العدد الرابع

أبواب المجلة

افتتاحيّة

الحمد لله کما ینبغي لجلال وجهه وعظیم سلطانه ، فقد شرح الصدر ،ویسر الأمر حتى وصل هذا العمل المتواضع( مجلّة العريب) إلى صورته الحالیة ، أمّا بعد:

فمجلة العريب في عددها الرابع تضّمنت في أول أبوابها (لا) التي تتصدّر القَسَمَ في القرآن الكريم ، فقد فُصّل مجيءُ هذه الأداة ، فهي حرف صلة لتأكيد القسم ، ففي القرآن الكريم الحذف والزيادة دائما لغرض بلاغي لغوي، يقول تعالى:"لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ 1 وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ 2 أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ" (لا) هنا جاء لتأكيد القسم، كما أوردنا  فيه سيرة نجم من نجوم العربية الخليل بن أحمد الفراهيدي  الذي نشأ بالبصرة وتربّى فيها، وكان مولعا بالدرس والبحث ،وقد لازم حلقات أستاذيه عيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء. وأمّا أستاذه عيسى بن عمر فقد كان إماماً في العربية والقراءات... وأفردنا باب (اللغة في حياتنا )للصيغ الزمانية التي نحتاج إليها يوميا ، فالصيغ الزمانية التي يحتاج إليها البشر للتعبير عن احتياجاتهم اليومية تكاد تكون واحدة في كلّ اللغات (التركية والإنجليزية والفرنسية وغيرها، ولكن الفرق بين العربية ،واللغات الأخرى الأكثر شيوعًا في العالم؛ أنّ العربية لم تتغير منذ نزل القرآن بها، بينما تغيرت لغات الأقوام الأخرى....وأيضا في هذا العدد تصويبات لغويّة، وفروق دلالية مهمّة للمتخصصين وغيرهم، يعرفون بها الصواب اللغوي والفصحيح والأفصح، نسأل الله التوفيق والسداد....

بلسان مبين

أحرف  الصلة في القرآن الكريم

سمّى النُّحاة من أهل البصرة بعض الأحرف الواردة في القرآن زائدة، أمَّا أهل الكوفة فسمُّوا الحرف الزائد بحرف الصلة، والحق أنَّ نحاة البصرة لا يقصدون بالزائد ما ليس له قيمة، أو ما ورد في التركيب لغير ما فائدة، وإنما يعنون بذلك ما ليس أصليًّا ، ولكنَّ تسمية نحاة الكوفة أولى؛ لأنها لونٌ من ألوان الوَرَع في الاصطلاح، ولكن - كما قيل -: لا مشاحَّة في الاصطلاح، وإذا تجاوزنا هذه التسمية إلى بَيان أوجُه الإعجاز في هذا الحرف، أو ذاك  والكشف عن دوره في المعنى ،والإعجاز، نأخُذ بعضًا من آي الذكر الحكيم لنُجلِّي أهمية هذا الحرف ، أو ذاك في موضوعه، وأنَّه أضافَ معنى ساميًا، وأدخل فهمًا راقيًا على معاني الآية، ففي قوله تعالى مطلعَ سورة القيامة : "لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ"، اتفق العلماء أن معنى "لا أقسم" أي أقسم، ولا زائدة للتوكيد، لكن بعض العلماء يتحرّج من إطلاق لفظ (الزائد) على ما في القرآن ؛ لأن الزيادة لغو في الكلام لا يناسب فصاحة القرآن ،الحذف والزيادة خلاف الأصل ،فكلما أمكن أن يكون الكلام مستقيما دون تقدير محذوف كان ذلك أولى ،وكذلك إذا استقام الكلام دون جعل الكلمة زائدة هذا أصل متفق عليه، قال تعالى:- {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} رأى العلماء أن (لا) الأولى نافية ،وليست بزائدة ،وهي مقدمة من تأخير ،و(لا) الثانية زائدة مؤكدة للأولى ،وهي من قبيل الزائد اللازم...وقالوا : "إن الاهتمام بالنفي وإبراز ما يدل على هذا الاهتمام وتأكيده بالقسم والمبادرة به مبادرة تجعله في شبه مقام الصدارة فلا يتقدم عليه إلا أداة النفي وحدها حتى يكون من أثر ذلك أن يفصل بالقسم بينها وبين المنفي بها"، والزمخشري يرى أن (لا) زائدة لتأكيد معنى القسم ،وقد رد عليه بعض العلماء بأن الزائد لا يكون في صدر الكلام، ولا سيما إن كان زائدا للتوكيد فحقه أن يكون مؤخرًا عن المؤكد ،ثم إنه قد جعلها تأكيدًا للقسم ،ولا علاقة بين (لا) والقسم حتى تكون توكيدًا له فهي  حرف نفي.

أبو البقاء العكبري جوّز الأمرين أن تكون (لا) الأولى زائدة وأن تكون (لا) الثانية هي الزائدة والقسم معترض إعرابه ..

في كلام العرب من الشواهد التي على نسق الآية ما يأتي:

قال أبو تمّام:

فلا والله ما في العيش خير    ولا الدنيـا إذا ذهـب الحـيـاء

وقال صفوان الكناني،وكان ممن حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية  ،ونسبت الأبيات لقيس بن عاصم: :

رأيت الخمـر صالحـة وفيها     مناقب تفسد الرجل الكريما

فــلا والله أشربـهـا حـيـاتـي      ولا أشفـي بهـا أبـدا سقيـمـا

 من هذا نرى أن النفي قد جاء بما كما في المجموعة الأولى و(ما) لنفي الحال فهل تصلح أن تكون (ما) توكيدًا لـ(لا) وهي لنفي المستقبل؟

(لا) الأولى على أن مكانها بعد القسم ، فتكون جوابا للقسم فقدم جزءاً من جواب القسم على القسم، وما أظن أن لذلك نظير في كلام العرب الذي يبعدنا عن هذه الإشكالات ويصحح المعنى ويرضي الصناعة أن تكون (لا) نافية لفعل محذوف يدل عليه الفعل المذكور، والأصل: فلا يؤمنون ثم أكد بالقسم بعد ذلك، وقد وقفت على هذا في كلام كمال الدين الأنباري قال في كتابه "البيان في غريب إعراب القرآن": "تقديره فلا يؤمنون وربك لا يؤمنون فأخبر أولا وكرره بالقسم ثانيا ،فاستغنى بذكر الفعل في الثاني عن ذكره في الأول “والناظر في «كتاب أيمان العرب في الجاهلية» يجد (لا) قبل القسم في أيمان كثيرة ،وقد حذف جوابها نذكر طرفا منها:

- لا والذي يراني من فوق سبعة أرقعه أي سبع سموات ،لا والذي شق الرجال للخيل، والجبال للسيل ،لا والذي شقهن خمسا من واحدة، أي الأصابع ،لا والذي وجهي زقم بيته، أي نحو بيته  ،لا والذي لا يواريني منه خمر، لا والذي لا يواريني منه غيب .

يقول الله - تعالى -: ﴿ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [النمل: 75]، فالحرف (مِن) يُوصَف بالصلة أو بالزيادة، ونريد أنْ نقترب من معناه الذي أضافَه هنا وأفادَه؛ حيث أفاد معنى الاستغراق الذي يدلُّ أكبرَ دلالةٍ على أنَّ كلَّ غائبةٍ دقَّت أو عظُمت، ظهرت أو خفيت، كانت في صحراء قاحلة، أو في ليلة مظلمة، أو كانت في غور الأرض أو نجدها، إنما هي في كتابٍ مبين، مسجَّلة عند الله ربِّ العالمين، والمعروف أنَّ النكرة في سِياق النفي تعمُّ، ومعنى هذا أنَّه ما من غائبة في طُول السموات السبع وعرضها أو في طول الأرض وعُمقها إلا وهي مكشوفة عند الله، مُقيَّدة في كتابه، وعلى سبيل المثال لو أنَّ ورقة خفيفة لا صوت لها سقطَتْ من شجرةٍ ضاربة في عُمق الأرض وفي صحراء لا أحد فيها، فإنَّ الله يعلَمُها ويعلَمُ لُحَيظة سقوطها ومكانه، وذلك كله مسجل عنده في كتاب واضح مبين، وهذا يتأكَّد بقوله - جلَّ جلاله -: ﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 59].

فكلُّ ما في الكون منظورًا ومطمورًا، ظاهرًا للناس وغامضًا، في طيَّات الأرض أو في سبحات الفضاء، مكنونًا في باطن المعمورة أو غائبًا في غياهب الجبِّ - كلُّ ذلك معلومٌ واضح مكشوف له - جلَّ في عُلاه - وجميع ذلك من عَوالِم الكون يشهَدُ به، ويقرُّ لجلاله، ويعترف بقيُّوميَّته ، والذي نريدُ أنْ نصلَ إليه هو هذه الإحاطة الكاملة والعلم الشامل الكامل، الجامع المانع لله ربِّ العالمين، مالك الأكوان وخالق الإنسان، وذلك المعنى يتطلَّب حُسن الرقابة وسَلامة الاتِّصال، وكمال التقوى وجلال العلاقة بين العبد وربِّه؛ لأنَّه يعلم يقينًا أنَّ كلَّ شيء مكشوف، وكلَّ نفَس مرصود، وكلَّ حركة مكتوبة، وكلَّ سكنة معلومة؛ ومن ثَمَّ فهو يَعبُد الله على نور، فيسعد بأنَّه الرقيب الغفور، والحسيب الشكور، فيَرتاح قلبه ويطمئن فؤادُه؛ بسبب إحسان العبادة وإسلام الوجه وتمام الإيمان، فإذا فعل كلُّ مخلوقٍ ذلك سَعِدَ هذا الكونُ بما فيه ومَن فيه، وصار كلُّ الناس أبرارًا أطهارًا، ولربهم وحدَه أحرارًا، تمتَلِئ أفئدتهم أنوارًا، فيعيشُ المرء منهم راضيًا عن الله، وعن نفسه، وعن حياته، وعن مجتمعه، وعن وجوده، فتنمو الحياة ويتطوَّر الوجود، وتضحى الحضارة بأسمى معانيها ضاربةً بأطنابها، متأصِّلة بجرانها في كلِّ صُقْع، ويحيا الناس كِرامًا على ربهم، يأكُلون من فوقهم ومن تحتِ أرجُلهم، لا يَشقَى أحدٌ بظُلمِ أحَد، ولا يحقد أحَدٌ على أحَد، يرعى الفقير مال الغنى، ويدعو غير الواجد للواجد؛ لأنَّه تقي نقي، ويحرس الذئب الغَنَم، ويمسي الإنسان يُناطِح قمَّة العَلَم، وتصير الدنيا يحفُّها الاستقرار والسَّلَم، ذلك كله ما أوحتْ به (مِن) التي قيل: إنها زائدة أو صلة، فهي صلةٌ لأنها بوجودها يتوصَّل إلى أرقى المفاهيم، وأسمى المعاني، وأدقِّ التفاصيل، وقد رأينا أنَّ دُخولها أفادَ الاستغراق، وأنَّ كلَّ غائبة بكلِّ مفهوم لها دخلت معنا، فاستوعبتْ كلَّ غائب ،وشملتْ كلَّ خفي، وتِباعًا دخل كلُّ واضح جلي، ويترشَّح ذلك باستعمال حرف الجر (في) الذي يُفِيد الظرفيَّة، و(اَل) في السماء جنسيَّة؛ أي: في جنس السموات السبع، وجنس الأرضين السبع، كلُّ ذلك لا يخفى على الكبير المتعالي الذي يُحصِي الأنفاس، ويعلَم الإحساس، في وقتٍ واحدٍ من جميع الناس، إنَّ الحياة بهذه الصورة يحبُّها الإنسان، ويشعُر بكماله فيها، وكمالها به، أمَّا مَن يعيشُ غير عابِئٍ بمفهوم (مِن) الزائدة، ويظن أنَّ الله قد لا يعلم كثيرًا ممَّا يفعلون - فهو الضعيف الممزَّق، والمهين المخرَّق، الذي تنحَدِر آدميَّته، وتسقط - من ثَمَّ – مروءته، وتشقى به ساعاته وأوقاته وأمَّته، ويخرج من الحياة تتبَعُه لعنَتُه، وتُشيِّعه خَسارته وذلَّت،.  نعم؛ إنَّ الحرف المسمَّى زائدًا أو صلة إنْ تفطَّن له القارئ وعايَشَه واستَنبَطه وسبر أغواره - خرج بكنزٍ ثمين من المعاني، يَتبَعه الترقِّي والتَّسامي: ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ [الكهف: 13].

أفصحنا(صلّى الله عليه وسلم)

