت داخلة فيها على الجملة الاسمية والفعلية وقد تنوعت أنماطها على النحو التالي:

أ- وردت (مَنْ) وقد وليها فعل ومن شواهد ذلك في الحديث النبوي قوله" : «مَنْ تَكَفَّلَ لي أَن لا يسْأَلَ النَّاسَ شَيْئاً، وَأَتَكَفَّلُ له بالجَنَّة ؟» فقلتُ: أَنا، فَكَانَ لاَ يسْأَلُ أَحَداً شَيْئا .

ب- كما وردت (مَنْ) الاستفهامية في مواضع كثيرة وقد وليها اسم فطلب بها تعيين العاقل ومن شواهد ذلك حديث ابنِ عبَّاسٍ  أَنَّ النبي  لَقِيَ رَكْباً بِالرَّوْحَاءِ، فَقَالَ: «مَنِ القَوْمُ ؟» قَالُوا: المسلِمُونَ قَالُوا: منْ أَنتَ؟ قَالَ: «رسولُ اللَّهِ» فَرَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَبِياً فَقَالتْ: ألهَذا حجٌّ؟ قَالَ: « نَعَمْ ولكِ أَجرٌ» ، استعمل الرسول  (مَنْ) مع الجملة الاسمية لأنّ السؤال عن العاقل بـ (مَنْ) يقتضي جوابا ثابتا لا متغيرا.

ج- كما وردت أيضا مع اسم الإشارة في حديث الرسول: «من هذه؟» حين سأل عائشة (رضي اللَّه عنْهُا) عن امرأة كانت عندها ، ومن شواهد ذلك أيضا حديث جابر  قال: أتَيتُ النبي ، فَدَقَقْتُ الباب فقال: «مَنْ هذا؟» فقلت: أنا، فقال:« أنا، أنا؟» كأنهُ كَرهَهَا .

10-الاستفهام ﺑ (أيـن): يستفهم بها عن المكان، وقد وردت أكثر من مرة في الأحاديث الواردة في المدونـة وجاءت على أنماط مختلفة منها:

أ‌- وردت متبوعة باسم الفاعل ومن شواهدها في الحديث النبوي ما روته عائشة (رضي اللَّه عنْهُا) قالت: سمِع رسول اللَّه  صَوْتَ خُصُومٍ بالْبَابِ عَالِيةٍ أَصْواتُهُمَا، وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شيءٍ، وَهُوَ يَقُولُ: واللَّهِ لا أَفعَلُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رسولُ اللَّه  فقال: « أَيْنَ الْمُتَأَلِّي عَلَى اللَّه لا يَفْعَلُ المَعْرُوفَ ؟» فقال: أَنَا يَا رسولَ اللَّهِ فَلهُ أَيُّ ذلِكَ أَحَبَّ.

كما وردت (أين) أيضا متبوعة باسم الفاعل في الحديث الذي رواه أبو هريرةَ قال: بَيْنَمَا النَّبِيُّ  في مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ القَومَ، جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رسولُ اللهِ  يُحَدِّثُ فَقالَ بَعْضُ القَومِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ حَتَّى إذَا قَضَى حَدِيثَهُ قالَ: «أيْنَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟» قال: هَا أنا يَا رسُولَ اللهِ. قال: «إذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» قال: كَيفَ إضَاعَتُهَا؟ قال: «إذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إلى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ».

دخلت (أين) على اسم الفاعل (السائل) وهذا من باب إبراز اهتمام النبي  بالسائل عن الساعة فقد كان بإمكانه  أن يأمر الصحابة  بإبلاغ السائل بما أراد أن يبلغه إيّـاه لكنّه  حريص على تعليم الصحابة  والذي يدل عليه ظاهر أسلوب الاستفهام في هذا الحديث أنّه للإنكار، وهنا خرج أسلوب الاستفهام بهذه الأداة إلى غرض مجازي غير الدلالة الأصلية لها وهي الاستفهام عن المكان.

ب‌- وردت (أين) في محل جر بحرف جر ومن شواهد على ذلك الحديث الذي رواه أبو هريرة أن الرسول  دَخَلَ بيته فَاسْتَأذَنَ، فَأَذِنَ لِه فَدَخَلْ، فَوَجَدَ لَبَنَاً في قَدَحٍ، فَقَالَ: «مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ ؟» قَالُوا: أهْدَاهُ لَكَ فُلانٌ - أَو فُلانَة .

نرى في هذا الحديث أنّ (أين) قد خالفت الأصل في استخدامها بأن تكون منصوبة على الظرفية حيث وردت مسبوقة بحرف جر وهي بالتالي في محل جرٍ به.

ت‌- وردت (أين) وقد وليها فعل مضارع في الحديث الذي رواه عِتْبَانَ بن مالك  أنّه طلب من رسول الله  أن يصلي في بيته مكانا يتخذه مصلّى فغدا إليه رسول الله  فاستأذن فأذن له فلم يجلس رسول الله ،حتى قال: « أَيْنَ تـُحبُّ أَنْ أُصَلّيَ مِنْ بَيْتِك؟» فأشار له الصحابي إلى المكان الذي أحَبَّ أن يجعله مصلى.

وردت (أين) في هذا الحديث بدلالتها الأصلية وهي تعيين المكان مع وجود فائدة في هذا الحديث وهي أنّ الرسول  يعلمنا الاستئذان، فقد استأذن  قبل دخوله البيت ثم سأل الصحابي عن المكان الذي ينوي أن يجعل منه مصلّى دون أن يفرض رأيه عليه.

-11الاستفهام ﺑ (أيّ): يؤتى بـ (أيّ) لتمييز أحد المتشاركين في أمر يعمهما، وهي سؤال عن بعض من كل بقصد التعيين، وتكون لمن يعقل ولما لا يعقل، وإذا وليها أفعل التفضيل كانت لتمييز أحد المتشاركين في أمر يعمهما وقد وردت في الحديث النبوي مضافة إلى ضمير ومن شواهد ذلك الحديث الذي روى فيه جابر  أَنَّ النبي  كَانَ يَجْمَعُ بيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ يَعْني في القَبْرِ، ثُمَّ يَقُولُ: «أَيُّهُما أَكْثَرُ أَخْذاً لِلْقُرْآنِ؟» فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إلى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ في اللَّحْدِ .

ومن خصائص (أيّ) ورودها بلفظ واحد للمذكر والمؤنث وهذا هو الأبلغ ،والأفصح، ومن أمثلة ذلك في القرآن قوله: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [ لقمان: جزء من الآية 34 ].

-12الاستفهام ﺒـ (متى): وهي من الظروف المبهمة غير المتمكنة، وذلك لأنها لا تضاف ولا تصرف غيرها و(متى) لا تكون نكرة، والمقصود بها السؤال عن الزمان، ولذلك فإنه لا يجوز أن تجيب من سألك متى لقيت فلانا؟ بقولك: شهرا، لأنّ الشهر لا يكون توقيتا ولأن اللقاء لا يكون إلا في بعض شهر وإنما سألك لتؤقت له.

وردت متى في الحديث النبوي مرة واحدة حين سأل عن وقت دخول الكلب إلى البيت في أثناء انتظاره لجبريل فَقالَ: "مَتَى دَخَلَ هذا الْكَلْبُ ؟" .

وردت (متى) في هذا الحديث بدلالتها الأصلية وهي الاستفهام عن الزمان ماضيا كان أم مستقبلا.

-13الاستفهام ﺑ (أنّى): وردت (أنّى) في موضع واحد في الأحاديث النبوية وقد دخلت على الجملة الفعلية بمعنى (كيف) وذلك في قوله: «يَا أَيُّهَا النَّاس إِنَّ الله تَعَالَى طَيّب لا يَقْبلُ إلاَّ طَيِّباَ وإِنَّ الله تَعَالَى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون: الآية 51] وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾[البقرة: الآية 172]. ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُل يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعث أغبر يمد يَدَهُ إِلىَ السَّمَاءِ: يارب يارب ،ومَطْعَمَهُ حَرَام ومَشْرَبَهُ حَرَامْ ومَلْبَسَهُ حَرَام وُغُذِّيَ بِالحْـرَام فَأَنَّى يُسْتَجَاب لِذَلِك؟" .

وافقت أنّى في ورودها ضمن هذا الحديث ما ذهب إليه الزجاجي في أنها تأتي بمعنى (كيف) وهنا اسْتُعمِل أسلوب الاستفهام للدلالة على استبعاد المستفهم عنه والتشكيك في حدوثه.

-14الاستفهام محذوف الأداة: يُعدُّ أسلوب الاستفهام مجالا خصبا لظاهرة الحذف وقد يكون الحذف في الأداة أو المستفهم عنه أو بحذف أسلوب الاستفهام بأكمله، وقد كثر هذا الحذف في الأحاديث الواردة في المدونة ومن أمثلة هذا الحذف نذكر:

أ- حذف همزة الاستفهام: لقد ذهب النحاة إلى أن الهمزة أصل أدوات الاستفهام وأم بابه ولذلك يجوز حذفها من الجملة ويبقى معنى الاستفهام قائما، اعتمادا على وجود قرينة لفظية دالة عليها وهي (أم) المعادلة لها ومع عدم وجود (أم) في الكلام أجاز بعض النحويين حذف همزة الاستفهام اعتمادا على قرينة معنى الكلام وسياقه، واعتمادا على قرينة صوتية هي نغمة الاستفهام التي ينطق بها المستفهم جملة الاستفهام ،وقد تبيّن لنا من خلال استقصائنا للأنماط التي وردت عليها أدوات الاستفهام في الأحاديث النبوية:

- أنّ عناية المتكلم بمعانيه تدفعه إلى أن يتخذ طريقة مناسبة في صياغة عباراته، فهناك أساليب تسهم في إضفاء الدلالة المحدّدة المطلوب إيصالها إلى المتلقي، فالاختلاف في الأساليب لا يكون بطريقة عشوائية، حيث أن كل أسلوب من الأساليب الواردة في الأحاديث تستعمل في مكانها المناسب الذي لا يفضله فيه غيره.

- كثرة ورود الجملة الفعلية مع أدوات الاستفهام أكثر من الجملة الاسمية ،ولعلّ ذلك راجع إلى كون دلالة الفعل التجدد والاستمرار، على عكس الاسم الدّال على الثبوت، فأكثر استفهامات الرسول هي عن أفعال وقعت أو تقع، فهي تتكرر وتتجدد في حياة البشر جميعا على مرّ الزّمان، والرسول e معلم للبشرية جمعاء وليس لجيل الصحابة فقط.

- عدم ورود (كم) في الاستفهام الصادر عن الرسول  في الأحاديث النبوية الواردة في المدونة كما لم ترد أيضا أداة الاستفهام (ألم).

 هذا البحث دراسة نحوية لأسلوب الاستفهام، وحاولنا من خلاله الوصول إلى الإجابة عن سؤال مهم وهو: ما الجانب الذي نال اهتمام أكثر في هذه الدراسة النحوية لأسلوب الاستفهام؟ فوجدنا أن النحو يهتم بالمتكلم والمخاطَب والرسالة، فالمتكلم يختار الأداة الاستفهامية المناسبة للسياق الذي ترد فيه لإيصال التركيب اللغوي سليما نحويا إلى المخاطَب فيستطيع هذا الأخير فهم الرسالة دون لبس أو غموض، ويكون ذلك أيضا بمراعاة ما يلي الأداة الاستفهامية، إذ أن هناك فرق شاسع بين المعنى الذي يصل إلى المخاطَب في حالة ما إذا جاءت بعد الأداة الاستفهامية جملة اسمية والمعنى إذا أتت بعدها جملة فعلية ،وكذلك هناك اختلاف في التعبير بالفعل الماضي بعد أداة الاستفهام، عن التعبير بالفعل المضارع بعدها.

اللغة في حياتنا

لغتنا والقانون

اللغة هي التفكير الناطق للإنسان ، والكتابة هي التفكير الصامت له، ولكل نشاط إنساني لغته ، ولمّا سنّت القوانين لتنظيم حياة الفرد في مجتمعه غدت اللغة الهيكل لهذه القوانين، والمادة التي تبعث الروح فيها، فالقوانين ما هي إلا مجموعة من القواعد التشريعية تصاغ باللغة ،وتظل محكومة بها وبضوابطها،، فالكلمات هي الأدوات الأساسية في القانون، والعناية باللغة في الأحكام القضائية تصبح مهمة أهمية الحقيقة نفسها لأن ؛الحقيقة في الأحكام يعبّر عنها باللغة بألفاظها ودلالاتها ، وعليه فإن تعريف لغة القانون ما هو إلّا مجموعة المفردات والجمل والعبارات والأساليب ذات المضمون القانوني، فهي علم له منهجيته، وفنّ له مجالاته التطبيقية ،ومهارة يجبأن يمتلكها العاملون في مجال القانون، ولهذه اللغة أنساق مؤطّرة بإطار نظري قائم على أسس منطقية يجعل لهذه اللغة خصائصها ومعاييرها، فما هذه الخصائص وما هذه المعايير:

أولا: اللغة القانونية وضعيّة من حيث دلالة المفردات والتراكيب  ،والمفردات المستخدمة في اللغة كثيرة ثرّة، ولكل مفردة دلالتها الخاصّة وظلالها، نقف عند مدلولات بعضها، فكلمة قانون على وزن فاعول مشتقة من الفعل قَنَّنَ:

قَنَّنَ يُقَنِّن، تقْنِينًا ، فهو مُقَنِّن ، والمفعول مُقَنَّن – للمتعدِّي، قَنَّنَ الطَّعامَ : أعطاه بقدر محدّد معيّن ،قَنَّنَ المُشَرِّعُ: وضع القوانين ودوَّنها،  وقُنّة: (مفرد) الجمع: قُنَنٌ ، و قِنان ،قُنَّة كلِّ شيءٍ : أَعلاه ، والقُنَّة: الجبل المنفرد المرتفع في السماءِ، وعليه فإن كلمة قنن تعني نظّم، وحكم ، والعصا الغليظة ، لكن تعريف كلمة القانون في الاصطلاح فيها إشكالية، منهم من قال إنها يونانية ،ومنهم من قال إنها سريانية وتعني: تتبَّع الأخبار، وتفقَّد بالبصر، وضرب بالعصا. أصل الكلمة غير متفق عليه بين اللغوييّن...أمّا القضاء فهو مشتق من الفعل قضى، فما المقصود بـ قضى؟

ورد في معجم اللسان مادّة ) " قضى : القضاء : الحكم ، وأصله قضاي ؛ لأنّه من قضيت ، أبدلت الياء- فصارت قضاء - والجمع قضايا ... وقضى بمعنى أمر في قوله تعالى: " وقضى ربّك ألّا تعبدوا إلّا إيّاه " وبمعنى الانتهاء مثل : وقضينا إليه ذلك الأمر ، أي انتهى إليه.... والقاضي  اسم معرّف بال  التعريف، من يقضي بين  الناس ويعالج قضاياهم ،ويفض منازعاتهم، وإذا جاءت نكرة نكتبها قاضٍ ، ونقول : تقاضيا  في الماضي ، ويتقاضيان في الحاضر ، وقال تعالى:  قُضيَ بينهم بالقسط ،وهم لا يُظلمون “أي : يقضى بينهم بالعدل لا يعذبون بغير ذنب ، ولا يؤاخذون بغير حجّة...ثم تأتي كلمة حكم لتكون أشمل من القضاء فهو السلطان،، فالحكم للمضاء ، والعدل للقضاء،، وتتداخل معاني القضاء والحكم في كثير من الصفات والاختصاصات ، ومطلوب العدل في كليهما، قال تعالى :"وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل “وإذا تخاصم  اثنان، فالبينة على من ادعى، فتأتي الدعوى لتعني الطلب ، وإخبار الأول عن وجوب حق على الثاني ،  فالأول مدعٍ، والثاني مدعى عليه، وجمعها دعاوى ، وتثنيتها دعويان، والبينة شهود وغير ذلك من أدلّة بها يتبين الحق، والدعوى من الادعاء الذي له معنيان :معنى موضوعي ( ماهية الدعوى)التي تقع ضمن نص إخباري يتعلق بذكر واقعة أو حادث، ويثبتها الدليل أو ينفيها، ومعنى إجرائي( أصول المحاكمات)يتعلق بمبادئ عامة وقواعد قانونية تحكم تصرفات الناس بعد صدورها...