بلاغة القسم في الحديث الشريف

القسم أسلوب عربي قديم استعمله العرب لتوكيد المعنى وإثباته، ولإبراز الجد فيه، وقد نزل القرآن الكريم بلغتهم فاستعمل القسم، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم فيما بعد للمعنى نفسه، إلا أنه أعطاه معنى التعظيم لارتباط القسم النبوي باسم الله تعالى أو بصفة من صفاته، وتحريمه القسم بغير الله، وتنوعت صيغ المقسم به في الحديث إلا أن أكثرها ورودا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده، والذي نفسي بيده، وقوله: لا ومقلب القلوب إذا اجتهد في الدعاء، كما أشار رواة الحديث. والقسم النبوي قسمان: القسم الظاهر، والقسم المضمر، وهو نوعان: ما دلت عليه اللام، والقسم الثاني: ما دل عليه المعنى، والملاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يظهر فعل القسم إلا نادرا، كما أنه لم يحذف المقسم عليه (جواب القسم)ولعل السبب في ذلك هو طبيعة مهمة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التبليغ الذي يحتاج إلى الشرح والتفصيل والبيان ليفهم السامع، وللقسم النبوي قيمة بلاغية تمثلت بـ: الإيجاز في القول، وتوكيد الأمر وإثباته وإظهار الجد فيه، وبيان أهمية المقسم عليه، وتنويع أساليب الخطاب لدفع الملل عن السامع، وغيرها فكان القسم أسلوبا هادفا ملتزما بمبادئ الدعوة، مرسخا لمبادئها، كما كان غيره من الأساليب النبوية الأخرى  قد تكفي اللمحة والإشارة في الانصياع للحق عند أصحاب النفوس الصافية، وقد تحتاج النفوس التي رانت عليها سحابة الجهل، وغشيتها ظلمة الباطل إلى مطارق الزجر وصيغ التأكيد حتى يتزحزح نكيرها، وقد أدرك العرب ذلك وهم أهل لسن وفصاحة، يعرفون قيمة الكلمة وتأثيرها، واختلاف الكلام باختلاف مقتضى الحال، فاستعملوا أساليب للتأكيد منها القسم، وهو أسلوب خطابي يتخلله البرهان المفحم والاستدراج بالخصم إلى الاعتراف بما يجحد، وقد نزل القرآن بلسانهم وطرقهم في الكلام فاستعمل القسم وكان له منهجه الخاص الذي أثار انتباه العلماء عبر التاريخ فكتبوا فيه كثيرا واجتهدوا في تفسيره وبيان منهجه وأعادوا، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو العربي القرشي فاستعمله أيضا، إلا أن قسمه كان يختلف بعض الشيء عن القسم القرآني، إذ نهج النبي صلى الله عليه وسلم نهجا خاصا جعل صفة التعظيم لصيقة بالقسم، وذلك لملازمته القسم باسم الله تعالى أو ببعض صفاته- خلافا لما رأيناه في القرآن الكريم من قسم بالله أو بآية من آياته أو بحياة نبيه صلى الله عليه وسلم مؤكدا ومنبها، معلما ومربيا، فكان معلما في قسمه كما كان معلما في كل أسلوب من أساليبه الخطابية التي استعملها في  أحاديثه الشريفة ، فالقسم في اللغة  بفتحتين اسم مصدر، تقول: أقسم يقسم قسمًا، والأصل إِقْسَامًا، وهو اليمين، والمصدر الميمي منه المَقسَم مثل المخرج، والجمع أقسام، وأصله من القسامة وهي الأيمان[1].وأما في الاصطلاح، فهي عبارة عن "جملة اسمية أو فعلية يؤكد بها جملة موجبة أو منفية"[2].فإن القسم بمجموع صِيَغه تكمن فيه رشاقة بلاغية، مشحونة بمتانة فنية، ولا تبرز فحوى بلاغة القسم إلا بكثرة التحليل، وقوة التدبر في الدراسة، فبهذا يُتذوق القسم، ويتوصل إلى مدلوله البلاغي الإيحائي، وإن كان في الأصل يفيد التوكيد والتحقيق؛ قال سيبويه: "اعلم أن القسم توكيد لكلامك"[3]، ولا يؤتى به إلا تغريسًا للفكرة، وإثباتًا للخبر، وردًّا على المجاحد، وقد يفيد القسم الإرشاد والتوجيه؛ مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (فوالله الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها)[4].تبرز شفافية القسم وجماله الفني في هذا الحديث الذي بين يديك في اختياره واو القسم مع اسم الجلالة في قوله صلى الله عليه وسلم: "فوالله"، فهذه الصيغة لها تأثير في ذهن المخاطب، وفي خلجات نفسه، وتحرك المشاعر والأحاسيس، وتُزيل الشك، وتثبت الحقائق، ثم جاء بجملة تؤكد قسمه وهي قوله: "الذي لا إله غيره"، فهذه الصيغة تعظم الأمر، وتحرِّض العقل، ولم يستعمل هذه الصيغة إلا لما كان القول معجبًا ومرهبًا، تفزع لأجله قلوب الصحابة؛ لأنه كلام رهيب أن يعمل الإنسان بعمل صالح، حتى ما يكون بينه وبين الجنة، إلا ذراع فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها.ومن هنا كان الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح، يخافون على أنفسهم النفاق، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة، فيخرجه إلى النفاق الأكبر كما تقدم أن دسائس السوء الخفية توجب سوء الخاتمة"[5].فمن الجدير بالإشارة في هذه المحاولة المتواضعة أن أسلوب القسم أكثر تداولًا على الألسنة من غيره من الأساليب الإنشائية غير الطلبية، لحاجة الناس إلى تغريس أفكارهم، وتوكيد أخبارهم، وتتركز فيه اللطائف الجمة، كثيرة الفوائد، غزيرة المضامين، لذلك اهتم به المفسرون أكثر، ولكن لم يحصل على عدد كثير من هذه الأساليب إلا حديثًا واحدًا، وقد سبق تحليله، وهو الذي ورد في كتاب الأربعين النووية بهذه الصيغة.


[1] ابن منظور، مادة قسم، (12) 478.

[2] أبو حيان الأندلسي، ارتشاف الضرب من لسان العرب، مكتبة الخانجي القاهرة، ج 4، ص 1763.

[3] سيبويه، المصدر السابق، ج3، ص104.

[4] سيبويه، المصدر السابق، ج3، ص104.

[5] ابن رجب المصدر السابق، ص86.

كواكب ونجوم

الخليل بن أحمد (١٠٠ - ١٧٠هـ، ٧١٨ - ٧٨٦م).

أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري. وهو عربي الأصل من أزْد عُمان. لغوي ومعجمي ومنشئ علم العروض.

نشأ الخليل بن أحمد بالبصرة وتربّى فيها، وكان مولعا بالدرس والبحث. وقد لازم حلقات أستاذيه عيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء. وأمّا أستاذه عيسى بن عمر فقد كان إماماً في العربية والقراءات، وصنف كتابي الجامع والإكمال. وأبو عمرو بن العلاء كان أستاذاً للعربية وإماماً في دراستها. وقد روى الخليل عن أيوب وعاصم الأحول وغيرهما وأخذ عنه سيبويه والأصمعي والنضّر بن شُميَْل. قال ابن المعتز: «كان الخليل منقطعًا إلى الليث فيما صنفه». وهو أستاذ سيبويه. والحكايات والمرويات المذكورة في كتاب سيبويه كلها مروية عن الخليل وكلما قال سيبويه ̧وسألته·، أو ̧قال· من غير أن يذكر قائله فهو يعني الخليل.

وقد وهب الله الخليل بن أحمد ذكاءً خارقًا وفطنة كانت مضربًا للمثل في عصره. وجمع إلى ذلك تقوى وزهداً وورعًا وهمّة عالية. وقد فُتحت له مغاليق أبواب العلوم ، فهو عالم اللغة والنحو والعروض والموسيقى وكان شاعرًا.

فتحت معرفته بالإيقاع والنظم له بابًا لابتكار علم العروض. فقد نظر في شعر العرب وأحاط بإيقاعاته. ودفعه حسّه المرهف وتذوقه للإيقاع لاستخراج علم العروض، حيث اهتدى إلى أوزان الأشعار وبحورها وقوافيها. وأسدى بمجهوده هذا خدمة جليلة عظيمة للشعر العربي لم يسبقه إليها سابق، وجاراه فيها من أتى بعده. وظلت تُنسب إليه إلى اليوم.

جسد الخليل بن أحمد الفراهيدي شخصية فائقة الذكاء، متنوعة الاهتمامات في حقول متعددة من العلوم؛ بعضها أصيل في العربية صوتا وصرفا ونحوا ودلالة ومعجمة وموسيقى، وبعضها في العلوم البحتة كالرياضيات، والتطبيقية كالكيمياء، وبعضها في الفقه أيضا.

ويندرج كلامنا على ذكاءات الخليل بين رؤية الناس التقليدية للذكاء، تلك التي ترى الذكاء صفة واحدة يتصف بها الذكي الألمعي، ورؤية علم النفس الحديث الذي يرى الذكاء ذكاءات متنوعة؛ فقد يتصف المرء بالذكاء في أحد الجوانب، وبمقابله في جانب آخر. وهي رؤية علمية في صلب علم الأعصاب في أصلها، وتربوية اجتماعية في غاياتها؛ إذ وفرت فهما مختلفا لصفة الذكاء، وأسس عليها التعليم الفردي بالتركيز على ما يمتلكه كل متعلم من مهارات دالة على ذكائه في علم من العلوم، أو فن من الفنون، أو رياضة من الرياضات.

هل الخليل أسطورة؟ وهل هو بتلك العبقرية لا يمكن أن يكون حقيقيا؟ هل كل هذه القصص التي نسجت حول الخليل مجرّد حكايات من الخيال نريد بها أن نتكثر في تراثنا من أمثاله، أو أن نصنع نماذج لعلها تعوّضنا عن تراجعنا الحضاري، بل تخلفنا، في حاضرنا؟

اشتق هوارد غاردنر نظرية الذكاءات المتعددة، ومفادها نفي وجود ذكاء عام واحد شامل. عادة ما نصف فلانا بأنه ذكي، فإذا ندَّ منه تصرف أو قول يدل على نقيض ذلك، أو قلة معرفة أو مهارة في جانب، حاولنا تسويغ ذلك وتفسيره بمثل: "لكل عالم هفوة، ولكل جواد كبوة".

حدد غاردنر في كتابه "أطر العقل" (ترجمة: بلال، ونشر: مكتب التربية لدول الخليج العربي) ثمانية أنواع من الذكاء، هي: الذكاء اللغوي، وهو يمثل الذكاء الأعلى، ويحتل الحصة الكبرى؛ فالإنسان الذي لا يتمكن من امتلاك اللغة تتدنى درجة الذكاء عنده، وتتضاءل قدرته على تحصيل الذكاءات الأخرى. لكن هذا لا ينفي إمكانية امتلاكه أنواعا أخرى من الذكاء. وجعل غاردنر الشعر قمة الذكاء اللغوي؛ لأن الشاعر يستجمع كل ملكاته اللغوية ومعارفه من أجل نظم الشعر. وكان الخليل قال ذات حين عبارته التي رواها ابن رشيق القيرواني: "الشعراء أمراء الكلام، يصرفونه أنى شاؤوا"، وهي شبيهة برد الفرزدق على أحد النحاة حين خطأه في بعض شعره: "لنا أن نقول، وعليكم أن تتأولوا".

ثم عدد غاردنر أنواعا من الذكاء هي: الذكاء الرياضي (الرياضيات)، والرياضيات تقاليب تدخل فيها الاحتمالات، والإحصاء، فضلا عن الجمع والطرح والقسمة والضرب، واستخراج القوانين والمعادلات. والذكاء الموسيقي، والذكاء المكاني، والذكاء الحركي، والذكاء الاجتماعي، أو الانفعالي العاطفي، والذكاء الطبيعي.

ومراد الكلام هنا التذكير بمجموعة من القصص والروايات التي تظهر أنواع هذه الذكاءات عند الخليل؛ فقد قيل فيه: "إن عقله أكبر من علمه". وهذا الحكم الذي نسب إلى عبد الله بن المقفع بعد أن لقيه وذاكره في بعض العلوم، إنما يدل على امتلاك الخليل ذكاءات متعددة هي التي أنتجت هذه العلوم التي تسربت عنه إلينا، عبر مؤلفاته، أو عبر تلامذته الذين تلقوا العلم على يديه، ثم بثوه بعد ذلك في كتبهم؛ كسيبويه والأخفش وسواهما. لكنه لو عاش في عصرنا، وامتلك ما يعبر به عن ذلك الذكاء الوقاد، كالمساعدين، وأدوات الطباعة والنشر، وتقنيات تسجيل الصوت والصورة، لظهرت نتائج ذكائه بكثرة لا يعد ما وصلنا منه شيئا قبالتها.

ومما يدل على ذكاء الخليل، وكون عقله أكبر من علمه، ميله إلى التجريب، حتى لكأنه كان منهجا خاصا به لا يكاد يفارقه. والتجريب طريقه الحواس، وإطاره عقلي محض قائم على إيجاد الكيفية الخاصة بالتجربة. الحواس هي الموصلات للعقل؛ إذ لا يتصور انتقال صور الأشياء من عالم الأعيان إلى عالم الذهن إلا بالحواس. وفي هذا الحقل تتعرف قدرة الخليل على التجريب في وصف الأصوات، واستخراج مخارجها، واستكشاف صفاتها المائزة لكل صوت منها. تذوق الخليل الحروف بالنطق بها ساكنة، وأنتج بذلك علم الأصوات في العربية، وبنى كتابه "معجم العين" على هذه التذوقات الصوتية، كان يتذوق الحرف ثم يسجل مخرجه وصفاته، وهذا التجريب متعلق باللسان والنطق. وهو ذوق اللسان وأعضاء النطق كلها.

وظهرت تجريبية الخليل في علم موسيقى الشعر، إذ كان يتذوق النغم والإيقاع. وفي القصة التي تروى أن الخليل اكتشف علم العروض صدفة حين مر في سوق الصفارين، وسمع أصوات مطارقهم على الأوعية، وصدف أن توافقت طرقات أحد الصفارين وانتظمت، فتنبه الخليل إليها، ثم عاد من فوره إلى منزله، وأحضر طبلا وعصا ينقر بها، حتى وقّع إيقاعا يماثل وزن أحد البحور، فجعل ينوع في النقرات عددا وطولا أو قصرا، وتكرارا، حتى استوت له بحور الشعر العربي.

الأذن الموسيقية هي السر، وتجريب موسيقيتها هو الذي أنتج علم العروض والقوافي، والدوائر العروضية، وتفعيلات الشعر، وتركيباتها المنتجة لصور البحور، فضلا عن زحافات التفعيلات وعللها. جرب الخليل أذنه وحاسة السمع، وبها كان يتذوق النغم والإيقاع، وهذا ذوق الأذن.

ويأخذنا ذكاء الخليل الطبيعي، ومهارته في التعرف على الروائح، إلى التجريب بالاعتماد على حاسة الشم. تروي الحكاية أن طبيبا من أهل العراق كان يحضر دواء يعالج ظلمة العين (كأنها المياه البيضاء، أو الزرقاء التي تغشي البصر). وكان الدواء ناجعا في العلاج، واستفاد منه عدد من الناس. لكن ذلك الطبيب اطمأن إلى الدهر، فلم يسجل عناصره المكونة له، أو طريقة تحضيره، سوى لرجل قصده من بلاد بعيدة.

فلما مات الطبيب لم يتيسر لأحد من أهله معرفة سر الدواء، ولم يجدوا شيئا يدلهم عليه. مات الرجل، ولم يعتن أبناؤه -ككثير من الأبناء الذين لا يعتنون بصنائع آبائهم في هذا الزمن، وذلك الزمن- بمعرفة مكونات الدواء، فجاء بعضهم إلى الخليل يسأله المساعدة. قال الخليل: آتوني الوعاء الذي كان يصنع الدواء فيه. ثم أخذ يتنشق الوعاء ويقول: كذا، وكذا… حتى دونوا منها خمسة عشر اسما، ثم صنعوا الدواء من تلك المكونات، وتشافى الناس بهذا الدواء الناقص عنصرا. وبعد مدة من الزمن اكتشفوا الرقعة الّتي كتبها أبوهم للغريب، واكتشفوا صحة العناصر الخمسة عشر التي استكشفها الخليل، ومكونا واحدا فات الخليل فلم يستدل عليه. هنا، كان الخليل تجريبيا، ووظف أنفه وحاسة الشم، أي كان يتذوق الروائح، يجربها ويتعرفها بذوق الأنف. وهذا خير مثال للذكاء الطبيعي.

ولعل القصة التي تحكي وفاة الخليل تحوي ما يدهش أيضا، إذ أتته فتاة ظلمها إخوتها ميراثها، وطلبت منه أن يصنع لها حسابا ينصفها. فدخل الخليل المسجد وهو يفكر في استخراج حساب دقيق يصلح لمثل حالتها، فارتطم رأسه بسارية من سواري المسجد، فمات. وفي القصة دلالة على الانشغال الذهني التام بالمسألة؛ حساب بقانون رياضي يمكن أن تملأ فيه الفراغات فتحصل النتيجة. وهذا دأب أهل العلم إذا عرضت لواحدهم الفكرة، أو المسألة، استغرق عقله فيها، وشغله ذاك حتى عن التنبه على من/ ما حوله. وقد لا يروق لنا تصديق مثل هذا عن الخليل، في حين نرى جولان آينشتاين في بيته عاريا أحيانا -كما وصفت خادمة منزله في مذكراتها- أمرا طريفا، ومدعاة للدهشة، ودلالة على الانشغال الكلي بالتفكير والتأمل العقلي.

هل كان الخليل أسطورة عندما حاول بعضهم أن يختبر ذكاءه في استعمال العين/ حاسة البصر، فتذوق الرسم وصور الحروف من لغة أخرى، وقرأها؟ كتب مختبره رسالة باليونانية ثم عرضها على الخليل ليقرأها، ويفسر ما فيها. رسالة مصنوعة على لسان ملك يوناني، فكك الخليل حروف اللغة اليونانية عبر تذوق صورها، وأدرك رموزها، وقرأها. قد يستغرب بعضنا فيرى هذا غير معقول، وفي هذا الإنكار كثير من التزيد والتمحل. لماذا نصدق أن شامبليون تمكن من فك رموز "حجر رشيد"، ومعرفة أصول اللغة الهيروغليفية، وهو يتعامل مع هذه اللغة الجديدة تماما عليه؟ نصدّق هذا عن شامبليون الفرنسي في عصرنا، ولا نصدق ذاك عن الخليل العربي في غابر الزمان!