ثانيا: اللغة القانونية وصفيّة مؤطّرة بالوضوح والتحديد (لغة النص لغة حكم غير مرنة يبنى غيرها عليها، أمّا لغة شرح النص فهي مرنة قائمة على التشبيهات والوقائع، وعليه فإن لغة الدفاع تقرّب وتعززّ وتدحض، وتثبت بقصد الإقناع، ولذلك يجب أن يكون النص المكتوب متماسكا محبوكا مسبوكا  يأخذ بعضه برقاب بعض مرتبطا بروابط لفظية ومعنوية، ولنا أن نسوق نموذجا تطبيقيا على النص الآتي: “يكون باطلا كلّ اتفاق خاص بمقامرة أو رهان، ولمن خسر في مقامرة أو رهان أن يسترد ما دفعه خلال ثلاث سنوات من الوقت الذي أدى فيه ما خسره ، ولو كان هناك اتفاق يقضي بغير ذلك، وله أن يثبت ما أدّاه..." نلاحظ أن العناصر المعجمية في هذا النص تتحرك على نحو منتظم في اتجاه بناء الفكرة الأساسية للنص ، فتكرار كلمتي مقامرة ورهان يسهم في وحدة النص وتماسكه المعجمي أما تماسكه النحوي فيتحقق عن طريق الربط الإضافي وأداته الواو، والربط الاستدراكي في الجملة ( ولو كان هناك اتفاق....)كما أن هناك عناصر إحالة للربط كالضمائر ،والأسماء الموصولة ، وأسماء ء الإشارة....من الناحية الدلالية كانت جمل النصّ:

ثالثا: لغة القانون أسلوبها تفصيلي فصيح كتابة ونطقا:

الأسلوب الجميل في كتابة المرافعات القانونية له وقعه في النفوس خاصة إذا تسلّح بالمنطق والرصانة، ومثاله المرافعة الآتية: من أشهر المرافعات وأجملها ....

هذه مرافعة في قضية من أشهر القضايا والتي أطلق عليها قضية " المحاماة " وقد اتهم فيها محامون بتهمة إهانة محكمة وإعاقتها عن أداء عملها وإكراه القاضي رئيس المحكمة علي التوقيع، فحركت النيابة دعوى إهانة محكمة ،وإعاقتها عن أداء عملها ،كما حرّكت جناية إكراه على توقيع، وهي ما تعني بها تلك المرافعة الرائعة لأحد محامي  محاكم النقض ، وهاكم نصَّ المرافعة:

" بسم الله الرحمن الرحيم "

" أيها السادة : أرجو أن يتسع لنا صدرُكم بالذي ضاق به صدرُنا ، وبذات القدر من الليل البهيم الذي أرّق مضجع المتهم .

وأرجو ابتداءً أن تسجل مُرافعاتنا كاملة بمحضر الجلسة ؛ لأننا نُؤمن أن هذه القضية سوف يذكرها التاريخ يوماً ما ،فتكون حُكماً لنا أو علينا.. واسمحوا لي أن أذكر أنّ القضية الآن بعد أن وصلت إلى هذا الطور لم تعد قضية المتهم ،وصاحبه ، بل هي قضية المحاماة جميعاً ، وإذا كان بعضهم قد أراد لنا أن نُحاكم ، فإننا نقبل المحاكمة ، ومن حقنا أن نقول ما نشاء دون خجلٍ أو مؤاربة أو حياءٍ .. نعم سنكون في هذه المحاكمة صُرحاء  أشدّ ما تكون الصراحة، حتى لو كانت موجعة لبعضهم ، أو تورّم منها أنوف آخرين ؛لأننا حتى هذه اللحظات كنا نعتقد أن صوت العقل سيغلب ، وأنَّ المصلحة العليا ستُغلَّب ،لكن قرّت أعين بعضٍ بتلك المُحاكمة ، وقُرّت أعين آخرين بوجودنا خلف القضبان ، فلتكن المُحاكمة إذاً هي نهاية المطاف ،وليكن حكمكم هو غاية العدل ،ومنتهى الإنصاف، ولتكن مشيئة الله هي العليا ،ولو تواعدتم لاختلفتم في الأمر في الميعاد، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ليحييَ من حييَ عن بينّه ، ويهلك من هلك عن بينّة....

والحقُ أقول لكم، وحقٌ أقول :إنه إذا كان في الحكم على الأستاذ ... المحامي شفاءٌ لما في الصدور فاحُكموا عليه ، وإذا كان ميزان العدالة سيستقيم بالحكم عليه فاقضوا عليه ، وإذا كان الحكم عليه قرباناً للعدالة ،وإرضاءً للآلهة فإننا نقدّمه مختارين طائعين .

أمّا إذا كان في الحكم عليه مساساً بقيم المحاماة وأعرافها ، وحُسن العلاقة بيننا وافتئاتاً على القانون، فإننا نحتج ، ونعترض ..

ونقول:

ما الذي جعل العلاقة بين القضاء والمحامين -وهم أبناء رحمٍ واحدة وغاية واحدة-  تصل إلى هذا المنحنى ،وذلك المنعطف الخطر ؟!

أقول لكم ..

لم نبدأ نحنُ بالعداوة .. لم نتسلل إلي محرابكم ،ولكننا أصحاب حقٍّ وأصحاب قضية وأصحاب رسالة ،وما آتينا نُمارس هذه الرسالة إلا بمقتضى القانون ،ومن منطق العدالة ،فلسنا دخلاء -أيها السادة- وليس الأمر منوط بالقضاة وحدهم ،فالعدالة لا تستقيم على قدمٍ واحدة، ونحنُ القدم الأخرى  ،والقول بغير ذلك يهدم ميزان العدالة، ويقوّضها ؛ أليس للميزان كفتان ؟!

ولئن كان الله خلق الإنسان من عينين ، وشفتين ، وأذنين ، وكفين ، وقدمين . فقد خلق الإنسان بقلبٍ واحد .. ولسانٍ واحد .. فأنتم أيها السادة القلب ، ونحنُ اللسان ، ومخطئ من ظنّ يوماً أن يضن علينا بالكلام ، وأُقرُّ مطمئناً أنّ طبيعة عمل المحامي وخبرته المكتسبة من ممارسة المهنة ، لا يُمكن أن تحمله على الاعتداء على القاضي أبداً ..

بينما طبيعة عمل القاضي الذي يؤدي وظيفته بين احترام الجمهور ، ووسط الابتسامات المتملقة ، والخضوع المغري من كل جانب تجعله يظنّ أنّ أيَّ طلب يطلب منه ،أومناقشة بينه وبين المحامي في عملهما المشترك خروجاً على كرامة القضاء ..والغريب أن الخلافَ قد بدأ بين الفريقين عن أصلٍ واحد هو صون الكرامة ، فكيف يتفق الطرفان على المبدأ ،ثم يختلفان عند التنفيذ ،أو بمعنى آخر ..

ما هو مفهوم الكرامة عند الطرفين ؟!

إن طبيعة عمل الفريقين جدّ مختلفة ، فالمحامي يرجو ويتوسل ،ويترافع علناً ويكتُب مذكراته ،ويؤكد في كلّ كلمة ثقته بعدالة قاضيه ،بينما طبيعة عمل القاضي السكوت إضافة إلى أنه لا يتكلم عن آداب المأمورية المشتركة بينهما ،بل لعله لا يراها كذلك ..

ويعمل المحامي جاهداً علي استمالة القاضي تمهيداً لإقناعه بحق موكله ،والقاضي

لا يبغي شيئاً من المحامي ،ومن ثم لا تهمه حالته النفسية ، وقد يرى أن تكرار الخضوع حقّاً خالصاً له ..فكيف إذا قلنا بالمساواة والإخلاص بين الاثنين؟.

أيها السادة : فإنما نرجو تلك المساواة الداخلية في التقدير والاحترام ، لا المساواة الخارجية المستمدة من خوف الجماهير ،وتحيّات الجنود والحرّاس . فذلك مما لا مطمع لنا فيه ، ولا حاجة لنا به .

نحن نعاني أيها السادة .. نعاني من اضطهاد السلطة وتهميشها لنا ،نعاني من عسف الإدارة وجهلها ،نعاني من ظلم الموكلين ،وأكلهم بالباطل حقوقنا ،بل نعاني من ساعة دخولنا المحكمة ، وطمع صغار النفوس فينا ، ونعاني من صدود بعض القضاة وضيق صدورهم بنا .. نعاني في انتظار بدء الجلسة التي قد تتأخر لساعات  فإذا ما انصرفنا لقضاء مشاغلنا ، ثم عدنا ، يرفض القاضي أن يعيد القضية  مع أن الجلسة ما زالت منعقدة .. كنص قانون المرافعات .. وهو الذي تسبب لنا في هذا الارتباك .. وحينئذٍ تبدأ المُشاحنة التي ينتصر فيها القاضي دائماً.

نعاني في حضورنا الجلسة وإبداء دفاعنا ، وما نعتقد أنه صواب ونؤمن به غير أن بعض القضاة يظهرون عدم الاكتراث بما نقول ،ويعرض عنا بصورة فيها امتهان لكرامتنا ، ونلتزم في ذلك غاية اللباقة والأدب ،ونطوي الصدر على ألمٍ دفين ..

ثم يصدر القاضي حكمه ، وقد يكون خاطئًا .. فإذا ما طعنا بذلك  ، نذكر في طعننا تأدّباً ورقّاً أن الحكم قد أخطأ ، ولا نقول :إن القاضي هو الذي أخطأ ..

نحنُ الذينَّ ننتظر لساعات لبدء الجلسات ..

نحنُ الذينَّ نقف إجلالاً لكم حال دخولكم القاعة ..

ونحنُ الذينَّ نقف احتراما عند انصرافكم ..

ونحنُ الذينَّ لا نتحدث بين أيديكم إلا بإذن ، ولا نصمت إلا بإذن ..

نحنُ الذينَّ تعلمنا من أسلافنا العظام الإنحناء في محرابكم تقديساً للعدالة ..

ونحنُ الذينَّ لا نخاطبكم إلا بالاحترام الكامل .. والتوقير اللازم ، ونلتمس ونبتهل ونتضرع ،ونفوض لكم الأمر من قبل ومن بعد ..

ونحنُ الذينَّ فتحنا أبواب نقابتنا للقضاة عام 69 بعد أن ذبحتُهم السلطة ،وأسقطت عنهم حصانتهم .

ونحنُ الذينَّ ما زالت أبواب نقابتنا مفتوحة لمن أراد منكم أن يعمل بالمحاماة بعد تقاعده ، بل ومن أكره منكم على التقاعد ..

فماذا فعل القضاة بنا ؟!

عطّلوا نصاً من نصوص القانون يوجب أن يكون ربع المُعينين في ولاية القضاء من المحامين ، فتحملت نقابة المحامين وحدها وزر هذا الموقف ، وحُرم القضاء من خبرات عظيمة .. ألم يكن عبد العزيز باشا فهمي محامياً .. ونقيباً للمحامين .. ثم أصبح رئيساً لمحكمة النقض بل أول رئيس لمحكمة النقض ، ووزيرا للعدل ..

ألم يكن عبد الفتاح باشا الطويل محامياً ثم صار وزيراً للعدل ، وفتحي الشرقاوي ، ومصطفى مرعي ، والسنهوري .. وغيرهم كثيرون ممن شّرفوا المُحاماة ، كما شرفوا القضاء سواءً بسواء ،وكان هذا هو بداية الفصام النكد ..

ثم ماذا يفعل بعض القضاة معنا يومياً ؟!

يضيق صدر بعضهم ،ويقطب جبين الآخر ، بل ويصل الأمر أحياناً إلى حد التعريض بعملنا .. أليس هذا انتقاصا من الكرامة ؟!

فقد نصت المادة (1) من قانون المحاماة رقم 17 لسنة 1983 على أن " المحاماة مهنة حرة تشارك السلطة القضائية في تحقيق العدالة ،وفي تأكيد سيادة القانون ، وفي كفالة حق الدفاع عن حقوق المواطنين وحرياتهم " .

سؤال يلح أيها السادة .. ويعيينا الجوابُ ..

لماذا هُنّا عليكم .. ولماذا هان قدرنا لديكم .. فهل جزاء الإحسان إلّا الإحسان ؟!

نحنُ لسنا عالة علي أحد أيها السادة ..

كيف يرتضي قاضٍ لنفسه يعتلي منصة القضاء السامقة ، أن يزجر مدافعاً بأنه إذا لم يسكت فسيخرجه خارج القاعة .. ويستجوب المتهم رغماً عنه .. مُخالفاً لنص المادة (274) إجراءات جنائية التي نصت على أنه " لا يجوز استجواب المُتهم إلا إذا قبل ذلك " ..

كيف يرتضي قاضٍ لنفسه أن ينادي علي الحرس أن يضعوا مُحامياً في القفص مع المتهمين .. ماذا يسمى ذلك ؟!!!

لماذا يستكثر بعضهم أن يكون القاضي مخطئاً .. ويُداري من ذلك أن الخطأ يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق .. إن المدعي بالحق المدني هو الذي خلق هذه الأزمة  برعونته وقلة خبرته ،فيُسأل هو عن النتيجة التي حدثت .. أليس هذا هو الموقف عقلاً وقانوناً ..

فقد نصت المادة (49) من قانون المحاماة على أن " للمحامي الحق في أن يعامل من المحاكم وسائر الجهات التي يحضر أمامها بالاحترام الواجب للمهنة " ، غير أن هذا الاحترام لا يصل إلي غايته ما لم تتضافر معه حماية تُسبغ على المحامي حال قيامه بواجبه وأمانته ، فلا جدوى من ترك واجب الاحترام للآخرين يبذلونه متى شاءوا ،ويفنونه متى أرادو "

أيها السادة : الأستاذ المحامي عفواً المتهم لم يقتحم عليه غرفته كما ذكر ،ولكنه سعى إليه مستأذناً إلى إثبات حقه .. أليس هذا هو القانون ؟! فما كان من القاضي إلا أن أمر الزبانية بالاعتداء عليه ومنعه ..

إن القاضي هو الذي تخلي عن منصته العالية .. ودلف إلى غرفته .. ورفض إثبات طلبات المتهم ،وهي حقُ له .. ألا يعد ذلك تزويراً بالترك؟ ..

ثُم سؤالٌ آخر .. لماذا استنفر نادي القضاة من أجل هذه الواقعة .. ولماذا لم يسأل قاضيه عن حقيقة ما حدث .. أليس القاضي ملزم بأن يسمع الطرفين ؟!

ولماذا دعا إلى عقد جمعية عمومية طارئة بالتاريخ المذكور مستغلا هذا الحدث ومطالباً باستقلال السلطة القضائية التي سميت حينئذٍ بـ " انتفاضة القضاة " ..

ونحنُ أول من طالب إلى جانبه باستقلالها .. لكن أن يتخذ من المحاماة وسيلة مطوية إلى هذا الغرض .. فبئست الغاية ،وساءت المطية ..

فقد اتخذت الجمعية العمومية غير العادية عدة توصيات :

أولها : سرعة الانتهاء من تحقيقات النيابة العامة في شأن تعطيل جلسة محكمة الجنح والتصرف فيها بما يحفظ للقضاء هيئته واحترامه ..

.. وهذه التوصية .. ما هي إلا تحريض للنيابة بإنهاء التحقيقات شرط أن يحفظ للقضاء هيبته .. وهذا ما جرى .. ففي اليوم التالي أمرت النيابة العامة بضبط المتهميْن ،وعرضهما مقبوضاً عليهما ..