والخليل كان صاحب قدرة على التجريد، تدلنا على ذلك قصة وضعه معجم العين؛ أول معاجم العربية، بل لعله يكون أقدم معاجم اللغات عالميا. كيف يحصر ألفاظ العربية، وكيف ينسقها في الترتيب داخل المعجم، ثم كيف يعرف بها، ثم يخلص إلى ترتيب الألفاظ بحسب "جذور" تضمها، وترتيب هذه الجذور بحسب ما تشتمل عليه من حروف، وترتيب الحروف بحسب مخارجها الصوتية في جهاز النطق؛ الأدخل منها فما يليه، وتقليب ترتيب مجموعة الحروف الّتي تكون "الجذر". ثم وضع تعريفات للنّباتات والحيوانات والألبسة والأقمشة والأدوات والآلات في البوادي والحواضر في ذلك الحين من الزمن، وما تقدمه منذ أن كانت العربية، وأينما عاش الناطقون بها.

كل ذلك يستثير الدهشة والإعجاب، وهو ذو دلالة عميقة على أن "عقل الخليل أكبر من علمه"، وأنه تجريبي تجريدي، سعى إلى فهم الحقيقي من المعاني وتمييزه عن المجازي، راغبا في بلوغ أصول المعاني في أصل وضعها في اللغة. وقد نتخيل أنه كان يجوب ويسأل ويجمع مادّته جمعا بالمشاهدة، ثم يصفها.

هل الخليل أسطورة؟ وهل هو بتلك العبقرية لا يمكن أن يكون حقيقيا؟ هل كل هذه القصص التي نسجت حول الخليل مجرّد حكايات من الخيال نريد بها أن نتكثر في تراثنا من أمثاله، أو أن نصنع نماذج لعلّها تعوّضنا عن تراجعنا الحضاريّ، بل تخلّفنا، في حاضرنا؟

تأمل قولة الخليل: "إني لأغلق عليّ بابي، فما يجاوزه همي"، وقولة تلميذه النّضر بن شميل فيه: "ما رأيت أحدا يطلب إليه ما عنده أشد تواضعا منه"، والأخرى: "أكلت الدنيا بعلم الخليل بن أحمد وكتبه وهو في خص لا يشعر به". إنّهما صفتان تختصّان أمثاله من العلماء الكبار: التّواضع، والرّغبة عن الشهرة والانشغال بشؤون المعاش. العلم ليس تكسبا، ولا شهرة أو ظهورا تحت الأضواء، ولا تباهيا وتفاخرا، ولا منصبا. وصدق من قال: "العلم لا يعطيك بعضه، إلّا إذا أعطيته كلك".

تمتع الخليل بأنواع متعددة من الذكاء، وبعقل منهجي ناقد ثاقب، وبمهارات فائقة في توظيف الحواس، وبقدرة عالية على التّرتيب، وهذا كله يجعله جديرا بهذه المكانة العلمية النادرة.

قضايا لغويّة ونحويّة

مسائل لغويّة مازالت عالقة...!

من أسماء القرآن الكريم  الكتاب والفرقان والذِكْر، لكن هناك من قال الكتاب شيء والقرآن شيء آخر ، ومنهم الدكتور الشحرور الذي زعم  أنّ كلمة الكتاب التي جاءت في القرآن بمعنى القرآن لا تعني القرآن، ومن حججه: "أن اللسان العربي لا يوجد فيه ترادف، وإن المترادفات ليست أكثر من خدعة" لكن علماء اللغة  بحثوا قضية الترادف ،فرضي فريق بوجوده في اللغة ،وأبى ذلك فريق آخر، فأما الذين أبوه فقالوا: للشيء اسم واحد فما زاد عن ذلك فصفات له، وعليه فهناك من يعدّ السيف والمهند مترادفين، وهناك من يعدّ كلمة المهند والحسام والصارم صفات للسيف، فكلها تدل على الحديدة التي يكون بها القتال، ولكن أحداً من علماء اللغة لم يقل أبدا بأن المهند غير السيف والحسام غير المهند...

وأبو علي الفارسي الذي ذكره د. شحرور ضمن علماء اللغة الذين ألهموه منهجه له قصة يقر فيها أن السيف اسم ،والمهند صفة، ولم يقل قطّ :إنهما يشيران لشيئين متغايرين.

أمّا قراءة الدكتور المعاصرة التي توصلت إلى أن "المترادفين متغايران" أريد منها التسلل من معنى الترادف إلى باطل لاعلاقة له بالترادف من قريب ولا بعيد، هذا التسلل يسميه الصيداوي: "التسريب"، فهو يسرب معنى غير صحيح بأكثر من طريق، ثم يلح في تكراره، وبعدها يبني عليه استنتاجه: الكتاب ليس القرآن، والقرآن ليس الفرقان. وإذا تساءلت عن الهدف من وراء كل هذا، فالهدف هو أن تصل إلى نتيجة أن القرآن جزء من الوحي، وليس كل الوحي، فهناك الكتاب ،وهو أعمّ من القرآن ،وهناك الفرقان ،وهو لا يوضح ما هو، المهم أن تتزلزل ثقتك في أنّ القرآن هو كلّ الوح، كذلك  فسّر كلمة جيوبهن لنفي  حكم الحجاب:

لكنّ الصيداوي تصدى له في بحثه عن كلمة جيوبهن في المعاجم اللغوية فوجد الآتي: "جيوبهن: جمع مفرده جيب ،وهو الموضع الذي يُقَوَّر من الثوب ،ويدخل منه الرأس فيبدو منه النحر والعنق". هكذا عرف العربي كلمة الجيب واستخدمها في أشعاره، قال طرفة بن العبد:

فإن متّ فانعيني بما أنا أهله    وشُقّي عليّ الجيب يا بنة معبدِ

أمّا كلمة جيب بمعنى الشق في يمين الثوب، و يساره توضع فيه الأشياء ككيس، فكلمة مولّدة عرفها العرب في عصور لاحقة أي تعدّ كلمة عامية ، بينما الجيب بمعناه المذكور آنفاً هي الكلمة الفصيحة (ذكر الأستاذ الصيداوي تفصيل كل ذلك) ،لكن د. شحرور بقراءته المعاصرة فهم الجيب كلفظة عامية أي: "الجيب كما نعلم هو فتحة لها طبقتان" وعلى هذا الأساس قرأ حكم الحجاب قراءة معاصرة: "فالجيوب هي ما بين الثديين ،وتحت الثديين، وتحت الإبطين، والفرج والإليتين"، هذه الأماكن فقط هي التي يجب أن تغطّى ، ولغير المتخصصين في اللغة تقف معرفتم بالجيب عند المتعارف عليه حالياً، فهل يستغل د. شحرور غفلتنا عن الفصحى ليقرر لنا حكماً لم يقل به أحد من قبل؟ وهل يدرك أنه بقراءته المعاصرة للفظ جيب يجعل المصطافات على الشواطئ في العالم مطبّقات لحكمه الذي يدّعي أنه موجود بالقرآن؟ فالمرأة على هذه الشواطئ لا تكاد تلبس شيئا ،يبدو أن هذه هي القراءة المعاصرة التي في عرفه تجعل القرآنَ صالحاً في كل زمان ومكان، والدليل على ذلك أنه يرى أن ملك اليمين معمول به في الغرب ،وهو المساكنة، إن المساكنة هي انتقال الرجل والمرأة للإقامة في منزل واحد ،وتعاملهم كالأزواج بلا عقد، وهي في نظره ليست محرمة، ولا تعد زنىً مادامت بتراضي الطرفين ،ومادام كل من حولهما يعرف أنهما تساكنا، استشهد الدكتور بهذه المساكنة ليدلل على تطبيق حكم قرآني في ضوء قراءته المعاصرة ،وبجدلية ماركس وإنجلز فسّر كلمة التسبيح في القرآن ؛فقد ذكر د. شحرور في مقدمته أنه وأستاذه الذي علمه أسرار العربية قد صاغا معا قوانين الجدل، وعلل ذلك بقوله: "وذلك للدقة المتناهية المطلوبة في صياغتها"

كلمة الجدل قد لا تقرع جرساً لدى القارئ العادي أو لدى غير المتخصص، ولكن أي قارئ سمع بالمادية الجدلية سيعرف على الفور أن قوانين الجدل هي نتاج فلسفة ماركس وإنجلز التي أسست لمنهج مادي يفسر العالم كله عن طريق المادة، فالمادة عندهم مستكفية بنفسها مستغنية عن خالق يوجدها؛ لأن المادة هي الأصل ،وأي موجودات ظهرت فيما بعد هي ثمرة للمادة، كالروح والفكر ،وحركة التاريخ.

يقوم الجدل على أن كل شيء في الكون هو أطروحة وله بالضرورة طباق (أي ما يناقضه وينفيه) ومن هذا التنافي ينشأ التركيب الذي هو شيء جديد لا هو أطروحة، ولا طباق وهذا هو نفي النفي.

كتم د. شحرور اسم هذين الفيلسوفين، وعزا لنفسه ولمعلمه صياغة قوانين الجدل التي قام على ضوئها بتفسير التسبيح كما يلي:

إنّ صراع العنصرين المتناقضين يؤدي لتغير شكل كل شيء باستمرار وظهور شكل آخر وفي هذا الصراع يكمن السر في التطور المستمر مادام الكون قائما. ثم يقرر الدكتور أن هذا ما أطلق عليه القرآن مصطلح التسبيح، فالتسبيح جاء من سبح وهي الحركة المستمرة كالعوم في الماء، وهذا الصراع ينتج عنه مقولة أن الموت حق والله حي باق.

 - لن تجد اختلافاً بين أول جملة للدكتور ،وبين قوانين الجدلية المادية، لكنه مع ذلك يحمل الجدلية المادية ما لم تنادي به. إن المادة في نظر هذه الفلسفة المادية سرمدية، لا بداية لها ولا نهاية لها، أي أن الكون سيظل قائماً و"لن" ينتهي، فلا بعث هنالك ولا حساب، وبهذا يكون قد أعمل الفأس في الماركسية نفسها وألبسها ثوباً لا ترضاه.

-يقول: إن هذا الصراع ينتج عنه أن الله باق! الله حي باق سواء أوُجِدَ هذا الصراع المزعوم أم لم يوجد، وبقاؤه لا يمكن أن يكون نتيجة لشيء- حاشاه ،أمّا عن تفسيره لكلمة سبح، فلا يوجد في أي معجم ما يفيد أنها "حركة مستمرة" فالتسبيح تنزيه ، ولكن هذا من عند الكاتب على سبيل "تسريب المعنى للقارئ" حتى يقنعه بفكرة الصراع الدائم، فابن فارس في معجمه يقول: سبح: العوم في الماء،

فابن فارس في معجمه يقول: سبح: العوم في الماء، والصيداوي يؤكد أن عبارة الحركة الدائمة التي سربها د. شحرور لا وجود لها في شرح مادة سبح في أي معجم، فانظر كيف يبني الدكتور استنتاجاته على معاجم لا وجود لها وفلسفة مادية تنافي طبيعة الدين الإسلامي....  يتضح من النقاط السابقة أن منهج د. شحرور لا سند له من اللغة التي أنزل بها القرآن، فمعاني اللغة لا تثبت بالتفكر، وإنما تثبت بالنقل والرواية، وليس في ذلك جمود فكري، ولا عيب في اللغة العربية؛ لأنك إذا قرأت إنجليزية شكسبير لن تقرأه إلا بمعاني لغة عصره؛ وإلا اختل المعنى، فلماذا لا يُفهم القرآن بلغته العربية الفصحى التي نزلت كما فهمها العرب؟

ولغتنا العربية لغة مخدومة جُمعت ،ودُوّنت ،وضبطت ألفاظها، وعلم علماء اللغة أن الانحراف بالكلمة فيه هدم لمعنى العبارة،  لذا عرضوا أي كلمة مختلف فيها على شاهد من القرآن ،أو السنة ،أو لسان العرب، ليفصل في إذا ما كان ما يذهبون إليه يجري على سنن لسان العرب أم لا، وعلى هذا أساس بنيت لغتنا العربية.

هذا إلى جانب المنهج الخفي الذي اتبعه الدكتور ومنه:

١. عدم ذكر أي مصادر لكتاب من ٧٠٠ صفحة، ألا يثير هذا التساؤل؟

٣. اجتزاء الكلام على طريقة لا تقربوا الصلاة مع عدم ذكر المصدر، وهذا بتعبير الصيداوي اغتيال لغفلة القارئ.

٣. طريقة التسريب ،أو الدبيب.

٤. ادعاء أصالة الفكرة مع كتم أي دليل على أصلها مثل ادعاء صياغة قوانين الجدل.

يرى الصيداوي أن لشحرور "طريقة عرض وتفكير خاص، فهو ينطلق من فكرة ثابتة ،ومقررة في نفسه ،ثم يشرع بعد هذا في البحث عما يؤيدها، متخطياً إليه ما لا يجوز تخطيه، فإذا لم يجد المؤيدات ارتجلها، حتى إذا أشرف على غايته المقررة في نفسه: قال يُستنتج من هذا......!

اللّغة في حياتنا

الاحتياجات اليوميّة من الصيغ الزمانيّة في اللغة العربيّة

مقدّمة:

إن الصيغ الزمانية التي يحتاج إليها البشر للتعبير عن احتياجاتهم اليومية تكاد تكون واحدة في كلّ اللغات (التركية والإنجليزية والفرنسية وغيرها، ولكن الفرق بين العربية ،واللغات الأخرى الأكثر شيوعًا في العالم؛ أنّ العربية لم تتغير منذ نزل القرآن بها، بينما تغيرت لغات الأقوام الأخرى، والفرق بين علماء اللغة عند العرب ،وغيرهم أن العرب ما زالوا مرتبطين بالتقسيم النحوي للفعل (ماضٍ ومضارع وأمر)، وقد قصّروا في بناء علم جديد للغة العربية يعلم العرب لغتهم الفصحى، ويعمل جنبا إلى جنب مع علم النحو في الحفاظ على اللغة ،ودفعها إلى الأمام ،وفي حين قصَّر العرب أجيالا في تجديد علوم اللغة فإننا نجد الآخرين قد أعادوا هيكلة لغاتهم وقدموها -لأبنائهم وغيرهم- في نظام علميٍّ منطقيٍّ يسير، إذ نجدهم يقسّمون الأفعال والصيغ الزمانية والتراكيب في لغاتهم وَفق الوظائف والمعاني التي تؤديها في كلٍّ من أزمنة الماضي والحاضر والمستقبل، ويوزّعون التراكيب على الوظائف التي تؤديها.

إنه لدى مقارنة الصيغ الزمانية البسيطة والمركبة في اللغة العربية بالتركية والإنجليزية، أو الفرنسية نجدها لا تختلف من الجهة الوظيفية أو الدلالية، لكن قد تختلف في عدِّ بعض التراكيب أزمنة خاصة في حين لا تعدّها لغةٌ أخرى، ولكن على العموم نجد التقسيم التركي للأزمنة هو الأقرب إلى اللغة العربية لدى دراستنا للُّغات العالميّة المتقدّمة نجد العمدة في التقسيم الزماني فيها يعود إلى أمرين، أحدهما الزمن والثاني الصيغة.

إن التقسيم الدلالي ،والوظيفي للأساليب اللغوية هو الأساس الذي ينبغي أن يرتكز عليه علم اللغة المجرّد الذي يعلم اللغة كوسيلة تواصل بشري، بينما يعتمد النحو في تصنيفه لمفردات اللغة ،وتراكيبها الشكل الصرفي للكلمات أحيانا -كتقسيمه الأفعال إلى ماض ومضارع وأمر- وحركة الحرف الأخير غالبا، وهو ما يعرف بنظرية العامل ،وما تتضمنه من علّة وعامل ومعمول ،وخلافات فيها، ولهذا تعاني كتب تعليم اللغة العربية للعرب أو لغيرهم من الازدواجية في محاولتها التوفيق بين حاجاتنا اللغوية المبنية على الوظائف والدلالات ،والاستخدام ،وبين علم النحو المبني على نظام الصرف والعامل وفلسفتهما.

فالصيغ الزمانية في اللغة العربية مقارنة باللغة التركية خاصة، تحتاج إلى مرتكزات تمكننا من بناء (علم اللغة العربية) المجرد ليؤدي خدماته جنبًا إلى جنب مع علوم اللغة الأخرى من خلال (الحاجة إلى تجديد علوم اللغة) أي: كيف نقدر حاجتنا إلى التطوير اللغوي، وتجديد علوم اللغة، وإيجاد أصول منهجية لبناء (صيغ الأزمنة في اللغة العربية) أي: الأزمنة في الجملة الفعلية، والأزمنة في الجملة الاسمية، الأزمنة المحكية.

حاجتنا إلى تجديد علوم اللغة

تمتاز عصور التقدم العلمي ،والاستقرار الحضاري بسير العلوم وَفق الأهداف المبنية على حاجات الإنسان والمجتمع، بينما لا تجد أهدافًا حقيقيَّةً في فترات الاضطراب والتخلف الحضاريِّ نتيجة لعدم إدراك الأمم لحاجاتها… إذ إن الإنسان الذي يعيش في بيئة مضطربة يفقد القدرة على رؤية المستقبل… وعلى فرض أن العلماء الذين يعيشون في بيئة متخلفة أدركوا حاجتهم وحددوها ،فإنهم لا يملكون القدرة على تغيير المسيرة العلمية التي ورثوها عمن سبقهم وفق احتياجاتهم، والسبب في ذلك شيوع تقديس وسائل الحياة وشكلياتها على حساب مقاصدها وروحها، فيغدو التقليد الصوريُّ صفة العلم، وتختلط مفاهيمهم ويفقدون القدرة على التمييز بين الاتباع الذي يعني سلوك طريق السابقين نفسه، وبين التقليد الذي يعني المحافظة على الصورة الموروثة، وترك الطريق الذي وصل من خلاله السابقون إلى أهدافهم.

ولقد أسس علم النحو العربي في زمن السلف الصالح، في القرن الأول الهجري وفق حاجة ذلك العصر لحماية اللغة العربية من الخطأ بسبب الدخيل عليها، من خلال شرح اللغة وتعليم الناس ضبط أواخر الكلمات، بينما كانت مهمة علم الصرف تعريف المتعلمين على أساليب بناء الكلمة ودلالتها مفردة، في حين كان علم الإملاء مخصصا لضبط قواعد الرسم العربي، وأما علم البلاغة فقد أسس لدراسة المعاني الحقيقية ،والمجازية للكلام العربي، وما زالت علوم اللغة إلى اليوم تؤدي مهمتها في خدمة اللغة العربية، ولكن المشكلة في أن اللغة بشكلها الأصلي بدأت تفقد وجودها؛ ولهذا بدأت تظهر فجوة كبيرة بين المتعلم ،وعلوم اللغة إذ غدت هذه العلوم صفة لواقع افتراضي غير موجود.

كيف نقدر حاجتنا إلى التطوير اللغوي؟

نكاد نكون متفقين على أن علم اللغة العربية يحتاج إلى تطوير كما هو حال كل العلوم الإنسانية التي تتغير من يوم إلى آخر في بناء متين يتطاول بحثا عن الكمال، وإن السعي نحو التغيير أو التطوير والإنتاج غالبا ما يسبقه إحساس بالحاجة إليه، فما الحاجة التي تشعرنا بوجوب تطوير علومنا اللغوية وتحديثها؟

 حاجاتنا اللغوية تتجلّى في ثلاثة ميادين أساسية.

الأول: في ميدان تعليم اللغة للعرب؛ إذ لم تستطع أدواتنا اللغوية أن تحافظ على لغتنا فذهبت الفصحى ،وحلت محلها لهجات عاميّة ، ومنهم من يعزو ذلك إلى الاختلاط بالأمم الأخرى، فما قدرتنا على مواجهة هذا الاختلاط الأممي أوثاره الممتدة لمئات السنين؟ ولعل من يقول ذلك يكون محقا إلى درجة ما، ولكن السؤال المهم؛ إذا كان هذا واقعنا الذي لا مفر منه ،فهل أوجدنا ما يحل هذه المشكلة ،ويعيد الفصحى إلى الحياة؟ والحقيقة أن العلماء لم يبذلوا جهودًا كافيةً في ذلك ،إن علم النحو الذي يراه كثيرون العلم الأساس في تعليم اللغة، لا يستطيع أن يهب اللغةَ روحَها، ولا يهب اللغة لمن يتعلمه فكيف بمن لم يتعلمه؟ وما أكثر طلابنا الذين تعلموا النحو أعوامًا وعجزوا عن الفصحى؟ بل كم عدد الأعاجم الذين يتقنون النحو ومسائله أكثر مِمَّن تعلمه من العرب ولا يجيد السلام وردّه؟

الثاني: الحاجة الثانية نجدها في ميدان تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها… إذ إن ارتباط العرب ولغتهم بالإسلام وما نتج عن ذلك من تفاعل حضاري غيّر وجه العالم؛ جعلها لغة عالمية متقدمة تنافس لغات أقوى الأمم وأكثرها تحضّرًا، ولا يزال عدد المقبلين على تعلمها يزداد يوما بعد يوم، ولكنه ،وكما يشعر العاملون في مجال تدريس اللغة للعرب بالانفصام التام بين النحو خاصة وواقع اللغة، فإن المعاناة نفسها يجدها العاملون في مجال تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وذلك للانفصال التام بين المستويات اللغوية والقواعد العربية التي تدرس وفق التقسيم النحوي، حيث يصل كل من المعلم والمتعلم إلى مرحلة -تبدأ في المستوى المتوسط عادة- يشعر فيها بالانفصال التام بين اللغة ،وقواعدها.

ثالثا: إن الميدان الثالث الذي نشعر فيه بقصورنا اللغوي ،ويجعلنا مجبرين على قضاء الوقت للعمل على تطوير علومنا اللغوية ميدان الحضارة، فإن الأمة لا تبدع وتنتج خارج لغتها، ونحن العرب لا يمكننا أن نؤمل نهضة مستقبلية بينما نبني أملنا الحضاري على اللغات الأجنبية، لهذا ينبغي أن تكون لغتنا قادرة على مسايرة كل أنواع التطور الإنساني لعله يأتي علينا يوم ،وندلي بدلونا فيه.

إن أحد أقرب أشكال تخلف مناهجنا اللغوية أن تجد الطالب العربي يقدر على ممارسة اللغة الأجنبية ،والتكلم بها بطلاقة مع فهم قواعدها ،وبناء تصور متكامل عنها خلال سنة، ولا يجيد لغته الفصحى، أوعلم النحو فقط على الرغم من دراسته سنوات عدة… وإن أحد أسباب قدرة طلابنا العرب على تعلم اللغة الأجنبية ،وإتقانها أكثر من العربية؛ أنه يتعلم الأجنبية لغةً -أي منظومة متناسقة تحوي نمط كلام وتواصل بشري- بينما يتعلم العربية إحصاء ،وفلسفة ومعنىً، ولا يرى لعلومها أثرًا حقيقيًّا في واقعه العملي، وإن العرب اليوم إذا ما أرادوا أن يمارسوا دورهم الحضاريَّ فعليهم أوّلًا أن يعودوا إلى الفصحى لتكون لغة جامعة لهم ولمن يتعلم لغتهم… وإن العودة إلى الفصحى تستلزم منا بناء علم لغوي جديد مرتكزٍ على علومنا اللغوية الموروثة، يعلم اللغة نفسها كما تُعلَّم لغات العالم الأخرى، ويكون مدخلًا إلى علومنا اللغويّة الاختصاصيّة.

الدعوات إلى تجديد علوم اللغة

يعد القاضي الظاهري ابن مضاء القرطبي المتوفى سنة 592 هـ أول من جهر بنقد النحو العربي ونظرية العامل والتعليل التي بُني عليها، ولم يصلنا من حملته على النحاة سوى كتابه (الرد على النحاة)، ولعل تلك الدعوة قد اختفت تمامًا إلى أن أعادها إلى الحياة بعض علماء اللغة المعاصرين تحت ضغط الحاجة وعدم إيفاء علم النحو باحتياجاتنا اللغوي، ومن أبرز من دعا إلى تجديد علم النحو – العلم الأساس في اللغة – الدكتور شوقي ضيف في كتابه (تجديد النحو) وكانت خطته تعتمد في جزء كبير منها على إزالة بعض أبواب النحو ،وزيادة بعضها، ومنهم أيضا الدكتور تمام حسان في مجموعة من مؤلفاته لعل أبرزها كتابه (اللغة العربية معناها ومبناها) الذي بنى فيه رؤيةً جديدةً للنحو العربيّ، وتعرض فيه للعلاقة بين زمن الفعل وبنائه واسمه، ومنهم إبراهيم مصطفى في كتابه (إحياء النحو)، وتبعهم في ذلك مجموعة أخرى من الباحثين، ومن أبرز من تهجم على النحاة ،وكتبهم في عصرنا الشيخ علي الطنطاوي في مجلة الرسالة حينما كتب مقاله الشهير (آفة اللغة هذا النحو).

مصير جهود التجديد:

والحقيقة أن محاولات هؤلاء العلماء تجديد النحو قد ظهرت نتيجة لإدراك حاجتنا إلى التطوير اللغوي في ظل ضياع العربية، ولعل في دراستهم للغات الأجنبية الأخرى ما أعطاهم تصوُّرًا عن طرائق دراسة التراكيب اللغوية، فجاءت جهودهم التجديدية محاولة للتوفيق بين ما رأوه من تطور لغوي في عالمهم ،وبين قواعد النحاة، ولكن محاولاتهم قد عجزت عن إحداث تغيير حقيقي في مسيرة اللغة لسببين، الأول: أنهم انطلقوا إلى التجديد اللغوي من منطلقات النحاة القدامى وليس من منطلقات مغايرة، فلم تخرج تصوراتهم عن الطريقة النحوية في المجمل، والثاني: أن دعوتهم للتجديد كانت في مواجهة النحو، العلم المتكامل البنيان على مدى ثلاثة عشر قرنًا من الزمان، ما جعل الأكثرية تغض النظر عن جهودهم، في حين رأى صنفٌ آخر من الباحثين في جهودهم محاولةً لهدم البناء النحويّ الذي يمثل عصب العلوم اللغوية عند العرب، فرفضت دون تفهُّمها أحيانًا، إن رفض مجمل اللغويّين لجهود المجدّدين لا يعني أبدًا أن جهودهم قد ذهبت هباءً فقد أنجزوا أبحاثاً دقيقة ستكون مفيدةً في بناء علم اللغة التجريدي الذي ينبغي أن يكون مقدمة غيره من العلوم اللغوية.

ما الحل؟

إن النحاة لم يخطئوا أو يَقْصُروا عن فهم العلاقة بين شكل الكلمة ومدلولها وخاصة في الأفعال، ولكنهم بنوا علم اللغة وفقًا لمعارف زمانهم وحاجاتهم؛ بينما قَصُر الذين جاؤوا بعدهم عن بناء علم لغويٍّ يمثل معارف عصرهم ويخدم حاجاتهم ،إنّ الحل بحسب ما خلص إليه البحث، يكمن في بناء علم جديد للغة ننطلق فيه من منطلقات ،وأسس وظيفية، يعلم اللغة نفسها نمطَ تعبير وتواصل بشري، يكون مقدمة لعلوم العربية أو معينا لها لا بديلا، لنتجنب المشكلتين اللتين وقع فيهما من دعا سابقًا إلى التّجديد اللغوي.

كيف نطور اللغة العربية؟

مع اتفاقنا على الحاجة لتطوير اللغة ،وتغيير أساليبنا التعليمية ،فإننا سنختلف في مفهوم هذا التطوير أو التغيير… وهنا مقترح لتطوير اللغة العربية وفق مجموعة من المقدمات والقوانين والمرتكزات:

أولا: كيف تتطور العلوم الإنسانية؟

إن تطوير علم ما لا يقضي بالضرورة نسف بنيانه القديم ،أو الزيادة عليه أو تغييره بتغير الأزمان… إن بعض العلوم يكون تطويرها بهدم الأجزاء التالفة منها والاستفادة من القديم الصالح في إعادة تشييد أركانها وفق حاجات البشر، لكنّ بعضا منّا لا يقبل الهدم والبناء كعلم الفيزياء مثلا وعلم أصول الفقه ،والمنطق والعلوم الدينية الخبرية المؤسسة على الغيب؛ لأن أمثال هذه العلوم مبنية على مسلّماتٍ عقليّةٍ ثابتة بالحسّ والتجربة والعقل أو الإيمان بالغيب، وإن إعادة البحث فيها بدراساتٍ علمية حديثة لن تقودنا إلا إلى  النتائج ذاتها التي سبق إليها الأولون.

ثانيا: كيف تتطور اللغات؟

إن اللغاتِ الإنسانيةَ عمومًا تتعرض لنوعين من التطوير، أحدهما الهدم والبناء، من خلال الاستغناء عن بعض أجزاء اللغة مع مرور العصور ،والتعويض عنها بجوانب جديدة، كما حدث لكثير من اللغات العالمية إذ تغيرت من فترة لأخرى كالإنجليزية والتركية والفرنسية وغيرها… النوع الثاني من التطوير يكون من خلال تحديث طرائق عرض اللغة وتقسيمها ،وتقديمها بناء على علومها ومعارفها السابقة.

وإن الناظر في لغتنا العربية وعلومها الأصيلة -وخاصة النحو- يجدها من القسم الذي لا يقبل الهدم والبناء ،وإعادة تغيير أساسيات اللغة كما هو الحال في باقي اللغات، والسبب في ذلك ارتباطها الوثيق بالقرآن الكريم وعلوم الإسلام في علاقة متبادلة بينها وبين الدين؛ إذ نَقَلَتْهُ، وحفظها من التغيير، حتى إنه قد كُتبت بها علوم العرب والمسلمين في شتّى مجالات الحضارة والدّين والأدب والتاريخ والفنِّ والسياسة لأكثر من أربعة عشر قرنًا بلا تغيّر فيها، فأصبح التفكير بهدم أجزاء من علومها أو الاستغناء عنها ،والتعويض بشيء جديد ضربًا من الخيال…ونتيجة لحتمية لغتنا بشكلها الفصيح وبعلومها الموروثة؛ فإنه لم يبق لنا طريق لتحديثها سوى تغيير إعادة عرض قواعد النطق بها بدراسات أقرب إلى مقاصد الكلام الإنساني ،وأهدافه مما هو الواقع في علم النحو العربي.