ثم سألت النيابة العامة المتهميْن اللذيْن طلبا شهود نفي ،فأرجأتها النيابة لجلسة لاحقة لشهود النفي .. إلا أننا فوجئنا بأن القضية قد أحيلت دون استيفاء المطلوب .. بل وحددت محكمة الاستئناف جلسة للمُحاكمة في غير دورها .. فماذا يُدعى ذلك ؟!

التوصية الخامسة : مُطالبة المستشار ،وزير العدل بإنهاء ندب المستشار رئيس المحكمة  الابتدائية .

التوصية السادسة : تكليف مجلس إدارة نادي القضاة بإسقاط عضوية المستشار رئيس المحكمة الابتدائية  الأخرى.

.. وهكذا غلب على هذه التوصيات صوت الشباب الثائر الذين أسموا أنفسهم كذلك ، وأهانوا رجلاً من العصر الجميل ،وهو المستشار رئيس المحكمة الابتدائية .. لا لشيء .. إلا لأنه نزل إلى حجرة المحامين لرأب الصدع ،واحتواء الأزمة ..

وما دروا أنه بنزوله إلينا قد ارتفعت قامته في نظرنا إلى عنان السماء ..

ونحن لا نعترض لا نعترض أن يعقد القضاة جمعيتهم العادية ،وغير العادية .. لكن أن تعلن الحرب علينا جملةً واحدة .. فهو أمر تأباه العدالة،  وتأباه حكمة الشيوخ .. وصدق الله العظيم .. " ولا يجرمنك شنآن قومٍ على ألّا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى " .

وفي المقابل .. عندما رُوّعت البلاد مؤخراً في الاعتداء الآثم من الشرطة على بعض القضاة بالضرب وبالإهانة العمدية ، وعدم الانصياع لأوامرهم .. بل وإصدار الأوامر لبعضهم ..

نقول .. ماذا كان موقف القضاء .. ومجلسه الأعلى .. والنائب العام ..

صرحوا بأن ما حدث هو تجاوزات لا تشكل جريمة .. بل وصلوا إلى حد أن نعتوا بعض القضاة الذين طالبوا بالتحقيق بأنها فئة مارقة ..

.. أي وربي حدث ذلك ..

لكن ما وقع من الأستاذ المحامي .... ذوداً عن حقه هو الجريمة .. وغدا المطالبة بالثأر واجباً مقدساً ما لهم كيف يحكمون .. ومن أي فئة ينتصرون ؟!

أليس غريباً أيها السادة أن يدفع المحامون وحدهم الجزية في القرن الواحد والعشرون ؟!

نحنُ أيها السادة : في كل ذلك لا نطلب أن تقضوا لنا بحق لسنا أهلاً له .. ولكننا نطالب فقط بالإنصاف .. نطالب بالعفو عند المقدرة ..

راجعوا أيُها السادة .. كيف تولت النيابة العامة التحقيق .. انفردت وحدها بالأمر وسألت من شاءت وأشاحت بوجهها عن سؤال شهود النفي ..

وأمرت بضبط وإحضار المتهم وعرضه عليها مقبوضاً عليه .. وصالت وجالت .. أتلك هي العدالة .. أهذه صلة الأرحام ..؟!

أليس غريباً أيها السادة أن يسأل المُحقق .. الحاجب .. هل ما بدر من القاضي يُعد امتهانا لكرامة المحامي والمحاماة .. وهل يفهم الحاجب مثل هذه الأمور ؟!

إن سؤال الحاجب عن هذا الشأن .. هو عين الامتهان لكرامتنا .. فهل الحاجب هو الذي يحكم علينا ويُعلق على تقديره؟ ..

إن شئتم فسألوا أهل الذكر .. إن كنتم تريدون ..

ثم .. أو يملك الحاجب ، وأمين السر ، والمجند بالأمن المركزي . أن يقول عكس ما يريده سيده ورب نعمته ..؟!

نحنُ نرى أيها السادة هذه الأيام أنوفاً كبيرة ، ورؤوسا أكبر قد انبطحت ولا تملك إلا تنفيذ أوامر أسيادها ، بل وتزيين الباطل لها ..

فلماذا سأل المحقق هؤلاء التابعين وأتباع التابعين .. ولم يسأل شهود المتهم ؟!

أمن أجل تقوية الدليل الواهن ضد الزميل .. وكأنه عدوٍ مبين ..

أليس أوهن البيوت هو بيت العنكبوت ..

وهذا ما يدفعنا لأن نقرر مطمئنين أن النيابة كانت غير محايدة .. بل كانت خصماً خصيماً مما يبطل تحقيقاتها ،وما ترتب عليه من آثار ..

ولا حظوا أيها السادة أقوال هؤلاء التابعين كيف جاءت متطابقة واللغة التي أجابوا بها يقيناً ليست أقوالهم .. ولكنها مملاة عليهم ..

أليست أولويات وضمانات التحقيق الابتدائي هو حياد التحقيق لأنه أول الضمانات التي تكفل الوصول إلى الحقيقة ..

ومن أجل ذلك يجب ألا يكون المُحقق طرفاً من أطراف القضية وإنما حكماً بين أطرافها ، ويجب عدم الخلط بين حياد التحقيق ، ونزاهة المحقق لأن عدم حياد التحقيق لا يشمل عدم نزاهة المُحقق ، بالإضافة إلى حالات الخطأ المهني الجسيم وهي حالات الخروج عن الحيدة دون قصدٍ من المُحقق ، وجميعها تؤدي إلى بطلان التحقيق ..

أهذه هي الحيدة والشفافية من المُحقق ..؟!

ثم من الذي أوحى إلى وكيل النيابة بأن يُسجل .. بحسب روايته .. ما جرى من هاتفه المحمول ، وهو الذي ذكر أنه كاد أن يختنق من شدة الزحام ، أليس هذا خرقاً للقانون ..

ولماذا لم يُضم هذا الهاتف إلى أوراق الدعوى .. ولماذا هو الذي شعر بالاختناق ، وفي القاعة من هو أكبر من أبيه .. ثم لم يذكر أحداً أن القاضي منع عُنوه أو أن يداً قد طالته لتمنعه من الخروج .. فكيف دخل الضباط ،وخرجوا إذاً .. وما هو مفهوم الاحتجاز أيها السادة ..؟

ثم لا حظوا كيف أضاف القاضي في مُذكرته بأن ما بدر منعه من أداء عمله من الذي أوحى إليه بذلك .. ثم ألا يعد ذلك تزويراً ؟!

ثم أخيراً .. ما غاية هذه الدعوى .. أن يُحكم على الزميل .. وأن تحكموا على المحاماة .. وأن يسكت صوت الحق في هذه الأمة .

تملكون ذلك .. ونحن نملك أيضاً حق الرد علي ذلك .. نملك أيها السادة أن نُثبت في محاضر الجلسات أن القاضي بدء الجلسة في الثانية عشر ظهراً في حين أنه أثبت أنها بدأت في التاسعة صباحاً .. على غير الحقيقة مما يعد معه تزويراً ..

نَمِلك أيها السادة أن نثبت أن القاضي قد أثبت في حكمه أنه تلقى تقرير التلخيص ، رغم أنه لم يكتب أصلاً ولم يُنطق به ما يعد مخالفاً للحقيقة ويعد معه الأمر تزويراً ..

نملك أيها السادة أن نثبت أنه لم يتم إيداع أسباب الأحكام في مدتها القانونية .. بل نملك أن نثبت أنه ليس هُناك أسباب على الإطلاق ..

نملك الكثير أيها السادة من أخطاء ترد يومياً ونغضُ الطرف عنها ، لأننا نقدر القضاء وجلال دوره .. وتصوروا مدى اضطراب العدالة لو أننا تمسكنا بكل ذلك ..

لكننا لن نفعل .. نعم .. ولن نفعل أي أمر من شأنه التهوين من مقامكم العالي .. فقيمتكم عندنا غالية وقامتكم في نظرنا عالية ..

أيها السادة الأجلاء ..

علموا شباب القُضاة أننا شركاء في الأمر وأن غايتنا واحدة ..

علموهم أن يتعاملوا معنا بالاحترام اللازم فنحنُ أولى بهذا الاحترام وتلك المودة من الضباط نزولاً عند نص المادة (49) من قانون المحاماة .

علموهم أن لنا دوراً لا يقل عن دورهم .. وفقا لنص المادة (1) من قانون المحاماة التي نصت علي أن " المحاماة مهنه حره تُشارك السلطة القضائية في تحقيق العدالة ، وفي تأكيد سيادة القانون ، وفي كفالة حق الدفاع " .

علموهم أن عمل المحامي بالنسبة للقاضي هو العدسة التي تكشف له التعاريج والمنحنيات الدقيقة التي يعتمد عليه الخصوم في تكييف الواقعة .. وأن القاضي مهما كان ذكياً وفطناً ، ومهما توافر له الوقت لبحث الخصوم في حاجة لذلك المنظار ..

علموهم أيها السادة أن المحامي ليس في مرتبة أدنى من القاضي ..لأن الأخير يجلس علي منصته العالية ، ونحن نؤدي رسالتنا وقوفاً .. فإنما المحامي أمام القاضي وأمام الناس ليُشهدهم ، ويُشهد الله قبلهم أنه رسول العدالة .. وأنَّ من طُرق العبادة ما نؤديه وقوفاً أو جلوساً.. فكلا الموقفين يستويان ، ومن الناس من يعبد الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ..

علموهم أن المحامي إنما يقف في مكان مُنخفض مرتدياً السواد حُزناً .. ليكون قريباً مع من قهرتهم شهوة الإنسان والسُلطان ليسمع أناتهم ،فيُرسلها إلى قلب القاضي ..

نحن بحاجة إلي أن نتصارح أيها السادة .. والأمر أكبر من أن نداري أو نهمس في شأنه .. وليس أمامنا سوى أن نأخذه مأخذ الجد لا هزل فيه ..

.. بقيت في كنانتي كلمة واحدة..

أجد من المناسب أن أُذكركم بها علَ الذكرى تنفع المؤمنين .. وهو يوم الحديبية .. عندما منعت قريش رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصدته عن المسجد الحرام والبلد الحرام ، فقال :

" والله لا تدعوني قريش إلى خُطة توصل فيها الأرحام .. وتُعظم فيها الحرمات إلا أجبت " .. صدق رسول الله ..

ما أحوجنا أيها السادة إلي تعظيم الحرمات .. وإلي وصل الأرحام ..

أيها السادة الأجلاء ..

هذه هي قضيتنا .. وهذا بعض من معاناتنا ..

وهذه هي قضية المدعي المدني والنيابة العامة .. جاءت خاوية على عُروشها .. فبئر مُعطلةٌ وقصر مشيد ..

فأي القضيتين أحقُ بالأمر ..؟

والأمر إليكم فانظروا ماذا تأمرون ..؟

قضايا لغويّة ونحويّة

الاقتراض اللّغوي بين اللغات 

الاقتراض اللّغوي ،أو الاستعارة اللغويّة مسالة بدیهیّة وجدت مذ وجدت اللغات نفسها من خلال اتصال أهلها معاً بسبل الاتصال الکثیرة حربية ، وتجارية، وجغرافية ، وحضارية  ، و بات معروفاً أن للاقتراض بین اللغات عموماً ثلاثة مسارب رئيسة مهمة: الترجمة،

والتعریب ، و الدخیل، واللغة التركيّة الحالیّة الجديدة والعثمانيّة من قبل، هی وليدة امتزاج باللغة العربية التي  دخلت  مع الفتح الإسلامي. یُقال: إن كثيراً من مفرداتها عربیّة، فالاقتراض بین العربية والتركية كثير، مفردات جمّة لم  یُلتفت إليها ،أو تُدرس فی اللغتین کلتیهما؛ لتشكّل قاسماً مشتركا في الهويّة الإسلامية الحضارية ، وإننا لمقتصرون هنا على نماذج تکون مفتاحاً یُدخل به إلى إدارة المسالة کاملا....:تأثرت العربية بغيرها من اللغات، وأثرت فيها، ولعل الفارسية، والتركية من أكثر اللغات التي أخذت من العربية، وأعطتها لعوامل كثيرة ،  وهناك من يرى  أنّ أصل اللغة التركية يعود إلى سلسلة (جبال ألْطاي) في شمال سيبيريا منذ قرون عديدة، ومن هناك انتشرت إثر تجوال البدو إلى أقطار عديدة مثل أسيا الصغرى وتركمنستان وكازخستان وأوزبكستان وأذربيجان. وفي مجموعة اللغات التركية ثلاثون لغة تقريبا. وتعود الكتابات التركية الأولى إلى القرن الثامن الميلادي ،ومن المعروف أن التركية بدأت باستخدام الحروف اللاتينية منذ ثلاثينات القرن الماضي بدلا من العربية. ونتيجة لاتساع رقعة الإمبراطورية العثمانية وصلت اللغة التركية إلى أبواب ڤيينا، وجزيرة العرب ومصر، وشمال أفريقيا وتطعمت اللغة بألفاظ دخيلة كثيرة من العربية وغيرها وهذه الألفاظ تُرّكت تسير على نهج القواعد التركية، والانسجام الحركي ، مع أن ّ اختلاف العلماء على تاريخ ولادة اللغة التركية إلا أن أكثر العلماء يروا أنها تنتمي لّلغات الألطية التي تعود تسميتُها إلى جبال التاي في شرق آسيا ونستطيع اعتبار أن ولادتها الحقيقية كان مع ولادة الإمبراطورية العثمانية ؛  وبالتفصيل فقد عُدّت اللغة التركية هي اللغة الرسمية فيها طوال فترة حكمها (1299 – 1922) وسمّيت بالتركية العثمانية , وهي مزيجٌ من اللغات الثلاثة : التركية ، العربية والفارسية معتمدةً الحروف العربية وكان متحدّثوا هذه اللغة من أبناء المدن والمثقفين ، أما أبناء الريف كانوا يتحدّثون لغةً أكثر صفاء” من اللغة التركية العثمانية وتدعى اليوم اللغة التركية الأناضولية، وفي عام 1932 أعلن مصطفى كمال أتاتورك وهو الرئيس التركي آنذاك عن إنشاء جمعية اللغة التركية مهمتها إصلاح اللغة التركية واستبدال ما أمكن من الكلمات العربية والفارسية بما يقابلها من الكلمات التركية وقد نجحت الجمعية بذلك , أما اليوم تعد اللغة التركية الأناضولية هي اللغة الرسمية لتركيا , والجدير بالذكر أن هناك حوالي مليوني شخص في ألمانيا يتحدثون اللغة التركية الأناضولية

 كما تنتمي اللغة التركية إلى اللغات الهندو-أوروبية وهي من الفصيلة الإلصاقية، (agglutination) أي إضافة لواحق إلى الكلمة مهمتها تبيان المكان والحركة وتتغير تهجئة اللفظة وفق سلسلة من القواعد العاملة ،ووفق الانسجام الحركي ،وقد يحدث أحيانا تبديل صوتي. مثل هذه اللواحق قد تضاف إلى نهاية الفعل ،فتضفي عليه معنى الإيجاب أو السلب. وهناك لواحق خاصة بالأزمنة والضمائر ومثل هذه اللواحق تقوم مقام حروف الجر. ومن سمات التركية أنها فونيطيقية، تكتب كما تلفظ، ولا يوجد فيها ما يقابل ال التعريف العربية ،ولا وجود أيضا للجنس أي لا فرق بين صيغة المذكر والمؤنث. تسبق الصفة الاسم ونمط الجملة العادي هو:مبتدأ/فاعل فمفعول ففعل. في التركية واحد وعشرون حرفا وثماني حركات وهي: a, e, I, i, o ö u ü وفي التركية ستّ حالات إعرابية، حالة الرفع وهي الصيغة المجردة من أي لواحق بعكس الخمس الأخرى. حالة الجر تنتهي بإحدى اللواحق: nin, In, un, ü وحالة النصب بواحدة من: i, I, u, ü وحالة الداتيِڤ أي المفعول غير المباشر, بمعنى نحو، إلى a, e، حالة الظرفية المكانية: da, de, ta, te، حالة الأپلاتيڤ أي التحرك من إلى، بواسطةdan, den, tan, ten .

بعض الأمثلة: ev معناه بيت وبإضافة اللاحقة de أي evde يصبح المعنى ”في البيت“ و evden معناه ”من البيت“؛ oda, odada, odadan أي: غرفة، في الغرفة ومن الغرفة على التوالي بدء الكلمات التركية من اليسار إلى اليمين.

التأثير التركي في القواعد العربية نادر جدا مثل اللاحقة -جي بالنسبة لأصحاب المهن، كندرجي، مكوجي، سفرجي، حربجي، خضرجي. وما وجود كلمات أجنبية في اللغات عامة إلا حقيقة واقعة والاختلاف ينصبّ على طبيعة الدخيل وحجمه. وتذكلر بعض المصادر أن عدد الكلمات الدخيلة على التركية من لغات أخرى تقدر بـ14 ألف كلمة ،وما يقارب نصفها مستمدّ من العربية ،والباقي من الفارسية والفرنسية (خاصة المصطلحات العلمية) ، وغيرها من اللغات..

ومن الكلمات التركية التي دخلت العربية:

أبله :أي الأخت الكبيرة أو المدرّسة.اختيار: أي العجوز، المسنّ، الشيخ، أدب سز: أي معدوم الأدب ، أدب خانة :اندثرت وحلت محلها الكلمة ”مرحاض“.  أرسلان وتلفظ رسلان وأصلان وتعني: الأسد ، قراصيا :بمعنى نوع فاكهة مجفف، أرناؤوط :أي ألباني وأرناؤوطي: أي صفة للفلفل الأخضر ، قروانة: أي صحن كبير، إناء للغسيل ،قريش: بمعنى جبن منزوع القشدة ،  قزمة :أي آلة حفر

 استمارة: أي نموذج للتعبئة،  أسطى/ أو استا: أي معلم وخبير وتدل أيضا على سائق السيارة ، أشكرا :أي بعلانية، على الملأ

 أصلان: تركي فارسي بمعنى ”الأسد“. آغا من أصل فارسي آقا وتعني: الأب أو العم الكبير، أو الأخ الكبير كما وتعني أيضا السيد الآمر والناهي، رئيس الخدم. أفندم أي سيد، لقب من efendimأفندي: أي السيد ذي الثقافة الأوروبية ،كذلك لباسه، efendi  والأصل يوناني

كديش: وهو الحصان الأعجمي الهجين للركوب والعمل، سريع المشي.ألماز: ألماس ،ألوس، ألوسي أي :رتبة عسكرية، قائد عشرة آلاف جندي ، الإنكشارية :أي العسكر الجديد في عهد السلطان اورخان، عماده من مسيحيي البلقان إثر تربيتهم على الإسلام.

أوضه :أي غرفة، أورمه: أي اللحم بالبصل أو جذع شجرة لتقطيع اللحم ، أوزي أو قوزي أي :لحم الحمل

 أونطه، أونطجي أي: الكسب غير الشرعي(نصاب)، أفيون بلدة تركية تزرع المخدر فسمي باسمها

 أوغلم أي مقام موسيٍقي ، أويه أي شريط مطرز أو مخرم

 أياغ أي أجرة مقدمة سلفا ،إيوان فارسي الأصل ومعناه شرفة، عرّب كليوان.

بابا غنوج أي الباذنجان بالطحينة، المتبّل في اللهجة الشامية. بابوج فارسي الأصل وهو الحذاء الحريري المزين بالذهب وهو للنساء

 بابور وهو الباخرة أو القطار البخاري وأصل الكلمة vapeurباغة وهي مادة صلبة شفافة، baga، بلاستك

 باشا أصله باش وهو الرأس وهو لقب رفيع المقام، الرئيس ، باشكاتب أي رئيس الكتّاب ، بالطو أي معطف، بتنجان وهو نوع من الخضروات ،برواز وهو إطار الصور عادة، pervaz

برغي(صمولة)، burgul برضه بمعنى ”أيضا“، birde برطمان أي إناء زجاجي

 برطيل، براطيل أي الرشوة ، برغل أي حبوب تدق مع اللحم ، برنجي أي حسن، جيّد وأصله على ما يبدو فارسي ويعني حلقة ذهبية للخلخال أو للزينة عامة ،برنية وعاء فخاري معروف منذ الحقبة العباسية ،بريزة أ ي عشرة قروش، منفذ كهرباء ، بريدج لعبة في ورق الشدّة والمعنى في الأصل واحد ثلاثة والاسم يرمز إلى اليد المفتوحة وثلاثة أياد منقبضة في اللعبة.

بس بمعنى فقط  وكفى، بسطرمة وهو اللحم المجفف والمتبّل، pastirma

بُشْت أي سباب قبيح ، بشكير أي منشفة والأصل فارسي ،بشناق أو بوشناق أي السلاڤ، أهل البوسنة

 بصمة أصلها باصماق وتعني وطأة القدم ومن ثم طبعة الابها،  بقجة أصله فارسي بغجة وهي صره ملابس العريس ،والبستان ، بقسماط وهو نوع من الكعك، peksimet أو الخبز اليابس ،بقشيش أو بخشيش ما يعطيه الزائر للخدم في الفنادق مثلا، فارسية الأصل دخلت التركية ومنها للعربية، bahsis ،بقلاوة نوع من الحلوى، balkavaبك، بيك من أصل فارسي ومعناها حكيم، مقدّس، لقب شرف

 بلكي وتعني التوقع والاحتمال، بيشليك أي فتحة جلباب بخمسة أزرة ،بكرج أي إبريق قهوة

 بلطة أي حديدة لشق الخشب ومنها بلطجي والفعل بلطج إلخ. بنفسج أي زهرة أو عطر ، بهار والجمع بهارات أي توابل ، بهلوان، بهلوي، فهلوي والأصل فارسي ومعناه الشجاع، البطل ، بوريكاس بمعنى العجينة المحشوة

 بوز وهو مقدم الفم ،واشتق منه الفعل بوّز واسم الفاعل مبوّز وفي اللفظة معنى سلبي واضح ،بوش بمعنى فارغ، والأوباش خليط بشري وقطاع طرق ،بول بمعنى طابع البريد ،بوظة أي نقيع مسكر،بوية وأصلها بوياغ ومعناها الطلاء ، بيجاما فارسي الأصل باجامه وهو السروال ثم لباس النوم ، تاوه أي المقلاة ، تتن من توتون أي الدخان، التبغ ،التخت أي السرير، مجلس الملوك، صندوق الثياب. تاطلي وهي الحلوى. تمبل/تنبل في الأصل كسلان ، تيته وهي الجدة،  جاويش/شاويش رتبة عسكرية وفي الأصل كانت تعني ”الحاجب“. جْرجْف وهي تعني غطاء السرير أو الحرام، ويلفظ شرشف،  چزوز مشروب معروف وأصله من الفرنسية بمعنى صودا...

 جلبي/شلبي وهو لقب ذوي الفضل، السيد، الخواجة. جمرك أو كمرك اي رسوم بضاعة

 جدعنجي أي مقدام، شجاع. جورة أي حفرة. جوقة اي فرقة فنية،  جي: لاحقة للدلالة على مهنة أو لقب.

حنطور أي مركبة يجرها حصان ،حياصة وهي حزام لتثبيت السرج على الدابّة.

خازندار وهو وزير التموين ، خازوق من قازيق وهو وتد بطول ٧٠سم وأكثر أجلس عليه من حُكم عليه بالإعدام.

خاشوقة أي الملعقة، خانم، فارسي تركي ومعناه سيدة ،خديوي وهو حاكم. خربشة وهي الكتابة غير المقروءة.

خرج ما يوضع على سرج الدابة للحمولة.

خواجة وهو السيد، لقب للأجنبي ، خورشيد من أصل فارسي وتعني الشمس ،دادا تركية فارسية وتعني غلام، جارية

 دايه أي مربية ، دَد/دَدَه، تركي فارسي وهو حيوان مفترس واستخدمه العثمانيون لتحذير الأطفال، وأصبح بمرور الزمن دديه

 درابزين، تركي فارسي وهو معروف ، دزينة وهي مجموعة من ١٢ وحدة ،دستور أي إذن  ،دشار من جشار وتعني مرعى الخيل ومن هنا داشر بمعنى فالت. دفتر وهي كراسة للبيانات ،دندرمة وهي حلوى مثلجة ، دوزن أي ضبط الآلة الموسيقية  ،دوغري أي المستقيم، الذي يتحدث بعلانية وفي التركية المعنى: صحيح، صادق.

دولاب أي قطعة أثاث، إطار السيارة ،دونم أي مساحة ألف متر مربّع في الأصل تعني مساحة من الأرض يمكن حراثتها في يوم واحد ويكون طولها أربعون خطوة وكذلك عرضها. رف أي :لوح معلق لوضع الأشياء ، رواق قسم من بناء ،زعر، زعار، والمفرد أزعر أي المنحرف، قاطع الطريق ، زنبرك أي ميزان ،سجق أي المحشو من أمعاء البهيمة ،سرسري أي العاطل عن العمل

 سقالة وهي لوحة خشبية يقف عليها البناؤون، وأصبحت إسكلة وتعني الميناء. ،ستكر :أي سدّ نيعك ، وفي بيت لأسعد رستم: والآن خذها في لغات أربع: تِزِفو وسكتر سد نيعك بل وشَطَب. سنجق، صنجق وهو العلم والراية  ،شبشب أي مداس خفيف ، شختورة وهي المركب الشراعي لنقل المؤن ،شخشير وهو نوع من السراويل الواسعة  ،شربجي، جوربجي وهو مقدم الطعام للجيش ،شرموطة أي خرقة ، صفة لقلة الأدب ، شنطة وأصلها جنته وهي فارسية الأصل وتعني جعبة الصياد أو كيس الدراويش واليوم في العربية تستخدم في بعض اللهجات العربية بمعنى حقيبة صغيرة كانت أم كبيرة.

شوربة أي حساء ، شيش أي شباك خارجي، أو سيخ  ،شيش بيش معنى الكلمة الأولى بالفارسية ستة والثانية بعناها خمسة بالتركية

 شيشلك أي اللحم المشوي عادة لحم الضأن، شيش وهي السيخ ثم اللاحقة ،شيشه أي أداة تدخين  ،شادر أي سرادق

 شاليش من جاليش أي مقدمة الجيش في العصر الأيوبي ،واليوم معناه خصلة شعر في الرأس  ،صاج أي نوع من الصفيح

 شوارما وهي معروفة ، شوبك من الفارسية والمعنى معروف.....

 شيش/شوش برك وهي أكلة تحضر من العجين واللحم وتطبخ باللبن، ويسميها البعض بـ"آذان الشايب" صاغ ده ، صاغ سليم أي عشرة مليمات  جهة، يمين ، صاكو/ساكو أي الجاكيت  ،طابو تسجيل رسمي للعقار وفي الأصل وثيقة الشراء.

طابور وهو صف من الناس، من تابور ويضم ما بين ٨٠٠ إلى ١٠٠٠ جندي من المشاة ورئيسهم البكباشي.

طاجن من أصل يوناني وهو المقلاة اليوم ، طاسه، والأصل طاس، فارسي الأصل وهو وعاء نحاسي للشرب

 طز: يروى أن الحكومة العثمانية كانت تفرض ضرائب على التجار في جميع البضائع باستثناء (الملح)

فكان التجار العرب إذا مروا من عند المفتشين الأتراك يقولون لهم (طـز) !أي لا يوجد معنا إلا ملح (والملح كما قلنا لم تكن عليه ضرائب) .وشيئا فشيئا صار التجار يقولونها بهدف السخرية من المفتشين الأتراك .وهكذا أصبحت هذه الكلمة تعني معنى سيئاً .بينما هي في الأصل ليست إلا بمعنى (ملح)!

  طازه أي طازج  ،طربوش وهو معروف ، طرابيزة أي منضدة صغيرة...

 طرشي أي المخلّل ، طشت وهو صحن كبير للطعام او للماء.

طقم أي أسنان صناعية ،طواشية وهم مماليك خصيان كانوا يخدمون السلطان وحريمه...

طوز أي غبار ،عشّى أي طبّاخ ، عفارم :وهي عبارة تشجيع ، عكروت أي مهرج السيرك عابث، سيء المسلك..

 عنبر أي مخزن صالة كبيرة ، عربة أو أربة بمعنى السيارة ، غْريبة أي نوع من الكعك ،كفته وهي أكلة معروفة

 كفكير أي ملعقة كبيرة ذات ثقوب كمصفاة ،كلبجة أي قيد ،كندرة أي الحذاء ،قوشان وثيقة رسمية لميلاد الشخص أو لملكية عقار

 فانوس أي مصباح ذو عروة من أعلاه ، فرمان أي مرسوم سلطاني ،فشنك أي فشك أي نوع من البارود ،فنجري أي مسرف

 فندق إي نُزُل،  ،قازان أي الخزّان ،وقازان أي إناء كبير لغي الماء....

 قشلة وأصله بالتركية قيشلق وهو منزل الشفاء وأطلق على قلاع الجنود ومراكز إقامتهم في العصر العثماني المتأخر....

 قفطان أي نوع من الكسوة  ،قلبق/كلبك غطاء رأس ، قورمة أي اللحم بالبصل، لحم الخروف يطبخ بدهنه...

 قوزي أي الخروف الصغير، الحمل ، كار، كارات : عمل ،مهنة  ،كباب بمعنى اللحم المشوي وليس بالضرورة مشويا

 كازوزة أي مياه غازية  ،كبّوت أي المعطف ،كرباج أي سوط ،كرخانة أي بيت الدعارة في الأصل تصرف منفلت في نهاية حفلة تجل.

كريك أي أداة عمل في البناء والزراعة ،كشك من الفارسية  ،كمساري أي محصل تذاكر، كنافة نوع من الحلوى في التركية كُنيفة وتعني صبية بشعة. كنبه أي أريكة ، كنكة أي إناء صنع القهوة ،مازا أي نوع من المقبلات تؤكل مع احتساء المشروبات الروحية...

 ماسورة أي أنبوب ، مسطبة / مصطبة وهي منصة الأمراء أو تلك التي يستعملها تجار البضائع والعبيد ، مشوار أي سير متعب

 منديل ومعناه معروف  ،مارستان أي مستشفى المجانين  ،ميز أي مطعم وناد للضباط

 نوبشي أي نوبتجي أي القائم بالعمل في دروه ،مناوب  ،نزاكة أي نزاهة أي ترف

 نشادر وهو مركب كيميائي  ،نملية خزانة لحفظ الطعام، أقرها مجمع اللغة العربية

 نيشان وهو وسام، هدية العروس ، هانم أي سيدة...

 همشري معناه الصاحب ويستعمل في بعض اللهجات العربية الحديثة بمعنى ”مهمل من حيث الملبس والتقاليد“.

هوارة وهم جنود الاستطلاع  ،يازجي أي كاتب وهو من ياز أي يكتب واللاحقة التي تدل على المهنة

 يافطة أي لافتة ، ياقة أي رقبة القميص أو الجلباب ، يخني أي بصل مطبوخ بالطماطم  ،يماخانة أي مطعم

أمّا الكلمات العربية  في التركية ،و تقدر بأكثر من 6000 كلمة مشتركة بين اللغتين العربيّة، والتركيّة.....