ثالثا: ما المنطلقات في تطوير اللغة العربية؟

إن أساسنا في تطوير لغتنا هو مراقبة مقاصد المتكلمين بالعربية لمعرفة الأساليب التي يعبرون من خلالها عن المعاني التي يبتغون إيصالها إلى الآخرين، ونقوم بوضع كل أسلوب يستخدمه المتكلمون مع قسيمه اعتمادًا على معارفنا اللغوية السابقة… وهنا نجد تساؤلًا مهما؛ أليس في علوم اللغة العربية ما يتكلم في هذا الجانب ويوضحه؟

إن أصل هذا التقسيم المنطقي للغتنا وقواعدها موجود في علم البلاغة -كما سيأتي لاحقًا- أكثر مما هو موجود في علم النحو، وإن كان النحو لا يخلو من بعضه؛ إذ إن مباحث البلاغة تُعنَى بالدرجة الأولى بمعاني الكلام ومقاصد المتكلمين واحتياجاتهم الحقيقيّة الواضحة أو المجازية البسيطة أو المعقدة الخفية، ونجد علم أصول الفقه يشترك معها في نظرته إلى الكلام وتقسيمه ، ومن خلال جمعنا بين مباحث علوم اللغة العربية كالبلاغة والنحو والإملاء والصرف وفقه اللغة وغيرها، بالإضافة إلى علم اللغة التطبيقي والتقابلي أو المقارن سنجد الطريق لبناء إطار مرجعي خاص بلغتنا العربية.

وفي هذا الصدد ينبغي أن ندرك أنه لا يمكننا أن نتبع في البناء اللغوي الجديد لعلم اللغة العربية مصطلحات جديدة بحتة -كما يتصور بعضهم ؛لأنه في النتيجة عبارة عن مدخل إلى علوم العربية الأخرى النحو والصرف والبلاغة والكتابة… ولهذا سنختار من مباحث هذه العلوم ما يخدم هدفنا ،ولا تبتعد دلالته عن الوظيفة التي تؤديها التراكيب اللغوية.

الكلمة عند النحويين ثلاثة أنواع: أسماء وأفعال وحروف، وهو تقسيم منطقي عام، وقد فصّل فيه الدكتور تمام حسان فقرر أن اللغة تتكون من سبعة أشياء: الاسم والصفة والفعل والظروف ثم الضمائر والأدوات والفواصل… ومهما يكن فإن الجملة اللغوية المفيدة تتكون من ضم بعض هذه الأجزاء إلى بعضها ضمن نظام عرفيٍّ بين المتكلمين باللغة.

والسؤال الآن إذا كانت هذه هي عناصر كل لغة، فكيف يستخدم البشر هذه اللغة وما أغراضهم منها؟

تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء:

لقد عُني علماء اللغة وفقهاء الإسلام كثيرا بأنواع الكلام ودلالاته وقرروا أن أنواع الكلام كلها ترجع إلى قسمين، أحدهما الخبر والثاني الإنشاء، كما نجد ذلك في كتب البلاغة وأصول الفقه… إذ إن المتكلمين بلغة ما قد اتخذوا اللغة عرفًا يتواصلون بواسطته ويعبر كل منهم من خلالها عن نفسه، ولدى استقرائنا لحاجات هؤلاء المتكلمين وأغراضهم نجدها لا تعدو التقسيم الذي استقر عليه علماء البلاغة أو أصول الفقه الإسلامي، ونجد تحت كل من هذين القسمين أنواعًا مختلفة من المعاني اللغوية المركبة، والمهم لنا هنا في (علم اللغة العربية المجرد) الأنواع البسيطة منها والمنتجة بحسب مستويات اللغة العامة وليست الاختصاصية منها.

أقسام الخبر والإنشاء:

لدى نظرنا إلى الخبر نجده ينحصر في ثلاثة أزمنة أساسية: الماضي والحاضر والمستقبل، وهذا هو الأساس في تقسيم أساليب الكلام العربي… وإن كان في كل زمن من هذه الثلاثة تقسيمات نعرض لها لاحقا.كما يدخل في الخبر صيغ إفادة الوجوب مثل (يجب علي أن) وصيغ الاستطاعة (أستطيع أن)، وهي وإن كانت صيغ خبرية لكن لا يعتبر مفهوم الزمان فيها لأنها إنما وجدت لإفادة معنى ما بغض النظر عن القالب الزمني الذي جاءت على صورته، وإنه من الجيد لنا كمختصين أن نعرف مكان هذه الصيغ من اللغة، وأما بالنسبة للمتعلم فيكفيه منها أن يعرف أنها صيغ للدلالة على هذا المعنى أو ذاك ويجيد استخدامها بعيدا عن فلسفة المقارنة بين أصل التركيب وهدف، .وأما الإنشاء فهو أقسام لكل منها وظائفه الخاصة وأهمها: الأمر والنهي والعرض والطلب والتمني والرجاء.

كيف نعرض القواعد؟

كما هو الحال في الإنجليزية والتركية تعرض اللغة من خلال الأزمنة والصيغ الإنشائية، وأدوات الربط، كل منها في مكانه من جسم اللغة، متضمنة فيما يناسبها من المواضيع والمواقف الحياتية، إذ تكون المعاني المركبة ووظائف الكلام هي التي تستدعي المباحث القواعدية اللازمة لها، وليس العكس كما هو الحال في كتب تدريس القواعد العربية للعرب، ولا تكون وظائف الكلام وسياقاته منفصلة عن القواعد كما هو الحال في كتب تعليم العربية لغير الناطقين بها.

في علم اللغة العربية -بشكله التجريدي- لا نحتاج درسًا اسمه نواصب الفعل المضارع ولا جوازم الفعل المضارع، ولا نحتاج درسًا اسمه النواسخ، وإنما توجد وظيفة يُتحدث عنها، وتُدرَّس كل أداة مما سبق في مكانها من الأزمنة أو الصيغ، وسأضرب أمثلة لذلك:

(أنْ): تدرس في القوالب المركبة، كأداة للربط بين فعلين أولهما فعل مساعد يدل على صيغة، والثاني فعل يدل على حدث مثل: (يجب أن أذهبَ… – أستطيع أن أجريَ… – يمكن أن أشربَ…  – أُفضل أن أقرأَ… – إلخ).

(لن): تدرس في زمن المستقبل إذ هي أداة النفي فيه، مثل: (سأسافر إلى البرازيل – لن أسافر إلى البرازيل).

(كي): تدرس في المستويات المتقدمة للربط بين جملتين الثانية منهما سبب للأولى، مثل: (جاء عامر كي يأخذ السيارة).

(لا) الناهية: أداة توضع قبل الفعل بصيغة الحاضر لتفيد النهي، إذ تتركب مع صيغة الفعل الحاضر لتنتج صيغة النهي المقابلة لصيغة الأمر مثل: (اكتب # لا تكتب)، ونلاحظ أن الأمر هنا عبارة عن صيغة تقابل النهي، وليس زمنًا قسيمًا للماضي والمضارع كما في النحو أو كتب العربية للناطقين بغيرها.

(لم): تدرس بعد نهاية الأزمنة البسيطة كأسلوبٍ آخر لنفي الزمن الماضي، مثل: (تناولَ الطفلُ طعامَه، لم يتناولْ الطفلُ طعامَه).

(ليس): تدرس في المستوى المبتدئ في نفي الجملة الاسمية، مثل: (المعلمُ موجودٌ، ليس المعلمُ موجودًا).

صيغ الأزمنة في اللغة العربية:

الأزمنة ثلاثة هي الماضي والحاضر والمستقبل، وهي إما أن يعبر عنها بشكلها البسيط أو بمعان أخرى مضافة إليها، ومن هنا جاء تنوع الأزمنة في اللغات الإنسانية، فإذا اعتبرنا مع الزمن المجرد الصيغ المخصصة للتعبير عن كل حدث مقترن بزمان حصلنا على نظام تقسيم الأزمنة الخاص بكل لغة.

ومن أشهر من فطن إلى هذه المسألة في اللغة العربية الأستاذ فريد الدين آيدن حيث كتب بحثًا تتبع فيه اختلاف الدّلالة الزمنية للفعل باختلاف الصيغ، وباختلاف الكلمات التي يقترن بها في بحثه الأزمنة في اللغة العربية، ولكنه لم يُقعِّد المسألة واكتفى بالإضاءة على بعض جوانبها؛ من خلال ملاحظة تغير معنى الصيغة الفعلية بحسب العوامل والأدوات الداخلة على الجملة العربية.

وللدكتور محمد موفق الحسن بحث لا بأس به في هذا الباب عرض فيه لأصل المسألة الزمانية واختلاف العلماء فيها، ثم سلط الضوء على القصور والخلط الذي تعاني منه كتب تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها في مجال تقديم الصيغ الزمانية، مستدلًّا على ذلك بسلسلة اللسان وسلسلة الطريق إلى العربية والعربية بين يديك، ثم عرض لتصوره عن الأزمنة واستمده في معظمه من أبحاث الدكتور تمام حسان ولم يستطع أن يأتي بجديد إذ لم يتخلص من عقدة النحو ،ومنطلقاته، كما يتضح ذلك في حديثه عن الزمن الحاضر إذ عاد إلى التعريف النحوي، وهنا يبدأ الخطأ في تدريس الأزمنة وبالتالي فإن كل ما يبنى عليه يبقى قاصرًا، ثم اعتمد التراكيب الفرعية أزمنة مستقلة بذاتها مما أدى إلى تعقيد الرؤية والخروج عن التقسيم المنطقي.

ومن التجربة  في دراسة اللغة الإنجليزية والتركية، ثم تدريس الأزمنة والصيغ العربية من خلال ربطها بأساليب وقواعد اللغتين السابقتين، كعملية تيسير لاكتساب اللغة العربية بالاستفادة من ملكة اللغة الأم وقواعدها اللامحسوسة الموجودة بالفطرة في عقل الطالب، وبالاطلاع على جهود العلماء المعاصرين في هذا الباب متأخرًا عن التقسيم الذي وصلت إليه بالمقابلة والتجربة، ولعل في تأخر الاطلاع على ما كتبه السابقون من الخير -أحيانًا- مثل ما نجده في دراستها والاطلاع عليها، فكثيرا ما تَأْسِر الفكرة السابقة قارئها ،وتحول بينه وبين الانطلاق إلى آفاق أخرى لم يصل إليها السابقون.

إن اللغة العربية لها نظامها الخاص الذي يعتمد الجملة الاسمية والفعلية أساسًا في أشكال الجملة العربية، هذا في النحو العربي، وأما في البلاغة فتتكون الجملة من مسند إليه وهو (الاسم) ومسند وهو إما (صفة) أو (فعل)، ولعل التقسيم البلاغي هو الأقرب إلى الوظيفة اللغوية، وإننا إذا عددنالنظام البلاغي والنحوي معًا في تقرير أنواع الجمل نستطيع أن نقول: الجملة الاسمية ما أسندت فيها الصفة إلى الاسم، والجملة الفعلية ما أسند فيها الفعل إلى الاسم، مثل: (محمد معلم وأحمد في الصف: جملة اسمية) و (محمد يقرأ ويقرأ محمد: جملة فعلية)، ومن خلال ما سبق سننطلق إلى دراسة الصيغ الزمانية في اللغة العربية.

لم يخطئ النحاة الأقدمون -بلا شك-  في تقسيم الأفعال إلى (ماض ومضارع وأمر)، فهم أكثر إدراكًا للغة منا، ومع هذا علينا أن نعلم أن منطلقاتِهم إلى اللغة كانت تختلف عن منطلقاتنا؛ إذ إن الواقع اللغوي الذي عاشوه يختلف عن واقعنا الذي يدعونا إلى إعادة هيكلة اللغة وتقديمها وفق معارفنا المعاصرة… وليس صحيحًا أبدًا محاولة الاعتداء على البناء النحويّ المتناسق لتحميله حاجاتنا المعاصرة، وإنما الصحيح أن نتعلم من النحاة كيف نبني بناءً جديدًا نَتْبَع فيه أساليبهم العلميَّةَ في اعتماد مبدأ الفرضِ والتّجربة والقياسِ واستقراء اللغة والتراكيب؛ لتمييز التراكيب الفاسدة من التراكيب المفيدة في الواقع اللغوي.

ومن خلال المقارنة بين الصيغ الزمانية في كل من العربية من جهة والتركية من جهة أخرى. نجد أن الأزمنة التي في لغتنا العربية هي اثنا عشر زمانًا، أربعة منها بصيغة الجملة الفعليّة للدّلالة على حدث مقترن بزمان، وأربعة منها بصيغة الجملة الاسميّة للدّلالة على صفة ثبتت للاسم -المبتدأ أو المسند إليه- مقترنة بزمن، وأربعة منها بصيغة الحكاية للدّلالة على الأزمنة البسيطة في الزّمن الماضي البعيد.

ولدى استقراء الصيغ الزمانيّة في اللغة التركيّة وجدتها ستة عشر زمانًا أصيلًا، وقد يضاف عليها أربعة أخرى لتصل إلى عشرين باعتبار أن الماضي في اللغة التركية نوعان معلوم وغير معلوم، وليس كل ما يقابلها في العربية من تراكيب يمكن أن يعدَّ زمانًا مستقلا، إذ إن بعض ما يعدّ زمانا خاصًّا في التركية يندرج تحت نوع من الأنواع الاثني عشر التي سنذكرها.

وكما أن الجملة في العربية نوعان اسمية وفعلية، فكذلك هو الحال في التركية إذ تنقسم الجملة عندهم إلى فعلية واسمية، والاسمية عندهم ما تم الكلام بها وخلت من الفعل، والفعلية عندهم ما تم الكلام بها مع وجود فعل في تركيبها.

وسنعرض هنا للصيغ الزمانية في العربية مقارنة بالتركية، وقد أعرج على الإنجليزية للتوضيح أحيانًا.

الأزمنة في الجملة الفعلية

الجملة الفعلية هي ما ابتُدِئت بفعل كما في علم النحو، أو ما كان المسند فيها فعلا سواء تقدم على الاسم أو تأخر عنه، كما سنسير عليه، وهو ما عليه الاعتماد في اللغة التركية، وهو أقرب في الاعتبار إلى الوظيفة مما هو عليه الحال في النحو العربي… ولدى استقراء تراكيب الجملة الفعلية البسيطة نجدها -بالنظر إلى الزمن- إما أن تدل على حدث وقع وانتهى في الماضي، أو حدث يقع في وقت التكلم، أو حدث سيقع في المستقبل، أو حدث واسع تكرر في الماضي وما زال يتكرر في الحاضر وسيستمر في المستقبل، فهذه أربعة أزمنة ولكل منها تركيبه الخاص في كل من العربية كما هو الحال في الإنجليزية والتركية، ولكل من هذه التراكيب ما يميزه عن الآخر.

الأول: الزمن الحاضر الواسع ، وتعريفه: هو ما يدل على حدث تكرر في الماضي ،واستمر كذلك في الحاضر وسيستمر في المستقبل، للدلالة على عادة أو حقيقة علميّة أو خاصية الفاعل في المسائل الثابتة أو ما شابهها مما يستمر في الأزمنة الثلاثة.

الاسم: واسمه في اللغة التركية (الزمن الواسع) (Geniş Zaman)  ، واسمه في الإنجليزية (الزمن الحاضر البسيط) (simple present tense) وليس له اسم خاص في اللغة العربية.

الصيغة: يعبر عن هذا الزمن بصيغة (الفعل المضارع) مع تضمن الجملة لفظا أو معنى إحدى التعابير الآتية: (دائما – غالبا – أحيانا) أو (أبدا) في حالة النفي، أو (عادة أو كثيرا ) للدلالة على كثرة الأمر، أو (نادرًا) للدلالة على قلته… ومثل ذلك (كل يوم – كل أسبوع – كل عام – أيام الأحد – يوميا – شهريا – أسبوعيا – سنويا )… فهذه التعبيرات أو ما يحمل معناها – ما يدل على تكرار الحدث في الأزمنة الثلاثة – إن وجدت في الجملة مع صيغة الفعل المضارع دلت على ما يسمى (بالزمن الواسع) في اللغة التركية، أو (الزمن الحاضر البسيط) في اللغة الإنجليزية.

الأمثلة:

في الإيجاب: (دائمًا أذهبُ إلى العمل في السّاعة الثّامنة صباحًا – أنت تحبُّ العسل – الشّمس تطلعُ من الشّرق).

في النفي: (أنا لا أذهبُ أبدا إلى العمل متأخّرًا – عائشة تقرأُ الكتب دائمًا لكنّ سميّة لا تقرأُ أبدًا).

السؤال: (متى تنامُ عادةً؟ الجواب: غالبًا أنام في الساعة الحادية عشرة، وأحيانًا أتأخّر إلى الثانية عشرة).

ونلاحظ أن ضد كلمة (دائما) في الإثبات كلمة (أبدا) في النفي، وضد كلمة (غالبا) كلمة (أحيانا)، وهنا نتبع المشهور في اللغة العامة ،ولا نلتفت إلى التراكيب النادرة[6].

الاسم المقترح: إن التعبير التركي عن هذا الزمن هو الأقرب إلى المنطق، فأقترح له اسم (الزمن الحاضر الواسع) وأضفت له كلمة الحاضر المستخدمة في الإنجليزية لأن صيغته في لغتنا مشتركة مع الزمن الحاضر الحقيقي فاستدعى التنبيه إلى القدر المشترك مع ما يميزه.

الثاني: الزمن الحاضرتعريفه: هو ما يدل على حدث بدأ قبل فترة من الزمن ويستمر حدوثه إلى وقت التكلم.

الاسم: اسمه في اللغة التركية (الزمن الحاضر) (Şimdiki Zaman)[7] واسمه في الإنجليزية (الزمن الحاضر المستمر) (present progressive tense)[8] وليس له اسم خاص في اللغة العربية.

الصيغة: يعبر عن هذا الزمن بصيغة (الفعل المضارع) مع تضمن الجملة لفظا أو معنى الدلالة على الحال.

من الألفاظ الدالة عليه: ( الآن – في هذا الوقت – ) فهذه التعبيرات أو ما يحمل معناها إن وجدت – لفظا أو معنى – في الجملة مع الفعل المضارع دلت على الزمن الحاضر الحقيقي.

الأمثلة:

الإيجاب: (الطالب يكتبُ الوظيفة الآن).

النفي: وأداته (لا) مثل: (الطالب لا يكتبُ وظيفته الآن).

السؤال: (الأم: ماذا تفعلُ؟ – الابن: أنا لا أفعلُ شيئا، أنا أقرأُ الجريدة).

الاسم المقترح: (الزمن الحاضر) ولا حاجة لوصفه بالمستمر أو الحقيقي، لأنه قد تم وصف سابقه (بالواسع) وهذا الاسم كاف في الدلالة على معناه.

الثالث: الزمن الماضي ،وتعريفه: هو ما يدل على حدث بدأ وانتهى قبل وقت التكلم.

الاسم: اسمه في اللغة التركية (الزمن الماضي المعلوم) أو الشهودي (Belirli Geçmiş Zaman)[9] واسمه في الإنجليزية (الزمن الماضي البسيط) (simple past tense)[10] واسمه في اللغة العربية (الفعل الماضي).

الصيغة: إن الصيغة الصرفية المخصصة لهذا الزمن في العربية هي (فَعَلَ) إلا في حالة النفي بــ ((لم)) فإنه يعبر عنه بصيغة الفعل المضارع مسبوقا بها.

من التعبيرات التي  ترافقه: (أمس – الليلة الماضية – الأسبوع الماضي – منذ سنة – طوال السنة – طوال اليوم – سابقا – قبل قليل – آنفا – أبدا: في النفي ).

الأمثلة:

الإيجاب: (وصلَ صديقي من البرازيل الليلة الماضية).

النفي: وأداته (ما) مثل: (ما رأى عمر أباه قطّ).

السؤال: مثل: (المعلم: هل فهمْتَ الدرس يا سامر؟ الطالب: نعم، فهمْتُ الدرس، أو: لا، لم أفهمْ الدرس).

الاسم المقترح: (الزمن الماضي) ولا حاجة لوصفه بالبسيط، لعدم التباسه بالزمن الماضي المركب مع غيره كما سيأتي لاحقًا.

الرابع: الزمن المستقبل ،وتعريفه: هو ما يدل على حدث سيبدأ بعد وقت التكلم في وقت ما من المستقبل، لا على جهة الطلب[11].

الاسم: اسمه في اللغة التركية (الزمن المستقبل) (Gelecek Zaman)[12] واسمه في الإنجليزية (الزمن المستقبل البسيط) (simple future tense)[13] وليس له اسم خاص في اللغة العربية.

الصيغة: يعبر عن هذا الزمن باستخدام ((الفعل المضارع)) مسبوقا بــ (( ســ )) أو (( سوف )) كتركيب أصلي خاص به، وله عدة صيغ أخرى تأتي في سياق الكلام وتفهم من القرائن، ولا يمكن تعدادها على أنها صيغ أصلية له.

من الألفاظ الدالة عليه: ( بعد قليل – لاحقا – الأسبوع القادم – بعد ساعة – على وشك أن… – غدا – قريبا – في وقت قريب – خلال دقائق – في المستقبل – القرن القادم).

الأمثلة:

الإيجاب: (سيذهبُ حسن إلى السوق بعد قليل، سوف يسافرُ عمي إلى البرازيل الشهر القادم).

النفي: وأداته ((لن)) مثل: (لن يلعبَ الطفل الكرة اليوم).

السؤال: مثل: (الأم: هل سوف تنظفُ الأطباق يا فاتح؟ لا، أنا لن أنظفَ الأطباق، أختي سوف تنظفُها).

الاسم المقترح: (الزمن المستقبل) ولا حاجة لوصفه بالبسيط لعدم التباسه بالمركب الذي سيأتي، ولعدم التباسه بالحاضر أو اسم الفاعل الذي يدل بالقرائن على المستقبل.

الأزمنة في الجملة الاسمية:

إن الجملة الاسمية هي ما ابتُدِئت باسم كما عرفها النحاة، أو ما كان المسند إليه فيها اسما، والمسند صفة أو اسماً أو أي تركيب آخر يخلو من الفعل… وبهذا الاعتبار فإن جملة (محمدٌ يقرأُ كتابًا) هي فعليَّة باعتبار المعنى الوظيفي الذي تؤديه.

إن الأزمنة البسيطة التي نستخدمها في الجملة الفعلية هي نفسها التي تمر معنا في الجملة الاسمية، ولهذا نجد الأزمنة في هذا النوع من الجمل كسابقتها وهي: الزمن الواسع والزمن الحاضر والزمن الماضي والزمن المستقبل، ولكل من هذه الأزمنة طريقة صياغته الخاصة.

الخامس: الزمن الواسع ،وتعريفه: هو ما يُخبر به عن اسم بصفة أو ظرف أو جار ومجرور أو اسم أو نحوها؛ للدلالة على صفة ثابتة في المبتدأ موجودة في الأزمنة الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل دون النص على زمان معين لها، مثل: (علي شجاع) أي إن الشجاعة ثابتة له في الماضي والحاضر والمستقبل.

الاسم: واسمه في اللغة التركية (الزمن الواسع في الجملة الاسمية) ومثاله: (Bu çocuk kibar.) بمعنى: (هذا الطفل مهذب.) ولا ينص عليه في الكتب التعليمية المبسطة عادة، وليس له اسم خاص في اللغة العربية.

الصيغة: صيغة هذا الزمن عبارة عن اسم يخبر عنه باسم أو صفة أو ما شابه ذلك، مثل: (محمد أخي) وقد يظهر الفعل (يكون) المتضمن معنىً في الجملة مثل: (محمد يكون أخي)، على أن تتضمن هذه الصيغة لفظًا أو معنىً إحدى التعابير الآتية: (دائما – غالبا – أحيانا) أو (أبدا) في حالة النفي، أو (عادة – عادة ما) للدلالة على كثرة الأمر، أو (نادرًا – نادرا ما) للدلالة على قلته، مثل: (أبي نادرًا ما يكون غاضبًا)، ومثل ذلك (كل يوم – كل أسبوع – كل عام – أيام الاثنين – يوميا – شهريا – أسبوعيا – سنويا).

الأمثلة:

الإيجاب: (أحمد مجتهدٌ، عادة ما يكون هذا المعلم غاضبًا، هذا العامل يكون متعبًا كل يوم اثنين).

النفي: (ليس أحمد مجتهدًا) ( خالد غالبًا لا يكون هادئًا) (عادة لا يكون هذا الرجل في بيته) (أنا لست معلمًا).

السؤال: (هل أبوك مهندس؟ نعم، أبي مهندس – لا، أبي ليس مهندسًا).

تعقيب:

هذه الصيغة الزمانية هي أبسط أشكال الجملة العربية وهي أول ما يعطى من الأزمنة وإن كان لا يُنص على اسمها لإدراكها بالفطرة، مثل: (هل هذا قلم؟ نعم هذا قلم – لا، هذا ليس قلما)، ويفضل تدريس هذا الزمن بصيغة الإثبات والاستفهام والنفي البسيط بــ (ليس) في بدايات تعلم اللغة.

الاسم المقترح: ((الزمن الواسع)) في الجملة الاسمية.

الزمن الحاضر: وتعريفه: هو الإخبار عن اسم بصفة أو ظرف أو جار ومجرور أو نحوها؛ للدلالة على صفة في المبتدأ موجودة في زمن التكلم، مثل: (أين أحمد؟) الجواب: (أحمد نائم في غرفته)، إذ النوم صفة مؤقتة تجري في وقت التكلم، ومثل: (أين علي؟) الجواب: (علي في الصف الآن).

الاسم: لم يمر معي اسم خاص لهذه الصيغة في اللغة التركية، ولعل مرجع الأمر في ذلك الإدراك الفطري لدلالات الجملة الاسمية البسيطة، عندما تكون واسعة أو متضمنة معنى الحالية، ومثاله: (.Ben şuan meşgulüm) بمعنى: (أنا مشغول الآن)، كما أنه ليس لهذا الزمان اسم في اللغة العربية.

الصيغة: صيغة هذا الزمن كصيغة الزمن الواسع، إضافة إلى تضمن الجملة ما يدل على الحال من القرائن أو الألفاظ، من الألفاظ الدالة عليه: (الآن – في هذا الوقت).

الأمثلة:

الإيجاب: (أنا مشغولٌ الآن).

النفي: وأداته (ليس) مثل: (أنا لست ذاهبًا إلى السوق).

السؤال: (هل أنت مشغولٌ الآن؟ – نعم، أنا مشغولٌ، – لا أنا لست مشغولًا في هذا الوقت).

تعقيب: كما في سابقه قد لا يُحتاج إلى تدريس هذا الزمن باسمه ويُكتفى بتعليم كلمة (الآن) لتخصيص الجملة الاسمية وحصرها بوقت التكلم، ولكن بعد أن يقطع الطالب شوطًا في تعلُّم تراكيب اللغة ينبغي أن يعرف مكان هذه الصيغة من الأزمنة، لأنه سيحتاج إلى تمييزها في الجمل الشرطية والمركبة.الاسم المقترح: ((الزمن الحاضر)) في الجملة الاسمية.

الزمن الماضي: وتعريفه: هو الإخبار عن اسم بصفة أو ظرف أو جار ومجرور أو نحوها؛ للدلالة على صفة كانت موجودة في المبتدأ وانتهت قبل زمن التكلم، مثل: (أين كان أحمد؟) الجواب: (كان أحمد في المدرسة.)، إذ وجوده في المدرسة صفة ماضية، وكذلك: (كنت مريضًا وأنا الآن سليم والحمد لله).

الاسم: اسمه في اللغة التركية (الزمن الماضي المعلوم في الجملة الاسمية) (İsim Cümlelerinde Belirli Geçmiş Zaman)[14] مثل: (Geçen hafta çok yorgundum.) بمعنى: (كنت متعبًا جدًّا الأسبوع الماضي.) وليس له اسم في اللغة العربية إذ إن (كان) تدرس نحويًّا في نواسخ الجملة الاسمية بغض النظر عن المعنى الوظيفيّ لها.

الصيغة: صيغة هذا الزمن في العربية ( كان + اسم + صفة) مثل (كان طارقٌ موظفًا)، ويمكن أن نستخدم عوض (كان)؛ (صار) أو (أصبح) للدلالة على ضد معناها في الماضي مثل: (كان صالح طالبًا، أصبح مدرسًا.) (كنت موظفًا وصرت متقاعدًا.)، ومن الألفاظ الدالة عليه: (أمس – الليلة الماضية – الأسبوع الماضي – السنة الماضية – منذ سنة – طوال السنة – طوال اليوم – سابقا – قبل قليل – آنفا – أبدا: في النفي ).

الأمثلة:

الإيجاب: (في السنة الماضية كان عامر موظفًا، وفي بداية السنة صار متقاعدًا) (كنت مسافرًا طوال السنة).

النفي: ونحصل عليه باستخدام (ما كان) أو (لم يكن) مثل: (ما كان أبي مريضًا) – (لم أكن مسافرًا).

السؤال: (هل كنت مشغولا؟ لا، لم أكن مشغولا، كنت منتظرًا لك.).الاسم المقترح: ((الزمن الماضي)) في الجملة الاسمية.

الزمن المستقبل:وتعريفه: هو الإخبار عن اسم بصفة أو ظرف أو جار ومجرور أو نحوها؛ للدلالة على صفة ستوجد في الاسم بعد زمن التكلم، مثل: (ماذا ستكون في المستقبل؟) الجواب: (سأكون طيّارًا مثل أبي).

الاسم: اسمه في اللغة التركية (الزمن المستقبل في الجملة الاسمية) (İsim Cümlelerinde Gelecek Zaman)[15] مثل: (2 ay sonra anne olacağım) بمعنى (سأكون أمًّا بعد شهرين.) وليس له اسم خاص في العربية.

الصيغة: صيغته في العربية (((سـ)) أو ((سوف)) + ((يكون)) أو ((يصبح)) أو ((يصير)) + اسم + صفة) مثل (سيكون طارقٌ موظفًا).

ويمكن أن نستخدم عوض (سيكون)؛ (سيصير) أو (سيصبح) للدلالة على نفس معناها في المستقبل وليس على ضد معناها كما هو الحال في الماضي، مثل (صالح طالب، وسيكون – أو سيصبح – معلما السنة القادمة)، ومن الألفاظ الدالة عليه: ( بعد قليل – لاحقا – الأسبوع القادم – بعد ساعة – على وشك أن… – غدا – قريبا – في وقت قريب – خلال دقائق – في المستقبل – القرن القادم).