كواكب ونجوم

مرتضى بن محمد الزبيدي لغوي عصره

هو مرتضى محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزاق بن عبد الغفار بن تاج الدين. ولد عام 1145 هـ، الموافق عام 1732م، في( بلگرام ) وهي بلدة في الهند ،ونشأ في زَبيد في اليمن، ورحل إلى الحجاز، وأقام بمصر. وتوفي فيها، عام 1205 هـ، 1790م. نشأ في زبيد من بلدان اليمن، وكان الفيروزآبادي (ت817هـ/1415م) صاحب القاموس المحيط قصد إليها قبله، وهذا ما حفز الزبيدي إلى قراءة قاموسه والانصراف إليه في حداثته، رحل عن زبيد وشرع يطوف في ديار العرب منذ يفاعته، وتنقل في الحجاز بين مكة والمدينة والطائف، وأخذ عن شيوخ فيها، وقصد أخيراً إلى مصر فطاب لـه فيها المقام حيث أمضى في رحابها بقية حياته، وقد وجد في مكتباتها كل ما يحتاج إليه من أمهات الكتب التي أعانته في تأليف كتبه الكثيرة، فذاع صيته واتجهت إليه الأنظار لما حواه من علم غزير وإطلاع واسع، وأُذِن لـه بالتدريس في القاهرة فسعى إلى سماعه كثير من رجالات الأزهر ،وطلاب العلم، وكان يحاضرهم في الحديث وصحيح البخاري ،كان لطيف الشكل حسن الصفات بشوشاً وقوراً ، وقد تزوج من زبيدة بنت ذي الفقار الدمياطي ،وعاش سعيداً معها ،ثم فجع بوفاتها ولزم قبرها أياماً طويلة، ورثاها بقصائد ومقطعات جميلة العبارة حسنة السبك. بين “تاج العروس” و”لسان العرب” كان مرتضى الزبيدي يحسن عدة لغات منها التركية والفارسية ،وبعضا من لسن الكرج ،وله عدد كبير من المؤلفات والكتب القيمة، لكن بعضها أصبح في طي النسيان والضياع، فقد خلف مرتضى الزبيدي حوالي 107 عملا أدبيا، بين رسالة وكتاب، أهمها وأضخمها شرحه على القاموس المسمى بتاج العروس من جواهر القاموس، ومنها شرح كتاب إحياء علوم الدين للغزالي أملاه في 11 عاماً ،وفرغ منه سنة 1201هـ ولامه سلطان المغرب على تضييع وقته فيه، في رسالة ذكرها الجبرتي، وطبع الكتاب في عشرة مجلدات ضخمة. ومنها رسالة سماها (قلنسوة التاج) في إجازة الشيخ محمد بن بدير المقدسي برواية تاج العروس من جواهر القاموس ،وكان معجمه الكبير “تاج العروس من جواهر القاموس” أهم مؤلفاته وبه اشتهر، ويعد من أوسع المعاجم العربية، ولا يضارعه في حجمه أو يفوقه إلا “لسان العرب” لابن منظور. وقد أمضى في تأليفه أربعة عشر عاماً كان يواصل فيها عمله من دون انقطاع، إذ بدأ في تأليفه نحو 1174هـ وهو في مصر وأنجزه سنة 1188هـ. أتيح للزبيدي، بحكم تأخره في الزمان، أن يفيد من الذين سلفوه من اللغويين الذين تناولوا القاموس، وكان من دوافعه إلى تأليف معجمه اقتضاب “المحيط” في مجمل مواده وانطواؤه أحياناً على بعض الغموض وإغفاله ما كان يحسن إيراده، وقد بذل جهداً طيباً في تناول مواد القاموس، وكان ينقل من مصادر متعددة بعضها مفقود اليوم ، وقد بلغ عدد المصادر التي استعان بها كما يذكر في مقدمة معجمه مئة وعشرين كتاباً. وكان يحرص على تنسيق مادة القاموس مع سائر ما يتعلق بها عند أسلافه فيرتبها بحيث تتداخل وتنسجم مع أصول “المحيط”، وقد يضيف مستدركات مما فات الفيروز آبادي ذكره. كان الزبيدي يكتب معجمه بنفسه، ثم يسلم بعد ذلك مسوداته إلى تلاميذه ليبيضوها ويراجعوه فيها، وقد قال في مكتوب لـه إلى أحد شيوخه: “ومما منّ الله تعالى عليّ أن كتبت على القاموس شرحاً غريباً في عشر مجلدات كوامل، مكثت مشتغلاً به أربعة عشر عاماً وشهرين”. وحين أنجز تأليف معجمه احتفل بذلك وأولم وليمة حافلة جمعت طلاب العلم وأشياخه ،وقد أشاد بعمله كثيرون ،وقرظوه شعراً ونثراً.

بين عشق اللغة، وعشق الزوجة لم يشتهر الزبيدي بعشق اللغة فقط، بل اشتهر أيضا بعشقه الكبير لزوجته عشق آخر، ملأ حياته حتى قضى، ما بقي من عمره، باكياً عليها، بعد وفاتها. هذا العاشق الوفي لزوجته ، الذي جمع بينها وعشق اللغة، اختار أن ينقطع عن الناس ويهجر الدنيا ويردّ هدايا السلاطين، جامعاً الناس حول قبرها، مقدما لهم الطعام والشراب، ومجزياً بالمال من يقول رثاء فيها، وبلغ حزنه أنه قال في رثائها: إنه حتى لو مات فإن عظامه في القبر ستبكي، هي الأخرى، على زوجته ، أي إن حزنه عليها فاق حزنه على نفسه وأفصح الزبيدي ذاته، عن مدى الحزن الذي أصابه إثر وفاة زوجته، فيعلن في قصيدة رثاها بها: سأبكي عليها ما حييتُ وإن أمُت  ***  ستبكي عظامي والأضالعُ في القبرِ!

كان الزبيدي عاشقاً لزوجته التي يشار إليها باسم السيدة “زبيدة" وأعلن عن وفاة زوجة مؤلف “تاج العروس”، سنة 1196 للهجرة. ومع اشتهاره بين العامة والخاصة، ومكاتبة الملوك له، ومنهم السلطان عبد الحميد، إلا أن هذا لم يمنعه من الحزن الشديد على زوجته التي فارقت الحياة. فحزن عليها حزناً شديداً، ثم أسس لها مقاماً على قبرها ومقصورة، وجعل أهل الحرفة يزينون المقام بالقناديل والستائر. ويقال إنه لزم قبرها أياماً، لا يفارقه. وتعبيراً عن مدى حبه لزوجته، فقد اشترى قطعة أرض إلى جانب مدفنها، وبنى عليها منزلاً صغيراً، وخصصه لأمّ زوجته!، وكان هو نفسه يبيت فيه، بعض الأحيان. كتبه ومؤلفاته كثيرة منها: تاج العروس في شرح القاموس – عشرة مجلدات ،وترويح القلوب في ذكر ملوك بني أيوب ،التكملة والصلة والذيل للقاموس – في مجلدين ضخمين ،الوسائل لمعرفة المكاتبات والرسائل ،وقال عنه الزركلي في ترجمته: “زاد اعتقاد الناس فيه حتى كان في أهل المغرب كثيرون يزعمون أن من حج ولم يزر الزبيدي ويصله بشيء لم يكن حجه كاملا”. وقال عنه أحد أعلام المغرب الحافظ ابن عبد السلام الناصري في رحلته لما ترجمه فيها: “ألفيته عديم النظير في كمال الاطلاع والحفظ واللغة والأنساب، فهو والله سيوطي زمانه، انخرق له من العوائد ما انخرق لابن شاهين وابن حجر والسيوطي”. وقال عنه عالم مصر الشمس محمد بن علي الشواني الأزهري: “شيخ الإسلام علامة الأنام، وواصل الأسانيد النبوية أبو الجود وأبو الفيض”. وقد ترجمه من متأخري المصريين محمد إبراهيم فني المصري في جزء صغير سماه “الجوهر المحسوس في ترجمة صاحب القاموس”. وفي ترجمة له في “فهرس الفهارس” لعبد الحي بن عبد الكبير الكناني، فيتم تعريفه بالتالي: “الواسطي العراقي، أصلاً، الهنديّ مولداً، الزبيدي تعلّماً وشهرة، المصريّ وفاةً، الحنفيّ مذهباً، القادري إرادة، النقشبندي سلوكاً، الأشعري عقيدة”. ويقول الكناني عن الزبيدي في ترجمته له: “هذا الرجل كان نادرة الدنيا، في عصره ومصره، ولم يأت بعد الحافظ ابن حجر وتلاميذه، أعظم منه اطلاعاً ولا أوسع رواية، ولا أعظم شهرة”. ويضيف: “ولعظم شهرته كاتَبَه ملوك النواحي من الترك والحجاز والهند واليمن والمغرب والسودان والجزائر”. مؤكداً أن من أخذ عنه من “ملوك الأرض” هو خليفة “الإسلام في وقته، السلطان عبد الحميد الأول”. ومن شيوخه رضي الدين عبد الخالق النمري الزجاجي الزبيدي الحنفي، وأبو عبد الله محمد علاء الدين الزجاجي، وأبو عبد الله محمد الشرفي الفاسي نزيل طيبة. وكان المؤرخ عبد الرحمن بن حسن الجبرتي (ت1237هـ/1822م) أبرز تلاميذه. وفاته توفي المرتضى الزبيدي بمرض الطاعون في شهر شعبان من سنة 1205 للهجرة، بعد أن صلى صلاة الجمعة في مسجد الكردي القريب من داره، فدخل داره واعتُقل لسانه في تلك الليلة، وظل في فراشه مريضا حتى توفي في يوم الأحد.

قضايا أدبية ودراسات نقدية

 صورة العيون في اللغة والشعر:

فرقت لغة القرآن الكريم بين دلالة الأعين ودلالة العيون، فقد وردت (الأعين) في القرآن الكريم في اثنين وعشرين موضعا، ولم تذكر فيها جميعا إلا بمعنى واحد فقط، وهو معنى (العين المبصرة).
مثلما نلحظ في الآيات الكريمة الآتية :
- " يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور "
- "وفيها ماتشتهيه الأنفس وتلذ الأعين"
-" ولهم أعين لا يبصرون بها "
-" ترى أعينهم تفيض من الدمع "
-"فإنك بأعيننا"،ووردت ( العيون) في عشرة مواضع من القرآن الكريم، ولم تدل فيها جميعا إلا على معنى واحد فقط، وهو معنى (عين الماء) مثل ما نلحظ في الآيات الكريمة الآتية :
- " وفجرنا الأرض عيونا ".
- " وفجرنا فيها من العيون "
-" إنّ المتقين في جنّات وعيون ".
- " إن المتقين في ظلال وعيون ".
-" فأخرجناهم من جنات وعيون ".
ومن العجيب أننا لا نجد هذه التفرقة الدلالية بين هاتين الصيغتينفي لغة العرب ولا في دواوين الشعر العربي منذ العصر الجاهلي و حتى الآن ،  فقد كانوا يستعملون ( العيون) للدلالة على العين المبصرة، وهذا شائع في الشعر العربي ولا حصر له.
الأمر الذي يؤكد لنا تميز لغة القرآن الكريم وارتقاءَها عن لغة العرب أنفسهم ،كما يؤكد بما لا يدع مجالا للشك  في مدى صدق قوله سبحانه:" ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا"، والأعجب أنّه مع وضوح هذه الظاهرة اللغوية القرآنية الفريدة وضوح الشمس في وضح النهار فإننا نجد جمهور النحويين العرب وجمهور أصحاب المعاجم العربية يصرون إصرارا على أنه ليس ثمة من فرق بين الأعين ،والعيون سوى أن الأولى جمع قلة والثانية جمع كثرة، غير عابئين بهذه التفرقة الدقيقة التي آثرتها عبقرية الأداء القرآني بين الصيغتين، على كل حال فالعيون
 مرآة النفوس تعكس مافيها بلا زيف , حتى إن حاول أصحابها غير ذلك هي بكل أشكالها , وألوانها وأحجامها.. محيط صاخب ,ولكنه شفاف رقيق تستطيع أن ترى أعماقه, وكنوزه كما تستطيع أن تكتشف جموحه , وتقلبه , وصخبه , وغدره , وحبه .. إنها (الترمومتر )الصادق والواضح والصريح لقياس مشاعر الإنسان الحقيقية، فلغة العيون أكثر بلاغة , وأكثر صدقا من لغة اللسان ,تفصح عن أسمى المشاعر ,كما تفصح عن أبغضها . وكم من عيون تسطو عليك فتحسبها طلقات رصاص ,أوأشعة ليزر تفصح عما يدور بنفس صاحبها وإن أخفتفقد رصد الأدب وعالمها الغريب ومافيه من تناقضات وأسرار...سمت العرب ألوان العين وأشكالها بدقة

*النجل: سعة العين .

* الدعج : أن تكون شديدة السواد مع سعة المقلة .

* الكحل : سواد الجفون من غير كحل .

* الحور : اتساع السواد فيهما .

* الشهلة: حمرة في سوادهما .

* البرج: شدة السواد والبياض فيهما .

* الوطف: طول الأهداب وتمامها .

* الزجج : امتداد الحاجبين ودقتهما .

* البلج: السعة بين الحاجبين .

بعض أجزاء العيون :

وقد أطلق العرب بعض الأسماء المتعددة على بعض أجزاء العيون منها :

٭ اللحظ: وهو مؤخرة العين الذي يلي الصدغ .

٭ الموق: وهو طرف العين الذي يلي الأنف وهو مخرج الدمع .

٭ المحجر: وهو فجوة العين وهو ما بدأ من البرقع والنقاب .

٭ الوصف: وهو كثرة شعر العينين مع استرخاء وطول ،ونقف حائرين حتى الآن أمام العيون وأيهما الأجمل، الأدب العربي المعاصر زاخر بالتغزل في العيون وفي جمالها وأكثر الغزل الذي قيل في العيون يدور حول الشكوى والتوجع من سهام العيون . يقول ابن أبي حجلة :

كل الحوادث مبدأها من النظر      ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة فتكت في قلب صاحبها         فتك السهام بلا قوس ولا وتر

والمرء ما دام ذا عين يقلبها        في أعين الغيد موقوف على الخطر

وعن مدى تأثير العيون لم يجد الشاعر جرير ما يصف به العيون سوى الاستشهاد بأبياته المشهودة التي طالما رددها الكثيرون إعجابا :

إن العيون التي في طرفها حور          قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به  وهن اضعف خلق الله إنسانا

اتبعتهم مقلة إنسانها عزق هل           ما ترى تارك للعين إنسانا

* يقول الشاعر نزار قباني :

إني أحبك عندما تبكينا       وأحب وجهك غائماً وحزين

الحزن يصهرنا معاً ويذيبنا  من حيث لا أدري ولا تدرينا

تلك الدموع الهاميات أحبها   وأحب خلف سقوطها تشرينا

بعض النساء وجوههن جميلة    وتصبر أجمل عندما يبكينا

وهنالك تصنيف آخر لأنواع العيون:

العين المخدرة :فهي عين تائهة حائرة حزينة ترتسم عليها علامات الأرق ، وتدل على أن صاحبها يهزم بلا مقاومة ، ولايعتمد عليه مطلقاً ؛لأنه يضر أكثر مما ينفع .

العين الثعلبية :فيها دهاء ومكر ولؤم ، وكأنها عين صقر يوشك أن ينقض على فريسته ، وتدل على ذكاء ممزوج بدهاء ، وصاحبها شعلة نشاط يركن إليه في الأعمال الخطيرة التي تتطلب حسن تصرف، وهو شخص جامد لايعرف المجاملات .

العين النمرية أو الصارمة :وكأنها مختبئة وتحيط بها هالة قاتمة تنظر بترقب وحدة غامضة ، تدل على أن صاحبها إما حاقد ومعقد نفسياً من كثرة الهموم ،أو مظلوم لايملك قوة ترد عنه الظلم ومغلوب على أمره العين الغائرة يكون صاحبها ثابتاً في نظرته ،لابسمة فيها ولاحزن بل الصرامة وعدم الإنكسار والثقة القوية بالنفس ، وتدل على الجدية في العمل والدقة وعدم المجاملة .

العين الطيبة :فهي أجمل العيون وأكثرها راحة ، تنطق بالصفاء والنقاء والوفاء ، وتدل على طيبة قلب صاحبها وثقته وحسن ظنه ،ونقاء سريرته ، وصاحبها يتعب في حياته لأنه يثق في كل الناس ، وهو عاقل ينشد المثالية ويحب الهدوء و السلام .