الأمثلة:

الإيجاب: (سأكون معلمًا ناجحًا إن شاء الله).

النفي: وأداته ((لن)) مثل: (لن أكون جبانًا ولن أصبح فاشلًا).

السؤال: (هل ستكون مشغولًا غدًا؟ – سأكون مشغولًا من الصباح وحتى الظهر، لكن لن أكون مشغولًا في المساء).

الاسم المقترح: ((الزمن المستقبل)) في الجملة الاسمية.

الأزمنة المحكية:

تتركب صيغ الحكاية في اللغة العربية من زمنين، أحدهما المتضمن في الصيغة الأصلية للفعل المكون من حدث وزمان، والزمن الثاني المستفاد من تضمن الصيغة لفعل الكون أو ما يشبهه.

وأزمنة الحكاية هذه هي أربعة تبعًا للتّنوع الأصليِّ للأزمنة، (الزمن الواسع والزمن الحاضر والزمن الماضي والزمن المستقبل)،

ويعبر عنها في اللغة التركية باسم صيغ الحكاية فيقال: (حكاية الزمن الحاضر وحكاية المستمر وحكاية الماضي والمستقبل)، وأما في الإنجليزية فيأتي بعضها في صيغ (الزمن التام) وأحيانا في غيرها، وهي تختلف عن العربية والتركية في عد بعض الصيغ أزمنة خاصة؛ هي تراكيب متنوعة لصيغة زمانية واحدة عندنا.

الزمن الواسع المحكي وتعريفه: هو ما يحكي حدثًا كان يتكرر في الزمن الماضي، سواء بقي إلى وقت التكلم أم لا.

الاسم:

اسم هذه الصيغة في اللغة التركية (حكاية الزمن الواسع) ((Geniş Zamanın Hikâyesi مثل: (Selim gençliğinde pop müzik dinlerdi.)[16] بمعنى (سليم كان يسمع موسيقى البوب في شبابه.)، وأما في اللغة العربية فلا يوجد اسم خاص لهذه الصيغة ولا تفرد في التدريس، بل تصنف في علم النحو على أنها من باب الجملة الاسمية المنسوخة، وبنظرنا إلى جهة المعنى والوظيفة نجد أنها صيغة فعلية، إذ هي صيغة حكاية حدث وقع في الزمن الماضي على سبيل التكرار.

الصيغة:

{ كان + اسم + (فعل مضارع) + ….. } وأما الاسم أو الفاعل في هذه الجملة فيمكن أن يختلف مكانه ليكون قبل كان أو بعدها، ولا يؤثر في الصيغة، ومن التعبيرات التي ترافق هذا الزمن: (دائما – غالبا – أحيانا) أو (أبدا) في حالة النفي، أو (عادة) للدلالة على كثرة الأمر… ومثل ذلك (كل يوم – يوميا – شهريا – أسبوعيا – سنويا – سابقا – وما زلت – لكن ليس بعد).

الأمثلة:

الإيجاب: (لسنوات كان أحمد يذهب إلى عمله كل يوم في الساعة الثامنة صباحًا) ومثل: (في الماضي كان الطلاب عندما يرون المعلم يقفون احترامًا له).

السؤال والنفي: (هل كنت تدخن وأنت شاب؟ – نعم كنت أدخن. – لا، لم أكن أدخن أبدًا).

تعقيب:

ليس في هذا الزمن التنصيص على استمرار تكَرُّرِ الفعل في زمن التكلم، وإذا أريد النص على ذلك فأداته (ما زال) في الإثبات، و (ولكن لم يعد) في النفي أو ما شابههما، مثاله في الإثبات: (عندما كان علي شابًّا كان يمارس الرياضة كل يوم ثلاث ساعات، وما زال) وفي النفي: (عندما كان علي شابا كان يمارس الرياضة كل يوم ثلاث ساعات ولكنه لم يعد كذلك).

الاسم المقترح: ((الزمن الواسع المحكي)).

الزمن الحاضر المحكي، وتعريفه :هو ما يحكي استمرار حدث مدةً ما في الزمن الماضي، ثم انتهاؤه في ذلك الزمان.

الاسم:

اسم هذه الصيغة في اللغة التركية (حكاية الزمن الحاضر) (Şimdiki Zamanın Hikâyesi)[17] مثل: (Sınıfa girdim, o zaman öğretmen ders anlatıyordu.)[18] بمعنى (عندما دخلت الصف؛ كان المعلم يشرح الدرس.)، وليس لها اسم خاص في العربية.

الصيغة:

{ كان + اسم + (فعل مضارع) + ….. } ومن التعبيرات المرافقة لهذا الزمن: (أمس – البارحة – الأسبوع الماضي – قبل قليل – السنة الماضية – في يوم من الأيام)، ويتميز عن (حكاية الزمن الواسع) بأن الواسع لا يكون في زمن معين، بينما هذا يحكي عن حادثة واحدة وفي زمن معين.

الأمثلة:

الإيجاب: (كانت فاطمة تبكي قبل قليل).

النفي: (حينما كنت أدرُسُ، كان أخي لا يدرُسُ) (لم يكن الطفل يبكي، كان يضحك).

والسؤال: (هل رأيتني عندما كنت أتحدث في التلفاز؟ الجواب: نعم رأيتك عندما كنت تتحدث في التلفاز، النفي: للأسف ما رأيتك، حينما كنت تتحدث في التلفاز؛ كنت أذاكر دروسي).

ومن أشهر الصيغ التي يستخدم فيها ما يحوي (عندما – بينما – حينما)، مثل: (بينما كنت أتناول الطعام طُرق الباب)، حيث يضم هذا التركيب فعلين أو زمنين أحدهما طويل مستمر استغرق وقتًا من الماضي قطعه فعل آخر قصير.الاسم المقترح: ((الزمن الحاضر المحكي)).

الزمن الماضي المحكي وتعريفه:هو ما يدل على حكاية انتهاء فعل في الزمن الماضي.

الاسم:

اسم هذه الصيغة في اللغة التركية (حكاية الزمن الماضي) (Geçmiş Zamanın Hikâyesi)[19] مثل: (Amerika’ya gitmeden önce İngilizce öğrenmiştim.)[20] بمعنى: (كنت قد تعلمت الإنجليزية قبل أن أذهب إلى أمريكا.)، وليس لهذه الصيغة اسم خاص في العربية.

الصيغة:

{ كان + اسم + قد + صيغة الزمن الماضي + ….. } ويمكن للتعبيرات التي ترافق صيغة (حكاية الزمن الحاضر) أن ترافق هذه الصيغة أيضا، ومن أشهر الصيغ التي يستخدم فيها ما يحوي (عندما – حينما)، وغالبا ما تضم صيغة الزمن الماضي المحكي فعلين عندما بدأ الثاني منهما كان أولهما قد انتهى، مثل: (كان أحمد قد أكل الطعام، عندما دخلتُ البيت)، (عندما وصلت سيارة الإسعاف؛ كان الرجل قد مات).

الأمثلة:

الإيجاب: (كان خالد قد كتب واجبه؛ قبل أن يلعب كرة القدم).

النفي: مثل: (بالفعل لم أكن قد غادرت البيت عندما بدأت العاصفة).

الاستفهام: (هل كنت قد شاهدت هذا الفيلم من قبل؟ – نعم كنت قد شاهدته، أو: لم أكن قد شاهدته من قبل).الاسم المقترح: ((الزمن الماضي المحكي)).

الزمن المستقبل المحكي ،وتعريفه:هي الصيغة الزمانية المستخدمة لحكاية خطط مستقبلية تم اتخاذها في الماضي للقيام بفعل ما، أو لتوقع حدوثه؛ سواء وجد بعد ذلك أم لا.

الاسم:

اسم هذه الصيغة في اللغة التركية (حكاية زمن المستقبل) (Gelecek Zamanın Hikâyesi)[21] مثل: (Dün alışverişe çıkacaktım ama vakit bulup çıkamadım.)[22] بمعنى: (أمس كنت سأخرج للتسوق، لكن لم أجد وقتا ولم أخرج.)، وليس لهذه الصيغة اسم خاص في العربية

الصيغة:

{ كان + اسم + صيغة الزمن المستقبل + ….. }  ويرافقها من التعبيرات ما يرافق الحاضر والماضي المحكي.

الأمثلة:

الإيجاب: هو كان سيسافر إلى إسطنبول، لكنه غير فكرته لاحقًا.

النفي: (حقيقة ما كنت سأترك عملي، لكن المصنع أُغلق).

السؤال: (هل كنت ستدرس في كلية الاقتصاد؟ الجواب: نعم، كنت سأدرس فيها، أو: لا، ما كنت سأدرس فيها).الاسم المقترح: ((الزمن المستقبل المحكي)).

خاتمة:

إن لغتنا العربية تحتاج إلى خدمة حقيقيَّةٍ على المستويات كافّة، في مجال البحث العلميّ والتأليف والترجمة ونشر الكتب، وليس صحيحًا ما يشيعه بعضهم بأن ما وصلت إليه العلوم العربية سابقًا يمثل الكمال الذي مزيد عليه.

إنّ من يرى واقعنا اللغويّ يبصر الفجوة المخيفة بين لغتنا الفصحى ومجتمعاتنا العربية، وإن إعادة تدريس العربية كلغة تواصل للعرب قبل غيرهم؛ كفيل بإعادة الفصحى إلى الحياة بدرجة كبيرة، وسأختم كلامي عن المسألة بتلخيص لأهم النتائج والتوصيات.

أهم النتائج:

البشر متشابهون في طرائق التعبير عن احتياجاتهم، مما يعطي الدراسات اللغوية المقارنة قيمة كبيرة في مجال تطوير العربية.

حاجتنا إلى التجديد اللغوي ظاهرة في مجال تعليم اللغة للعرب والأجانب وفي واقعنا الاجتماعي والحضاري.

الشعور بالحاجة إلى التجديد والتخلص من التعقيد هو ما دفع بعض العلماء إلى مهاجمة النحو والنحاة.

كان من المفترض بدعاة التجديد أن يقوموا ببناء علم لغويٍّ جديد، بدل تحميل حاجاتنا المعاصرة لعلم النحو الذي بني على أسس خاصة في غاية من الدقة لا تحتمل التغيير بالزيادة أو الحذف.

اللغات كلها تتطور، وتطور لغتنا يكون بتجديد طرق عرضها وليس بالزيادة أو الحذف؛ إذ إن ارتباطها بعلوم الإسلام جعلها لغة ثابتة لا تتغير.

ننطلق في بناء علم اللغة التجريدي من خلال استقراء وظائف التراكيب، بعد تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء، ثم اعتماد الزمن والصيغة والوظيفة أساسًا في تصنيف التراكيب اللغوية.

العلم الجديد الذي أدعو إليه هو مقدمة للعلوم اللغويَّة الأخرى أو مساعدٌ لها؛ مهمته إكساب المتعلم اللغة الفصحى والتمهيد للعلوم الاختصاصية، ولا يمكن أن يكون بديلًا عنها.

من خلال استقراء تراكيب العربية نحصل على اثني عشر زمانًا، أربعة منها للجملة الفعلية وأربعة للاسمية وأربعة لصيغ الحكاية.

التوصيات:

العمل على إنشاء علم لغويٍّ جديد باستخدام أساليب النحاة في تتبع التراكيب اللغوية ثم تقسيمها إلى المستويات، ولتكن الأزمنة وصيغ الطلب وأدوات الربط عموده الفقري.

علينا أن نولي الدّراسات اللغوية المقارنة والدراسات اللسانية والتطبيقية الحديثة مزيدًا من الاهتمام لتساعدنا في تقديم لغتنا بشكل أيسر للمتعلم العربي والأجنبي.

ينبغي أن ندرِّب معلمي اللغة العربية على تعليم الطلاب العرب لغتهم الفصحى من خلال علم اللغة الحديث والقراءة المتدرجة والحوار حولها حتى يستقيم اللسان، وخلال سنوات سنلحظ عودة الفصحى إلى الحياة تدريجيّا.

بإمكاننا أن نطبق هذه التجربة على المدارس السوريّة في الداخل والمهجر من خلال تدريب معلمي اللغة على هذا المنهج وإلحاق مادة مخصصة للأزمنة والتراكيب والصياغات العربية بشكل متدرج لتكون رافدًا حقيقيًّا لعلم النحو.

كل محاولة علمية للتطوير أو البناء والتغيير تكون محتملةً للخطأ، ولا ينبغي للخطأ أن يدفعنا إلى التخلي عن جهودنا، بل ينبغي أن يدفعنا إلى الاستمرار في التطوير حتى نصل إلى القمة.

اللغة العربية معناها ومبناها للدكتور تمام حسان طبعة دار الثقافة عام 1994(ص 240 وما بعدها).

-محاضرة لمحمد علي النجار

 

 

قضايا أدبيّة ودراسات نقدية

النقد الأدبي والرواية العربية الحديثة (المسارات والفرص والتحديات)

ما النقد الأدبي، وما وظيفته ؟

– إن تحديدَ مفهوم النقد الأدبي أمرٌ شديدُ الصعوبة،؛لأن المعنى النقديَّ بحرُه واسع ،وشروطُه عديدة ومتنوعة ، وإتقانُه غايةٌ تتسع حدودُها في فضاء التجربة والخبرة ،والكفاء؛. إذ يرى الدكتور جبرائيل سليمان جبور، أن “النقدَ الأدبيَّ هو تطبيق علمِ الجمال على الأدب، وعنده يُعدُّ كلُّ ناقدٍ أدبيٍّ أديباً، ولكن ليس كلُّ أديبٍ ناقداً”

– لا بدَّ لدارس الأدب والنقد الأدبي، من العودة إلى نظريات الأدب ،ومذاهبِه واتجاهاتِه الفلسفيةِ القديمة، التي أثرت فيه تأثيراً مباشراً، بالإضافة إلى دراسةِ مراحِلها التاريخية وتقدُّمِها. وقد أصرّ الدكتور محمد غنيمي هلال على عدم الفصل بين النقد، بوصفه علماً من العلوم الإنسانية له نظرياتُه وأسُسُه، وبين النقد من ناحية التطبيق، فلا بدّ من الجانب الأول كي يثمر الثاني.

النقد عندما يحاسب الأدب:

– النقد لا يحاسب الأدب للانتقام منه، أو للتقليل من درجة الإبداع الأدبي فيه.

– أو حظرِ حرية الكاتب في تناول الموضوعات، التي تثير الجدل في مجتمعه.

– عملُ الناقد هو إغناء النص الأدبي ،والارتقاءُ به من خلال سدِّ الثغرات، واتخاذ المواقف المناسبة توجيهاً وتقويماً، وإدراك مناحيه الجمالية ،والإبداعية، لحث الناس على قراءته ،وتشويقهم إليه.

– النقد حين يخرج عن مسارِه يحوّل الناقد إلى مؤدٍّ ،وناقل ،أوقارئ يلخّص العمل أو مأجورٍ يؤدي خدمات معينة سلباً أو إيجاباً.

– إن العملية النقدية هي، بالدرجة الأولى، عملية تذوّق ،وقراءة معمّقة متأنية للنص الأدبي، للخروج برؤية موضوعية مجردة، بعيدة عن الميول والنزعات الخاصة.

– أشار أحمد الشايب إلى أن: “الناقد الماهر يقدِّر البراعة الفنيّة في الأداء ،ولا يراها مصادفة طارئة, بل ثمرة الطبع الموهوب والذوق المصفّى”.