العين الضاحكة :هي الصافية المبتسمة كأنها عيون طفل ، تتسم بالبريق وتدل على نقاء النفس والمحبة والقبول صاحبها قليل الهم سعيدالحال مرهف الحس محبوب من الكل .

العين الصفراء :هي العين الباهتة الممزوجة بصفرة وغشاوة ، غير مركزة في نظراتها ، وكأن صاحبها مصاب بمرض كبدي أو في العين نفسها وذلك بما اكتسب من ملامح الحسد واللؤم ، ولايفسح مجالاً للتفاهم ويحمل غلاً ،لذا نقول على من يحمل مثل هذه الصفات إنسان صفراوي .

العيون الجريئة :هي متسعة الحدقة ، ثابتة النظرة ،قوية ،وتدل على الإنطلاق والتحرر مع طيبة القلب ، صاحبها شجاع ، ونادراً ماترتع عيناه في  أثناء الكلام ، يحب المزاح ، مخلص لمن يحبه ويقسى على من يعاديه .

العين الشريرة :هي جاحظة غير مستقرة ، تعلوها مسحة الكبر والتعالي وتدل على عقدة النقص ، صاحبها أسود القلب لايرحم ، وهو في الحقيقة جبان ولايؤتمن ، معقد وحقود .

العيون المنكسرة :هي كثيرة الحركة والالتفات ، فتدل على كثرة اللمز والغمز ، تترجم مايجول بخاطر صاحبها ومايضمره من استخفاف لمن ينظر إليه ، وهو يفتقد الشجاعة ويمتلك الأنانية والتعالي والسخف العين الغمازة هي العين المغمضة أغلب الأحيان ،عليها مسحة حزن وندم لحرمان أو تأنيب ضمير ولوعة في النفس على فقدان شيء غالي ، فالإحساس بالذنب يكسر العين

العين البريئة :فيها ثبات مع صفاء الحدقة وابتسامة المنظر مع البراءة المتمثلة في الشكل العام وتشعر بمحبة صاحبها والإطمئنان إليه ، وتدل على طيبة قلبة ،وفي بعض الأحيان يكون ساذجاً مما يسهل الضحك عليه من قبل المخادعين

العين الحنونة :كأنها عين أم حنون على طفلها ، فيها مسحة الشفقة والرحمة ورقة الإحساس ، وفيها شفافية وتدل على الصدق والإخلاص والحب الصافي ، وعلى الحرص والإيثار والتضحية ، تطمئن القلب وتفرح النفس وتزرع الثقة .

العيون الجاحظة :فيها جحوظ خفيف ترتسم فيها علامات الحيرة وابتسامة بلهاء مع تحرك الجفون بارتعاشة مرتجفة تدل على ضعف صاحبها ، مع مكر بلابصيرة وتقلب وحيرة العين البلهاء تعبر عن ثورة أو خوف أو إعجاب ، فهذا الجحوظ

يعبر عن مشاهدة أو سماع شيء مثير حزناً أو فرحاً ، وتدل على أن صاحبها مفرط الحساسية تجاه مايراه ، ولايجد وسيلة للتعبير إلا عينيه ، فهو طيب لايعرف الخبث ولا اللؤم

العيون الناعسة :وهي العيون التي يتميز اصحبها بالهدوء وحسن التصرف إلا انها تكون خائنة في اغلب الأوقات .

يا ناعس الطرف لا ذقت الهوى أبداً

أسهرت مضناك في حفظ الهوى فنم

ترنو بطرف فاترٍ أوهن من حجة نحوي

ثم ان العيون الفاترة الناعسة علامة على الدلال والدلع فكم وكم مات فيها من مغرم

العيون الحزينة :وهي العيون التي أرهقتها الدموع وأصحابها يتميزون بالحكمة وروعة الروح اقرب إلى الحكماء في تعاملهم وتصرفاتهم فهم غريبي الطباع .من سماتها الوفاء ولكنها قد تكون خداعه في أكثر المواقف .

لغة العيون:

أحيانًا ترى أشخاصًا تحبهم بعد طول غياب، فترى في أعينهم فرحة اللقاء، وكما يقال: "عيناه ترقص من الفرحة " ، وأحيانًا أخرى تقابل أشخاصًا يحاولون مجاملتك بابتسامة صفراء، لكنَّ أعينهم تفضحهم وتبدي ما يخفون؛ فالعين مرآة الروح، كما يقول المثل الأجنبي القديم: بعض الأصدقاء لا يجيدون التعبير عن مشاعرهم شفاهةً، لكن ذوي المشاعر المرهفة يفهمونهم من أعينهم . وقديماً قال الإمام الشافعي عن صاحبه وحبيبه :

مرض الحبيب فعُدته فمرضت من حزني عليه

جاء الحبيب يزورني فبرئت من نظري إليـــه

هل تعلم إنَّ بإمكانك أن تقنع مستمعيك بعينيك كما تقنعهم بكلماتك، وأن تريهم في عينيك مدى اقتناعك بفكرتك، وبعينيك أيضًا يمكنك أن تقيس درجة انتباه مستمعيك، وتلحظ تركيزهم من أعينهم !!!

 

كيف يمكنك استخدام عينيك بفاعلية أمام مستمعيك؟

 

(1) اعرف جيدًا ما الذي ستقوله، حتى لا تصرف جهدك الذهني إلى تذكر ترتيب الأفكار والكلمات، وذلك يحتم عليك التحضير الجيد والتدريب الكافي . 

(2) ابْنِ مَمَرًّا بصريًّا متصلاً بينك وبين المستمعين، وتذكَّر أنَّه مهما كبر عدد المستمعين، فإنَّ كل مستمع منهم يريد أن يشعر أنَّك تكلِّمه هو شخصيًّا. وتستطيع أن تحقق ذلك بالطريقة البسيطة التالية 

 في أثناء حديثك اختر شخصًا معينًا وانظر في عينيه حتى تبني بينك وبينه خط اتصال بصري [من 5 إلى 10 ثوان، أي ما يوازي جملة واحدة تقريبًا] ثم انقل بصرك إلى شخصٍ غيره. وهذا شيء سهل حدوثه نسبيًّا بالنسبة للأعداد الصغيرة، أمَّا إذا كنت تتحدَّث إلى مئاتٍ أو آلاف، فهذا أمرٌ مستحيل بالطبع، وفي هذه الحالة اختر فردًا أو فردين من كل قطاع، وابنِ جسرًا بصريًّا بينهما، وبالتالي سيشعر كل فرد أنَّك تكلمه هو مباشرة .

(3) لاحظ رجع الصدى البصري، في أثناء حديثك يستجيب لك مستمعوك برسائلهم غير اللفظية الخاصة، فيجب أن تكون عيناك نشيطتين حتى تلتقط هذه الرسائل، وتعرف ما التصرف الذي سيُبنَى على هذا الأساس .

فإن كان رد فعلهم إيجابيًّا فما عليك إلاَّ أن تستمر فيما أنت عليه، ولتبشر بنجاحك، ولتحاول توطيد صلتك بمن استجابوا لك بصريًّا، بأن تخصهم بابتسامة خاصة ونظرات أعمق .

أمَّا إن كانت انطباعاتهم [ردود أفعالهم ] سلبية، فلتنظر ما السبب في ذلك؟ فإن كان سببًا خارجًا عن إرادتك ،فحسبُك الله ،أمَّا إن كان السبب منك، فلتحاول أن تغيِّر من نبرات صوتك، أو تضيف بعض المرح والدعابة إلى حديثك، أو بعض القصص والأشعار، ولتراقب الأعين، وأي الموضوعات كان أشدهم جذبًا لانتباههم .وإن كان في مظهرك شيء يشتت انتباههم، فلتحاول إصلاحه إن أمكن ذلك .إنَّ لغة العيون لغة موحَّدة يفهمها كل الناس مهما كانت أوطانهم وأجناسهم وألسنتهم، فلنحرص على تعلمها ،قال تعالى: ( فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت)

وقال الشاعر :

إن العيون لتبدي في نواظرها     ما في القلوب من البغضاء والإحن

وقال الآخر :

العين تبدي الذي في قلب صاحبها     من الشناءة أو حب إذا كانا

إن البغيض له عين يصدقها          لا يستطيع لما في القلب كتمانا

فالعين تنطق والأفواه صامتة        حتى ترى من صميم القلب تبيانا

................................

يقول الفرا:

حدثتني عيناك سبع لغـــــات       يعجز الشعر عن حديث العيـون

 مثلها الصبح في شروق الصحاري    مثلها السحر في الغمام الهتــون 

كخيول من مطلع الشمس همـت         بوثوب أو باقتحام الحصـــون

 رب سـهم بنظرة منك يغــزو         جيش فتح الإسكندر المقدونــي 

فتعالي ومزقي وجه حزنـــي          وأقلقي هدأتي وفكي سجونــي

نعم إن العيون ليست وسيلة فقط لرؤية الخارج ،بل هي وسيلة بليغة للتعبير عما في الداخل أي ما في النفوس والقلوب ونقله إلى الخارج ،فهناك النظرات القلقة المضطربة وغيرها المستغيثة المهزومة المستسلمة ، وأخرى حاقدة ثائرة ، وأخرى ساخرة ، وأخرى مصممة ، وأخرى سارحة لا مبالية ، وأخرى مستفهمة وأخرى محبة ، وهكذا تتعدد النظرات المعبرة وقد سمى القرآن بعض النظرات

( خائنة الأعين) والإنسان في تعامله مع لغة العيون يتعامل معها كوسيلة تعبير عما في نفسه للآخرين ، وكذا يتعامل معها كوسيلة لفهم ما في نفوس الآخرين .

التعبير الأمثل بالعيون :

إذا أردت إيصال مرادك بعينيك فاحرص على الأمور الآتية :

  • أن تكون عيناك مرتاحتين في أثناء الكلام ما يشعر الآخر بالاطمئنان إليك والثقة في سلامة موقفك وصحة أفكارك .
  • تحدث إليه ورأسك مرتفع إلى الأعلى ، لأن طأطأة الرأس أثناء الحديث ، يشعر بالهزيمة والضعف والخور .

-لا تنظر بعيداً عن المتحدث أو تثبت نظرك في السماء أو الأرض أثناء الحديث ، لأن ذلك يشعر باللامبالاة بمن تتحدث معه أو بعدم الاهتمام بالموضوع الذي تتحدث فيه .

4- لا تطيل التحديق بشكل محرج فيمن تتحدث إليه .. 

5-أحذر من كثرة الرمش بعينيك  في أثناء الحديث ، لأن هذا يشعر بالقلق واضطراب .

6-ابتعد عن لبس النظارات القاتمة  في أثناء الحديث مع غيرك ، لأن ذلك يعوق بناء الثقة بينك وبينه ..

7-أحذر من النظرات الساخرة الباهتة إلى من يتحدث إليك أو تتحدث معه ، لأن ذلك ينسف جسور التفاهم والثقة بينك وبينه ، ولا يشجعه على الاستمرار في التواصل معك ورب نظرة أورثت حسرة

كيف تفهم ما في نفوس الآخرين من خلال نظرات عيونهم ؟ .

 لقد أجرى علماء النفس بالكثير من التجارب للوصول إلى معرفة دلالات حركات العيون عما في النفوس ، ورحم الله ابن القيم الذي قال : إن العيون مغاريف القلوب بها يعرف ما في القلوب وإن لم يتكلم صاحبها .

وكان مما وصلوا إليه كما ذكر الدكتور محمد التكريتي في كتابه ( آفاق بلا حدود (

النظرفي أثناء الكلام إلى جهة الأعلى لليسار: يعني أن الإنسان يعبر عن صور داخلية في الذاكرة ،وإن كان يتكلم وعيناه تزيغان لجهة اليمين للأعلى فهو ينشئ صوراً داخلية ويركبها ولم يسبق له أن رآها أما إن كانت عيناه تتجهان لجهة اليسار مباشرة فهو ينشي كلاماً لم يسبق أن سمعه ، وإن نظر لجهة اليمين للأسفل فهو يتحدث عن إحساس داخلي ومشاعر داخلية وإن نظر لجهة اليسار من الأسفل فهو يستمتع إلى نفسه ويحدثها في داخله كمن يقرأ مع نفسه مثلاً .

هذا في حالة الإنسان العادي ، أما الإنسان الأعسر فهو عكس ما ذكرنا تماماً

وبناء على هذه المعلومات يمكنك أن تحدد كمن أي الأنماط يتحدث الإنسان وهو يتحدث معك بل ويُمكنك عند قراءة قصيدة أو قطعة نثرية أن تحدد النمط الذي كان يعيشه صاحبها عند إعداده لها هل هو النمط السمعي أو الصوري من الذاكرة أو مما ينشئه أو من الأحاسيس الداخلية ، وذلك من خلال تأمل كلامه وتصنيفه في أحد الأصناف السابقة .

وتعطلت لغة الكلام وخاطبت     عيني في لغة الهوى عيناك ،هكذا وصف الشاعر لغة العيون، اللغة الصافية التي لا كلام فيها، اللغة التي تصمت فيها الأفواه وتتكلم العيون كلاماً قد يكون أبلغ مما ينطق به اللسان . 

نظرات الرحمة:

ولقد أشارت الأحاديث الشريفة إلى لغة العيون، يقول صلى الله عليه وسلم: ( إن الرجل إذا نظر إلى امرأته، ونظرت إليه، نظر الله إليهما نظرة رحمة، فإذا أخذ بكفها تساقطت ذنوبهما من خلال أصابعهما ..لم يشر النبي (ص) إلى أي حديث متبادل بين الزوجين، بل أشار إلى نظرات متبادلة، أنها لغة العيون التي لا صوت لها ...وإذا كان لا أحد من البشر يسمع هذه اللغة، فإن رب البشر سبحانه أعلم بها، فهو العالم بكل شيء، ونظراتهما المباركة تلك تستجلب رحمة الله تعالى لهما . سهولة ويسر ما أسهله من سبب، وما أيسرها من وسيلة! أجل . فالنظر لا يحتاج إلى جهد  ولا طاقة بل يحتاج إلى إتقان  (فالنظرة فن )

والعلماء يلخصون حركات العيون بما يزيد على ثلاثمائة حركة أبرزها:

1-أن تنظر العيون إلى بعضها في أثناء الكلام فهذا دليل على الرغبة في إنهاء الحديث الدائر..

2-عندماتلتقي العيون ثم تنفصل ,ثم تعود لتلتقي ,ثم تنفصل فهذا معناه أن المستمع سئم الحديث , وأنه يركز داخل نفسه على شيء آخر ,أو أنه يسمع الكلمات ولا يعيها , وبمعنى آخر أن المتحدث يكون في واد والمستمع في واد آخر .

3-عندما يحاول المتكلم ألا تلتقي عيناه مطلقا مع الذي يحدثه ,فهذا معناه الشك وعدم الثقة ,الخوف ممن يتحدث معه .

4-عندما تتحرك الرموش بسرعة عن معدلهاالطبيعي في أثناء الحديث فهذا معناه أن الإنسان الذي أمامك مضطرب ..

5-عندما تتسع العيون فهذا يعني الدهشة..

6-عندما تتحرك العيون في اتجاهات مختلفه ،فذلك قد يعني التواضع إذا كنت تمتدح إنسانا , قد يعني أن المتحدث متعب , ولا يستطيع مواصلة الحديث كما يدل على أن المستمع غير مهتم بما يقال ,أو أنه لا يريد أن يسمع هذا الموضوع .

7-عندما تتجه العيون إلى أعلى فهذه علامة الغضب أو الحزن ,وعندما تتجه إلى أسفل فهي علامة الخجل , كما يدل أيضا على أن المتحدث إذا نظر إلى الأرض,وهو يتحدث إليك فهناك حقيقه يريد أن يخفيهاعنك .

8-وعندما تلمع حدقة العين,وتتسع فهذا دليل على الاضطراب العاطفي بمعنى أن الشخص الذي تتحدث معه تربطك به علاقه عاطفية شديدة, وباختصار أنك تحب هذا الشخص الذي تتحدث معه...

9-عندما تثبت العين في مكانها تماما يكون ذلك دليلا على الانتباه الشديد لما يقال, وأن مايقال يمس حياتك مسا مباشرا , ويهمك أن تستمع إليه مهما أطال في حديثه .

10-تحجر العين عند النظر مع احمرار الوجه يدل على الرغبه العارمة في الرد القاسي على المتحدث , وأنه سمع كلاما ماكان يود أن يسمعه ...

أشكال العيون و معانيها:

العيون الواسعة: تدل على الذكاء ،العيون العميقة : تدل على نفس كئيبة قلقة ،العيون الكبيرة : تدل على صفاء النفس ،العيون الصغيرة : تدل على حدة العاطفة والنشاط ،العيون اللوزية : تدل على الأناقة والحنان ،العيون المستديرة: تدل على التكاسل

الشعراء يصفون العيون:

الاتساع والبريق والصفاء :راح الشعراء يتلمّسون معاني الجمال الآسرة في العين متتبّعين مظاهرها، فأعجبوا بالعين الواسعة الصافية التي يشعّ بريقها، الواسعة في غير جحوظ، والصافية وقد نفت عنها أيّ قذىً يسيء إلى صفائها، أو يعكّره، وقد تلألأ ضياؤها، قال طرفة في وصف عيني ناقته :

وعينان كالماويّتين استكنّتا بكهفَيْ   حَجاجي صخرة قلتِ موردِ

طحوران عوّار القذى فتراهما   كمكحولتَيْ مذعورة أمّ فرْقد

إنّ عينيها كمرآتين في الصفاء، وهما في غؤور يعلوهما حاجبان صلبان، وقد شبّه صفاءهما بصفاء ماءٍ في نَقرةٍ، وقد نفتا عنهما القذى في شدّة اتّساع، إنّهما كعيني بقرةٍ وحشيّةٍ لها ولد، وقد أفزعها صائد، وبهذا لم يَخْفَ على الشاعر ما ترجمته عيناها من ردّ فعلٍ غريزيٍّ إن صحّ التعبير فيما تنازعهما من الخوف والحنوّ لينعكس ذلك سعة في عينيها مع شدّة بريق، وفي مثل هذه الحال تكون العين أكمل ما تكون عليه من اتّساع وبريقٍ يضفيان عليها سحراً وجمالاً، وقد نفت عنها أيّ قذىً، فسلمت من الحُزن والرَّمدَ، قال جرير في حديثه عن أطلال الحبيبة :

وقد عهدنا به حُوْراً مُنَعّمة       لم تلق أعينها حُزْناً ولا رَمَدا

عينٌ صفت، فلا احمرار حزن فيها، ولا رمد يذهب بريقها. هذه العين كلّما اتّسعت زادها الاتساع جمالاً لذلك نفروا من العين الحوصاء والخوصاء: الضيّقة في غؤور .

هذه العين الواسعة أعجب بها الشّعراء، فسمَّوها عيناً نجلاء، وقد اتّسعت في حسن وقلّما سلموا من طعناتها، تلك الطعنات التي أصمّت قلوبهم، قال أبو دريد :

ليس السّليم سليمَ أفعى حَرَّةٍ لكنْ سليمَ المقلة النجلاء

وكيف للمرء أن يسلم، وهي العين النّجلاء أشدّ فتكاً من أفعى حَرَّةٍ، إنّها تقتل حين ترمي، قال عمر ابن أبي ربيعة :

وأقبلنَ يمشينَ الهوينا عشيّة    يُقتّلنَ من يرمين بالحدق النُّجل

إذا كان اتساع العين وصفاؤها وبريقها، وقد سلمت من أيّ قذىً أو مرض، هي من معاني الجمال التي استهوت الشعراء، فإنّ في لون العين آياتٍ من السحر تتجاوز كلّ وصف، وقد تباينت أذواقهم في ذلك .

العين الدعجاء :

الدَّعَج والدُّعْجَة السواد، وقد عرّف الثعالبيّ في فقه اللغة العينَ الدعجاء بأنّها شديدة السواد مع سعة، وقد أورد قولَ ذو الرُّمَّة :

حتّى بدت أعناق صبح أبلجا     تَسُور في إعجاز ليل أدعجا

فالبلج لبياض الصبح، والدعج لسواد الليل، وهذا لا يتّفق مع ما أورده الزمخشريّ في أساسه حين عرّف العين الدعجاء بأنّها شديدة السواد شديدة البياض. إنّه الدّعج سيف ينازل العشّاق، قال السلطان النبهانيّ :

لقد سللتِ سيفَ جفنٍ أدعج     على هُمام أروع مُتوَّج

لكنْ على الرغم من أنّه سيف يتمنّى الشعراء نظرة إليه، يقول أيضاً :

راية يا ذات الخِبا والهودج وربّة الطوق وذات الدُّمْلُج

والخدّ والطرف الكحيل الأدعج هل نظرةٌ لعاشقِ مُهَيَّج

هذه العين هام الشّعراء بفتنتها، فعند صاحبتها يكون الفرج إن هي أذعنت، أو الموت إن هي دلت وغَنجت، قال الشّاعر :

أمليحة الدَّعَج ! ألديك من فرج؟ أم أنتِ قاتلتي بالدّلّ والغَنَج

العين الكحلاء :

لم يكن السّواد الفاحم في سواد العين قد سحر الشعراء فحسب، بل ما كان منه أيضاً في جفنها، فسّموها عيناً كحلاء، كحلاء خلقة من غير كحلٍ، قال التّلّعفريّ :

حميتَ شقيق الخدّ بالمقلة الكحلا   وثقفتَ رُمح القدّ بالطّعنة النّجْلا

لقد حمتْ حمرة خدّها بعينها الكحلاء، والقدّ منها مثقف يطعن الطّعنة النجلاء تسحر بجفنها الأكحل الأوطف حيث طول شعر أشفار العين وتمامها، قال بدويّ الجبل :

أطلّ خلف الجفون الوطف موطنه بعد الفراق فحيّاه وفدّاه

العين الحوراء :

ذكر الثعالبيّ في فقه اللّغة أنّ الحَوَر اتساع السّواد في العين كما في عين الظباء :

وكأنّما دون النّساء أعارها عينيه أحورُ من جآذرَ جاسم

أمّا الزمخشري : فقال: الحور شدّة السّواد وشدّة البياض في العين، وما أورده الثعالبيّ يتّفق مع عيون الظباء التي يتسع فيها السّواد حتى لا يبقى للبياض في العين إلا القسمُ اليسير، وأضاف الثعالبيّ أنّ البرح في العين هو شدّة السّواد وشدّة البياض، ومهما يكن فالأمر لا يخرج عن سواد العين الذي فتن به الشّعراء، إذ غدوا صرعى بسحره وما يبعثون، قال جرير :

إنّ العيون التي في طرفها حورٌ قتلننا ثمّ لم يُحيين قتلانا

العين الشهلاء :

قال الثّعالبيّ في فقه اللّغة: العين الشَّهلاء هي التي خالط سوادَها حمرة، أمّا الزمخشريّ في أساسه، فقال: هي العين التي خالط سوادَها زرقة، وعلى أيٍّ منهما، فنحن نقول، شَهل اللونان يشهَلان شَهَلاً اختلط أحدهما بالآخر، أمّا لسان العرب فقد أورد المعنيين: الشُّهلة في العين أن يشوب سوادَها زرقة، أنشد الفرّاء بطريق الذّمّ الذي يراد به المدح :

ولا عيبَ فيها غيرَ شُهْلةِ عينها عتاق الطير شُهْلٌ عيونها

إنه يمدح فيها شُهْلة عينها، ويشبّهها بشهلة عيون عتاق الطّير التي خالط سوادَها الزّرق. وقال أيضاً: والشُّهلة في العين أن يكون سوادها بين الحمرة والسّواد، وقيل هي أن تُشرب

الحدقة حمرة ليست كالشُّهلة في بياض العين، ولكنّها قلة سواد الحدقة حتّى كأنّ سوادها

يضرب إلى الحمرة، قال ذو الرُّمَّة :

كأنّي أشهل العينين بازٍ على علياء شَبَّهَ فاستحالا

العين الزّرقاء :

إذا كان التّغنّي بالعين السّوداء كثر في شعرنا القديم فإنّه مع خروج العرب من صحرائهم وهنا اللّون الأسود مرتبطٌ بالبيئة، وباحتكاكهم بالأعاجم وبالمناطق المعتدلة وبالحضارة والساحل، بدأت الألوان الفاتحة في العين تحتلُّ شعرهم حيث أعجبوا بتلك الألوان، فلم تعد العين السّوداء وحدها وإن بقيت فتنة النّاظرين تتربّع عرش قلوب الشّعراء، بل راحت تستهويهم العيون الزّرق، فأخذت بمجامع قلوبهم، قال عمر بن أبي ربيعة :

سحرتني الزّرقاء من مارون إنّما السّحر عند زرق العيون

فإذا كانت سحراً عند عمر فهي سماواتٌ لا حدود لفضاء زرقتها عند البدويّ :

في مقلتيك سماواتٌ يهدهدها من أشقر النور أصفاه وأحلاه

العين الخضراء :

إنّها الربيع الأخضر، تغري، فيتعلّق الناس بفتنتها، ويروح الشعراء يتأمّلونها، يفتّقون هذا اللّون، فمرّة عيونٌ خضر، يقول نزار :

قالت: ألا تكتب في مِحْجَري انهض لأقلامك.. لا تعتذر

مَنْ يعص قلب امرأة.. يكفر يَلذُّ لي.. يلذّ لي.. أن أرى

خضرة عينيَّ.. على دفتري

يا عينُ.. يا خضراء.. يا واحة خضراءَ ترتاح على المرمر

أفدي اندفاق السّيل في مقلةٍ خيّرةٍ كالموسم الخيّر .

ومرّة زيتيّة، أو فستقيّة، وكلّها شِعاب ترتدّ إلى أصلها الأخضر، يقول نزار :

زيتيّة العينين.. لا تغلقي يسلم هذا الشّفق الفستقي

رحلتنا في نصف فيروزة أغرقت الدنيا ولم تغرق

ومرةً عسليّة، والعَسَلُ اضطراب في لون العين، يقول نزار :

كنت أسافر يوماً في الأحداق الخضر وفي الأحداق العسليّة

هذه العين على اختلاف ألوانها، وما حباها الله من سعة وصفاء وبريق لا يكون تمام جمالها إلا بحاجبٍ خطٍّ يكلّلها، يحنو عليها في رفق وخِفَّةٍ، لقد أعجب الشُّعراء بزَجَج الحاجب وبَلجه وذمّوا القَرَن الزَّبَب فيه، قال السّلطان النّبهانيّ :

راية يا ذات الخِبا والهودج       وربّة الطوق وذات الدُّمْلُجِ

والدّلّ والصَّلْتِ الجبين الأبلج والحاجبِ المُستحسَن المُزجَّجِ

وقال عمر في تغزُّله بذات العيون الزّرق :

إنه منتوف خلقة، خطٌّ كحدِّ السَّيف

وجبينٌ وحاجبٌ لم يصبْه          نَتفُ خطٍّ كأنّه خطُّ نون

 وربّ شاعر أكد أهمية التواصل بالعيون، فالعين نعمة من الله ، لايدرك أهميتها إلا من فقدها، قال:

إنْ لمْ يكنْ بَين العُيون تواصلٌ
فقدَ الكلامُ حَلاوةَ الإحساسِ

أوْ لَمْ يكُنْ بينَ القلوب تخاطرٌ
مَرّ التعارفُ دونَما استئناسِ

لمّا سألتُ عن السعادة قيلَ لي
هي أنْ تحاطَ بأصدق الجلّاس

إثنان ما لاقيتُ أقسى منهما
غدر الحبيب وعلّة الإفلاسِ

انسَ الهموم فليس يسعد ذاكرٌ
في الذكريات مواجعٌ ومآسي

وخذِ الأمورَ على سجيّتها ولا
تعطِ الحدود تجاوزاً فتقاسي

وإذا ملأتَ الكأس من نبع الرضا
فاشربْ ودع للناس ما للناسِ

لا ذنبَ للأقداحِ فيما أُترِعَتْ
فالكأس يجهل ما نواه الحاسي

الرفق لو زان القلوب تجمّلتْ
كندىً وأضواءٍ على الأغراسٍ

........................................................................

مستشارك اللغوي( أخطاء وتصويبات)

تصويبات وفروق لغوية

- كثيرًا مايخلطون بين بحوث وأبحاث،فبحوث جمع كثرة على وزن فعول ، وأبحاث جمع قلّةعلى وزن أفعال، مفردهما بحث بمعنى التقصّي في معرفة المعلومات ،والحقائق ،أمّا مبحث فهو اسم مكان يدلّ على المسألة موضع( البحث)...

-أحد وإحدى، إذا أضفناهما ننظرإلى مفرد المضاف إليه،نقول: إحدى الركائز ، المفرد ركيزة،ونقول :أحد الأركان فالمفرد ركن ...

- المصلحُونَ رَافعُونَ لِوَاءَ أوْ (رَافعُو لِوَاءِ) الحَقِّ.
فائدة: (رَافعُونَ) خَبَر المبتَدَأ اسم فَاعل عَامل)، (اللِّوَاء) مفعُول بِهِ منصوب
(رَافعُو) خَبَرُ المبتَدَأ (اسم فَاعل غَير عَامل)، (اللِّوِاء) مُضَاف إلَيه مجرور..وفي السياق ذاته 
التنوين ، يمحض الحدث للحاضر أو المستقبل ، فــ : محمد ضاربٌ أخاك ، أي : سيضربه حالا ، أو سوف يضربه مستقبلا . وأمّا الإضافة فتمحض الحدث للماضي ، فـــ : محمد ضاربُ أخيك ، أي : هو الذي ضرب أخاك....

من دقائق اللغة أنّ هناك فرقا بين معاني المفردات يبيّنها السياق ،فالحُزْن يختلف عن الحَزَن مع أنّ الجذر واحد، فالحُزن  ضيق شديد على ما وقع، أمّا الحَزَن فهو ضيق خفيف لما حدث ،وفات...وهناك كلمات مدارها الخوف من شيء متوقّع حدوثه حاضرا ،أو ماضيا؛ نقول :خفت وأخاف، وخافوا ويخافون....

الحذر والخشية والفزع:

الخوف توقّع الضرر المشكوك في وقوعه، ومن يتيقن الضرر لم يكن خائفا له، وكذلك الرجاء لا يكون إلا مع الشك، ومن تيقن النفع لم يكن راجيا له، والحذر توقي الضرر وسواء أكان مظنونا أم متيقنا، والحذر يدفع الضرر، والخوف لا يدفعه، ولهذا يقال خذ حذرك ولا يقال خذ خوفك ،أيضا الخوف يتعلق بالمكروه وبترك المكروه تقول خفت زيدا كما قال تعالى: {يخافون ربهم من فوقهم} وتقول خفت المرض كما قال سبحانه: {ويخافون سوء الحساب} والخشية تتعلق بمنزلة المكروه، ولا يسمى الخوف من المكروه خشية ولهذا قال: {ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب}.

فإن قيل أليس قد قال: {إني خشيت أن تقول فرقت بين إسرائيل} قلنا: إنه خشي القول المؤدي إلى الفرقة، والمؤدي إلى الشيء بمنزلة من يفعله، وقال بعض العلماء: يقال خشيت زيدا  ،ولا يقال خشيت ذهاب زيد.

فإن قيل ذلك فليس على الأصل ولكن على وضع الخشية مكان الخوف وقد يوضع الشيء مكان الشيء إذا قرب منه.

 الخشية والشفقة:

أن الشفقة ضرب من الرقة، وضعف القلب ينال الإنسان ،ومن ثم يقال للأم إنها تشفق على ولدها أي ترق له وليست هي من الخشية والخوف في شيء، والشاهد قوله تعالى: {الذين هم من خشية ربهم مشفقون} ولو كانت الخشية هي الشفقة لما حسن أن يقول ذلك كما لا يحسن أن يقول: يخشون من خشية ربهم ومن هذا الأصل قولهم: ثوب شفق إذا كان رقيقا وشبهت به البداة ؛ لأنها حمرة ليست بالمحكمة فقولك أشفقت من كذا معناه: ضعف قلبي عن احتماله.....

الرعب والرهبة:

الرهبة طول الخوف واستمراره ،ومن ثم قيل للراهب راهب ؛لأنه يديم الخوف ،وأصله من قولهم جمل رهب إذا كان طويل العظام مشبوح الخلق والرهابة العظم الذي على رأس المعدة يرجع إلى هذا ،وقيل: الرهبة خوف وقع على شريطة لا مخافة، والشاهد أن نقيضها الرغبة ،وهي السلامة من المخاوف مع حصول فائدة، والخوف مع الشك بوقوع الشرّ، والرهبة مع العلم به يقع على شريطة كذا وإن لم تكن الشريطة لم تقع، أمّا الرعب خوف شديد من خطر يؤدي إلى التلعثم، وفقدان القدرة على الحركة.

.الهلع والفزع:

الفزع مفاجأة الخوف عند هجوم غارة ، وما أشبه ذلك، وهو انزعاج القلب بتوقعّ مكروه عاجل ،وتقول فزعت منه فتعدية بمن وخفته فتعدية بنفسه فمعنى خفته؛ أي هو نفسه خوفي ومعنى فزعت منه أي هو ابتداء فزعي بنفسه فمعنى خفته أي هو نفسه خوفي ومعنى فزعت منه أي هو ابتداء فزعي ؛لأنّ من لابتداء الغاية وهو يؤكد ما ذكرناه.

وأما الهلع فهو أسوأ الجزع، وقيل الهلوع على ما فسره الله تعالى في قوله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا} ولا يسمى هلوعا حتى تجمع فيه هذه الخصال.

الهول:

الهول مخافة الشيء ،وعدم توقّع مايحدث  فيه ومنه ،ولا يدري الشخص ما يقحم عليه منه كهول الليل ،وهول البحر، وقد هالني الشيء ،وهو هائل ،و يقال أمر مهول ، والشاعر ذكر مهول في بيت من الخفيف:

ومهول من المناهل وحش ** ذي عراقيب آجن مدفان

وتفسير المهول أن فيه هولاً ، خوف مشوب بالفزع  من مجهول ،والعرب إذا كان الشيء أنشئ له يخرجونه على فاعل كقولهم دارع، وإذا كان الشيء أنشئ فيه أخرجوه على مفعول مثل محبوس فيه ذلك ،ومديون عليه ذلك ......

الوجل:

إنه الخوف مع عدم  الطمأنينة، وجل الرجل يوجل وجلا، إذا قلت : لم يطمئن ممّا قدّم ، فيظلّ خائفا، ويقال: أنا من هذا على وجل ،ومن ذلك على طمأنينة ولا يقال على خوف في هذا الموضع ،وفي القرآن {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} أي إذا ذكرت عظمة الله وقدرته لم تطمئن قلوبهم إلى ما قدموه من الطاعة ،وظنوا أنهم مقصرون فاضطربوا من ذلك ،وقلقوا، فليس الوجل من الخوف في شيء، وخاف متعد ،ووجل غير متعد ،وصيغتاهما مختلفتان أيضا ،وذلك يدل على فرق بينهما في المعنى.

 الاتقاء والخشية:

في الاتقاء معنى الاحتراس مما يخاف، وليس ذلك في الخشية.

 والبأس والبؤس:

البأس يجري على العدة من السلاح وغيرها ونحوه قوله تعالى: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد} ويستعمل في موضع الخوف مجازا فيقال: لا بأس عليك ولا بأس في هذا الفعل أي لا كراهة فيه. اهـ.

 البلاء والنقمة:

أن البلاء يكون ضررا ويكون نفعا، وإذا أردت النفع قلت أبليته وفي القرآن {وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا} ومن الضر بلوته وأصله أن تختبره بالمكروه وتستخرج ما عنده من الصبر ويكون ذلك ابتداء والنقمة لا تكون إلا جزاء وعقوبة وأصلها شدة الإنكار تقول نقمت عليه الأمر إذا أنكرته عليه وقد تسمى النقمة بلاء، والبلاء لا يسمى نقمة إذا كان ابتداء والبلاء أيضا اسم للنعمة، وفي كلام الأحنف: البلاء، ثم الثناء أي النعمة ،ثم الشكر.....

.

شاطىء الإبداع

وقفة أدبيّة مع رائعة شوقي

"سلوا كؤوس الطلا  هل لامست فاها...." إذْ كثيراً ما يرتبط شعرُ شوقي الغزلي بالليل، ظلاماً ،ودجىً، ومنه يصعد التغريد....

بهذه الوسيلة الفنيّة يجعل شوقي لحاسّة السمع أهمية أكبر من حاّسة البصر ، ليحقق جوّاً مفضّلا للسماع ،يتمكن الشاعر بوسيلة الليل من ربط الأصوات والأصداء بأصوات ،وأصداء غيبيَّة مجهولة، فتأخذ بعداً غامضاً ،أحمد شوقي مولع بمسكونيّة الحركة ، ورأينا كيف يسكّن حركة الطير بحصارها بالظلام  ،فمن السهولة إذاً أن يجعل مغنيه ،أو مغنيته بديلاً عن الطير بكلمات أخرى يجعله طيراً ،أوأشبه شيء به.

قال  في رثاء سيد درويش:

يملأ الأسحار تغريداً إذا ***** صرفَ الطيرَ إلى الأيكِ العشاءْ

ربما استلهم ظلماء الدجى **** وأتى الكوكب فاستوحى الضياءْ

ورمى أُذنيه في ناحيةٍ ******* يخلس الأصوات خلس الببغاءْ

فتلقّى فيهما ما راعه ********من خفيِّ الهمس ،أوجهر النداءْ

ومع ما تعتري الأبيات أعلاه من تأليف غير محكم، وعبارة غير متواشجة إلاّ أنّ ما يعنينا هو ارتباط الاستلهام بالظلام، والإصغاء لأصوات مجهولة..

القصيدة أعلاه رثائية، لكنّ صوراً شبيهة بتلك ظهرت في قصيدة " سلوا كؤوس الطلا " التي " نظمت مخصصّة لأُمّ كلثوم".

يقول محمد صبري في كتابه " الشوقيات المجهولة ـ الجزء الثاني ـ" في مقدمته لهذه القصيدة: " كان شوقي يقدِّر أنّ أمّ كلثوم أديبة تفهم ما تغنّي، وهي تحفظ القرآن، ولا تشرب الخمر، وفي غزل شوقي تلميح إلى ذلك".

ويقول عبدالمنعم شميس في كتابه " شخصيات في حياة شوقي:"وعَشِق أمّ كلثوم ،وكتب لها قصيدة التحدي التي غنّتها بعد وفاته بسنوات ، وهي التي يقول في مطلعها:

سلوا كؤوسَ الطلا هل لامستْ فاها *** واستخبروا الراحَ هل مسّتْ ثناياها

وكان يريد منها أن تشرب معه كأساً ،فأبت وغضب وغضبت ، ثم انتهت القصة حتى مات".

نلاحظ هنا اختلاف الروايتين:

في الأولى يقدّر شوقي أمَّ كلثوم ؛لأنّها لا تشرب الخمر ،وفي الثانية يغضب ؛لأنّها لا تشرب معه الخمر!. يبدأ شوقي قصيدته الفارهة الايقاع، والرحيبة القافية:

سلوا كؤوسَ الطلا هل لامستْ فاها *** واستخبروا الراحَ هل مسّتْ ثناياها

لماذا أبتدأ الشاعر بـ " سلوا " بالجمع؟ لا بدَّ أنه ذُهل وبُهت ،واستغلق عليه سّرها، فاستنجد.

أوهل كان يدفع عنه لومة لائم، فعزا جنونه بها إلى ما أصابه من ثمل؟ كانت تغني، فلماذا قال: كؤوس الطلا؟ ربما لأن حاستي الذوق ،السمع انصهرتا في حاسة واحدة، وكأنَّ لصوتها فعل الخمر.لتكثيف الحيرة أكثر، قال الشاعر:" كؤوسَ الطلا" أي أنواعاً مختلفة من الخمور.

للجمع في هذه القصيدة : مثل: سلوا واستخبروا، وكذلك كؤوس وثنايها أهميّتان فنيّتان:

الأولى أن الشاعر جعل المشهد وكأنّه (جوقة تردّد) ،أو مهرجان يُنظّم.

الثانية أن الشاعر حين يتكلم فيما بعد بصيغة المفرد ستكون له ميزة استثنائية.

كلمتا  لامست ،ومّست تنمّان عن عفة شرب الخمر،إلاّ أنهما من ناحية شعرية مختلفتان. فالألف في لامست تدلّ على ارتفاع، وهو ما يتناسب مع رفع الكأس إلى الفم، بينما مسّت تدلّ على انتشار تخديري ،" واستخبروا الراح هل مسَّت ثناياها" ، حركة الجسد هي الأخرى تتأوّد وكأنّ ذلك من فعْل الثمَل.

تدلّ حركة الثنايا على تموّج، يوحي هو بدوره، بليونة غصن.

استعمل شوقي حاسة اللمس " لامس ومسَّ" بنعومة ريش ، وهو بداية الخدر.

ثم ألا توحي " فاها " بأنفاس عطرة فائحة ، و " ثناياها" بحفيف أغصان طرية؟

يبدو أنّ شوقي هنا جعل فتاته شجرة، ليناً وغضارة، وعطراً وتأوّدا. القافية التي اختارها الشاعر وهي : "آها" تؤدي ثلاثة أغراض في آن واحد :النسمات المهفهفة في الأغصان، وما أرقَّ، وتأوّهات الشاعر وما أحرّ، وأنفاسها، وما أعطرَ وأطيب.

من ناحية أخرى، ربّما يذكّر تكرّر السينات في البيت، ببيت المتنبي:

يا ساقييَّ أخَمرٌ في كؤوسكما *** أم في كؤوسكما همٌّ وتسهيدُ

حينما طال انتظار شوقي ،ولم يسمع جواباً، راح يعزّي نفسه باستذكار ما حدث:

باتت على الروض تسقيني بصافيةٍ *** لا للسلاف ولا للورد ريّاها

ما ضرَّ لو جعلت كأسي مراشفها ***ولو سقتني بصافٍ من حميّاها

مع أن راوية القصيدة أكثر صحواً في البيت الثاني إلاّ أنه حائر بما سقته من خمرٍ لا ينتمي إلى الخمر بمفعوله ،ولا إلى الورد برائحته ،بهذا  ينتقل الشاعر من حاسّة اللمس في البيت إلى حاستي الذوق والشمّ في البيت الثاني،؛أي إنّ الصورة الشعرية أصبحت أكثر كثافة، ولا تتكثف الحواس إلاّ إذا اقترب الشاعر من نفسه أكثر فأكثر، فحينما نصل إلى قوله: " ماضرّ لو جعلت..." ندرك أن الشاعر لا يتحدث إلاّ إلى نفسه معزولاً عن كل بشر ،وشريعة ، وعرف، لذا يحلّ له أن تكون مراشفها كأسه، قدّم الشاعر الكأس على المراشف:

"ما ضرَّ لو جعلت كأسي مراشفها" أي إنه لم يقل:

لو جعلت مراشفها كأسي....إنّ هذا التأخير للمراشف ينمُّ عن تردد الشاعر، وربما خجله من الإفصاح عما يجول في ذهن، .أمّا الشطر الثاني : " ولو سقتني" فكأنَّ رغباته بدأت تنهمر وتتداعى.

في البيت الرابع:

هيفاء كالبان يلتفُّ النسيم بها *** وينثني فيه تحت الوشي عطفاها

يعود الشاعر إلى "ثناياها" في البيت الأوّل، فيصفها بالهيفاء، أي الدقيقة الخصر، الضامرة الحشا ،وبدقّة الخصر، والضمور يكون الثوب أكثر تموّجاً مع كل حركة ، أوهبّة نسيم.

توحي كلمة : يلتفّ هنا إلى التصاق الثوب بمفاتن الجسد عند التأوّد والحركة.

إنها مثلما ينثني الغصن تنثني تحت الثياب المنقوشة، ألا تدلّ صيغة المفرد هنا : هيفاء، وكالبان، والنسيم، على أنّ الشاعر شرع يقترب منها بأنانية، اقترب منها أكثر حينما قال: تحت الوشي ،واقترب أكثر فأكثر حينما قال : عطفاها، وهي كلمة حسية، ازدادت حسّيتها بتثنيتها : عطفاها، وعلى هذا حينما ينتقل الشاعر بعد ذلك مباشرة من عالمٍ حسّي إلى عالم روحاني يكون قد نشل نفسه إلى قمّة فنّية سامقة، في البيت الخامس:

حديثها السحر إلا ّأنه نغمٌ *** جرتْ على فم داوودٍ فغنّاها

قد نجد صعوبة في إيجاد علاقة ظاهرية بين هذا البيت، والبيت الذي سبقه ، ولكن عند التمعّن ندرك تداعيات العقل الباطن ، فمن ناحية أصبح حفيف الأغصان سحراً في فمها، وجلب السحر قدسية ما، مثل قدسية مزمار داوود. بهذا تكتمل صورة الثمل الروحي، في البيت كما نوّهنا، رنّة دينَّية صافية، فمن ناحية قد يشير تعبير:

" حديثها السحر" إلى قوله تعالى: ( إنّ من البيان لسحرا) كما يشير فم داوود إلى مزماره.

ومن هنا يكون الانتقال من فم داوود إلى " حمامة الأيك" انتقالاً منطقياً، ولاسيّما أن الإنسان والشجر والطير تتداخل فيما بينها تداخل أغصان أشجار متجاورة:

حمامةُ الايكِ مَنْ بالشجو طارحها *** ومَنْ وراء الدجى بالشوق ناجاها

يكشف لنا شوقي في هذا البيت خصلتين: ارتباط غناء الحمام بالليل، وثمة صوت موحٍ قادم من عمق يستدعي الذكريات ،التفتت حمامة الأيك، وأصغت ،ولكن عينيها لم تتبينا مصدر الصوت؛ لأن حاسة البصر معطّلة بفعل الليل، يتراوح غناؤها مابين البكاء والهتاف ،وهما أقصى مأساة إذا اجتمعا ولاسيما في الليل، وكنوع من المواساة لحمامة الأيك يختتم شوقي قصيدته:

ياجارةَ الأيك أيّامُ الهوى ذهبتْ *** كالحلم آهاً لأيّام الهوى آها

حقق شوقي في هذا البيت عدة أغراض فنيَّة ، ففي " ياجارة الأيك" أصبحت الحمامة أو ما ترمز إليه بعيدة من حيث سكنها، لا سيّما ،وهو يسمعها ،ولا يراها.

فإذا صحَّ هذا الافتراض يكون حرف النداء " يا " مؤكداً لذلك ، إضافة إلى أن الذكريات التي كانت في يوم ما واقعية  أصبحت كالحلم ، وحين يقول الشاعر " آهاً لأيام الهوى آها" يكون قد انتقلت إليه عدوى الغناء، فأصبح هو المغنّي الملذوع........هكذا تصبح القصيدة جوقة من الأصوات : ناي داوود ،وحَنجرة شاعر، وحفيف نسيم في غصون ،وحفيفه في ثياب فتاة، وهديل حمامة،  ربما هذا ما يُعنى بالهارمونية في العمل الفني، يبدو أنّ مأساة أحمد شوقي أكبر من مأساة الشاعر الإنكليزي جون ملتون، في فردوسه المفقود، مأساة ملتون سماوية ، أمّا شوقي فكان يعاني من انفراط الأيام، انفراط الزمن، من بين يديه، فهو في قلق دنيوي دائم، والأنكى لا مفرّ منه......

أبواب المجلة

Scroll to Top