– أمّا “بلنسكي” فقد أشار إلى أهمية النقد الأدبي حين قال: “والسؤال الذي يطرحُ نفسَه الآن هو “ماذا يُقال عن الأعمال الفنية العظيمة؟ لأن ما يقال عن العمل الفني العظيم، لا يقل أهمية عن العمل نفسه”

مسارات الرواية العربية

هذه النبذة العامة للنقد الأدبي مع أنها مختصرة، هي مدخل للنقد الفني الروائي  موضوعنا...

 * لدراسة الرواية العربية، يجب تتبع مسار الفن الروائي  التاريخي، والدوافع التي أدت إلى ظهوره، لذلك يجب العودة إلى نظرية الأنواع الأدبية التي تشير إلى أن:

– ظهور أو انقراض الأنواع الأدبية، مرتبط بحاجة جمالية اجتماعية، أي: إن النظام الاجتماعي هو الذي يفرض ظهورها، ولذلك، فإن التغيير التاريخي الذي حدث في أوروبا في القرنين السابع عشر ،والثامن عشر، أدّى إلى هيمنة الطبقة الوسطى على المجتمع لأول مرة في التاريخ الإنساني، فكوّن وعياً جديداً مثلته الرواية، التي وجدت شروطاً ملائمة لتطورها ،وانتشارها تجلت في:

– مجتمع متعلم  ،ونضج شعبي،  و حرية فردية بالإضافة إلى ظهور المطابع ،وقيام دور النشر التجارية ، و تزايد عدد المكتبات العام ،ما جعل الرواية سلعة رائجة يطلبها القرّاء...

والرواية عند “جورج لوكاتش” و”لوسيان غولدمان” جنسٌ أدبيٌّ نمطي للمجتمع البرجوازي، وهي وليدةُ التجربة التاريخية الغربيّة الحديثة ،والتاريخ عند لوكاتش ينتج عن التفاعل بين الذات ،والموضوع ،وعند غولدمان كل تفكير في العلوم الإنسانية إنما يكون داخل المجتمع لا خارج؛ لأنه جزء من الحياة الفكرية لهذا المجتمع، أما  التغيّر والتحول الذي يطرأ على مسيرة الرواية، فقد أشار إليه “ميخائيل باختين” في أنه “النوع الأدبي الوحيد الذي ما زال في طور التكوّن” فهو نوع يتجدد أبداً، وهذا يعني أن الرواية تكتب ما ينتجُه التاريخ، وجديدها هو جديدُه، وهي النوع الأدبي الذي يمثل التحول التاريخي.. وأطلق عليها سيرة “التحول الحياتي”...

نشأة الرواية العربية:

– لم يتفق النقاد حول نشأة الرواية العربية ،كثيرون منهم رأوا أنها لم توجد في أدبنا العربي، وأنها مستوردة من الغرب ،

و تعرّف القرّاء العرب إلى فن الرواية بعد ازدهار حركة التعريب، في سبعينات القرن التاسع عشر، حين عُرّبت الروايات الفرنسية والإنجليزية، التي لاقت شعبية كبيرة بينهم ،,أجمع النقاد على أن أول رواية حقيقية في الأدب العربي هي رواية “زينب” لمحمد حسين هيكل، التي ظهرت في عام 1913 وبعد نجاحها، تشجّع الأدباء لخوض تلك التجربة، وكانت في معظمها سِيراً ذاتية، أو تقليداً للروايات الغربية المعرّبة.

الرواية العربية الحديثة

 لا يمكن لنا الاسترسال بالكلام عن الرواية العربية الحديثة، التي انتشرت على نطاق واسع جدا، وانتشرت معها الدراساتُ التي تناولتْها بإسهابٍ وكثير من التكرار، إلا إذا تعرفنا إلى الفكر الحداث، الفكر الحداثي نشأ في أوروبا منذ القرن السادس عشر

إذ ثار على الفكر القديم والمعتقدات القديمة التي كانت تقيّدها سطوة المقدسات، والجمود الفكري.

الفكر الحداثي بمفهومه العالمي الإيجابي يعتمد على حرية التفكير والتعبير، يفكك التصوّرات الأصولية القديمة للعالم، وحلول التصوّرات العلمية والفلسفية محلَّها ،و يرتكز أساساً على فكرة التقدم في كل المجالات. وفي الأدب يبتكر أساليب جديدة ،ويكسر قوالب الرتابة...

 انحراف المسار الحداثي

– لو بقي المفهوم العالمي للحداثة كما هو، لكانت الإفادة منها كبيرة وعظيمة، ولكنها، كما كلُّ شيء جديد، خضع مفهومُها للاحتكار والاستئثار، والتحريف والتأويل، بما يتناسب مع الأهواء والمصالح.

فكر ما بعد الحداثة

– حين ثار الكثيرون على الحداثة، ظهر فكرٌ جديد وهو ما بعد الحداثة، الذي انتحى منحى الغموض والفوضى والتحرر.

– تسلل فكر ما بعد الحداثة إلى معظم مناحي الحياة، وخصوصا الفنون، التي وجدت فيها منفذا ومنبرا حرا، لكلّ من سوّلت إليه نفسُه العبورَ إليها

– أتاحت الفرص لمن لم يمتلك المقدرة ولا الموهبة، التي تؤهله للاقتراب من مجالات تلك الفنون.

فرص الرواية العربية في العصر الحاضر:

أمور كثيرة تتحكم بفرص الرواية العربية اليوم، وتجعل مستقبلها ضبابياً منها:

أ-تحول النقد الأدبي إلى أداة تتحكم بها منظومة تحتكر الساحة الثقافية ،والفنية والفكرية والصحفية في الوطن العربي التي قد تسوّق عملا فاشلا ،وتجعله في القمة، وتسقط عملاً مبدعا يستحق الظهور ،والصعود.

ب- الإعلامُ التجاري، الذي يتحكم بالذوق العام

 ج- جمهورٌ يتقبل ما يُقدم إليه ويتعوّدُه، بحكم أن هذا هو المتوفر

 د- دور بعض دور النشر التي تهتم بالكم لا بالنوع

 ه- الاسم المعروف

 و- مواهب عظيمة قد تمَّ اغتيالُها، وأعمالاً أعظم قد شُيّعت إلى مثواها الأخير في الأدراج.

الرواية العربية الحديثة من منظور النقد الأدبي

 إن كلَّ الكلام الذي سبق وأشرت إليه، هو كلام نظريّ، مهدتُ به للدخول إلى طور التطبيق على الرواية العربية الحديثة…

لقد قمت بقراءة عدد لا بأس به من الروايات العربية الحديثة، لروائيين من مختلف أنحاء الوطن العربي، منها:

أ- الروايات التي حصلت على جوائز كبيرة

 ب- الروايات التي لاقت رواجا وانتشارا

 ج- الروايات التي تستحقُّ الانتشار ولم تَنَل حقها ولم يتعدَّ انتشارها الأسرة والأصدقاء

 ه- الروايات التي لا تستحقُّ عناء القراءة

 سأبدأ النقاش بالرواية الواقعية، التي حمل فيها الروائي همّ مجتمعه ووطنه، فكانت روايته انعكاسا لقضية يعاني منها مجتمعُه، أو قضية وطنية، وخصوصا تلك التي عالجت الواقع الاستعماري، الذي بقيت آثارُه وتبعاته إلى ما بعد الاستقلال. وسأختار من بين رواد هذا التوجه: الكاتب الفلسطيني إبراهيم نصرالله في روايته “شرفة العار"

 

 رواية (شرفة العار)

 روايةٌ تعكسُ قضيةً اجتماعية خطيرة، تشير إلى الإرث الجاهلي القديم وهو الجرائم, التي تُرتكب تحت شعارِ الدفاع عن الشرف, والتي يُحجم عن معالجتِها الكتّابُ والصحافيون, وذلك لرهبتهم وتخوفهم من تبعات ردات الفعل عليهم, فهي واحدة من القضايا الاجتماعية العربية التي ما زالت قائمة, وهي قضية خطيرة, لها جذور عميقة تنافي مبادئ العدالة الإنسانية, وتعتبر من أكثر القضايا المثيرة للجدل في مجتمعاتنا العربية.

ويؤكد إبراهيم نصرالله تفشي ظاهرة العنف ضد المرأة وانتهاك حقوقها، حين يلعب الرجل دور الحاكم والجلاد، وينفذ بيديه الحكم, فهو المسؤول عن سلوك الفتاة أو المرأة الأخلاقي, ومن حقه قتلها حفظاً لشرفه.

وقد ظهرت مقدرة إبراهيم نصرالله الأدبية، حين تمكّن من إيصال تجربة الفتاة منار المريرة إلى أعماق القارئ، وتحريك أحاسيسه ومشاعره، وإشعال ثورته وغضبه وحنقه, بسبب الظلم الاجتماعي, الذي يصفق للقاتل ويسيء إلى الضحية, مؤكداً الجو المرعب الذي أثاره ما حصل لمنار, بين أفراد المجتمع, وآثارَه النفسيّة التي تبقى تطاردُ بناتِ جنسِها, حين تصبح كل فتاة مشروع عار, وقتل شرف.

أسلوب الكاتب

– نهج في التقديم لأقسام روايته, منهج استباق الأحداث, ربما كان يهدف من خلاله إلى رفع مستوى عنصر التشويق

– تسلسل أحداث الرواية, واختيار الألفاظ الصائبة، والجمل الملائمة, أعانه على إبراز الحركة والصوت والإثارة والانفعال:

“التفتُّ لوجه نبيلة, كان شاحباً كالموت, جسدها في مكان وروحها في مكان آخر, جافّةٌ كحطبة، وساهمةٌ كضياع”.

– امتازت تشبيهاته بقدرتها على التقاط الصور وتقريب المتباعد, فيتداخل المشبه بالمشبه به كأنه وحدة واحدة:

“عيناه جامدتان كحجرين بركانيين أسودين, أصابعه متصلّبة حول يدي كرسيه كما لو أنه ميت”

 – أجاد في تصوير قسوةَ لحظاتِ اغتيالِ منار، إلى درجةٍ أشعرت القارئ بثقل ظلال الحدث، وكأنه كان على مرأى منه.

الرواية التي عالجتِ الصراعَ المحتدمَ والأزلي بين الشرق وبين الغرب، والتي سأتبيّن ما جاء فيهما من خلال روايتين هما: “أقاليم الخوف” للكاتبة الجزائرية فضيلة الفاروق، و “القاهرة الصغيرة” للكاتب الجزائري عمارة لخوص.

أقاليم الخوف

– هي رحلة بين عالمين, عالم الشرق الذي يشهد الويلات والحروبَ، وعالم الغرب المتمثل بأمريكا. ذلك العالم الذي تملّكه الطمعُ في خيرات الشرق.

– يظهر الغرب ممثلا بمارغريت, شخصية الرواية الرئيسية، التي بَنت عليها الكاتبةُ صراع الأديان والحضارات, وصراع المطامعِ والمصالح…

 – حربٌ خفيّة على الشرق, خاضتها بطلة الرواية الأمريكية من أصلٍ لبناني، التي تعودت أن ترى المجتمع الشرقي متخلفاً ومتأخراً. نراها مشحونة بالعداءِ وهي الصحافية المثقفة، التي ترصد القضايا القومية, فعملت على تعرية الواقع الاجتماعي ونزوعه المادي والديني.

– لم يكن الولوجُ في أعماق مارغريت وتحليلُها بالعمل الهين، نظرا إلى اضطراباتها النفسيّة، التي يمكن وضعُها في الإطار النفسي، الذي أحاط بظروف نشأتها الأولى. ولكن نجحت فضيلة الفاروق في الإمساك بزمام تلك الشخصيةِ الجدليةِ المضطربة والمتناقضة, التي بقيت غامضةً للقارئ, فكل ما فعلته هو انتقادُ الشرقِ وأهله، فهي تحمل الفكرَ الغربي، ودمُها يلفظُ شرقيتها.

دخلت مارغريت في صراعها مع الشرق مدخلاً حساسا حين قالت إن:

“إسرائيل هي “البعبع” الذي يخيف العرب جميعهم من الخليج إلى المحيط, لكنها في الحقيقة لم تكن أكثر من الإبرة التي يخاف منها الأطفال”. وهنا نجد أن مارغريت قد اختزلتِ العدوَّ الصهيونيَّ الذي يهدد، ويتوعد, ويجتاح الأراضي, ويدنس المقدسات, ويسفك الدماء في كونه “إبرة”وما إن تنتهي مارغريت من قضية خطيرة, حتى تلج في قضيّة أشدَّ خطورةً وعمقا, فتنتقد الدين الإسلاميَّ وخوف المسلمين من الله.

 رواية القاهرة الصغيرة

– أثارتِ العديدَ من القضايا الفكريّة والاجتماعية المعقدة, التي يتشابك فيها الدين مع السياسة, تمثلت في الصراع بين الغرب وبين الإسلام. واللغة التي سادت بينهما, هي لغة التصارع والتضاد. واتسمت عند الغرب في كون المسلمين إرهابيين ودعاة عنف. وتجسّدت نظرتُهم العدائية, بتكريس شتى الوسائل لتلبية رغباتهم ومطامعهم في تطبيق سياساتهم, من غير أن يحترموا أبسط القواعد الإنسانية. وقد مثّل هذا الدور في الرواية, “كريستيان” الإيطاليُّ المسيحي، الذي اندسّ بين المهاجرين العرب والمسلمين في حيّ “ماركوني” في روما, لكشف عمليةٍ إرهابية مرتقبة, وصلت أخبارُها إلى الاستخبارات الإيطالية. ووقع عليه الاختيار لكفاءته اللغويّة، وتمكّنه من اللهجة التونسية. فيتقمصُ شخصيةَ عيسى التونسي.

– تتقاطع أحداث الرواية بين صوفيا وبين عيسى, فكل منهما يعرض تجربته من خلال مخاضٍ يُلقي الضوء على عالمين تنوعت سُبُلهما، وتشعبت ظلالُهما, بغية استيعاب الدور الذي أوكل إلى كلٍ منهما، بمنحنياته وانزلاقاته ومفاجآته.

– ومن الناحية الاجتماعية، تمكّن الكاتب من خلال صوفيا من إماطة اللثام عن الآفات الاجتماعية, التي تحياها المرأة العربية, حين جعلها تخوض موضوعَ تعدد الزوجات، وأثره السلبي, وهاجس الطلاق الذي يشكل أكبر مصدر خوف لدى المرأة…لما تتعرض له من مضايقات اجتماعية ونفسية، وما يكتنف مصيرَها من قسوة وغموض. فتؤثر الرضوخ. ثم تنتقل إلى موضوع اًكثر مأساويّة، حين تشير إلى عمليات ختان الإناث في مصر, والتي تحرم المرأة من حقها الطبيعي في نيل اللذة، فتكون آلةٍ لإرضاء الزوج والإنجاب فقط...

أسلوب الكاتب

– تميزت لغة الرواية بالبساطة في التعبير، من خلال الألفاظ المنتقاة ،والمعاني الواضحة ، فجملها قصيرةُ ومألوفة

– ابتعدت عن الرمزية والشاعرية, واستطاعت أن تخدم أفكارها وتوظفها بشكل يتلاءم مع طبيعة المواقف ومنطق الشخصيات.

– طغى عليها الأسلوبُ السرديِّ المباشر, وقلّ فيها الحوارُ الذي غلبت عليه اللهجاتُ العربية وفق جنسياتِ المتحاورين المهاجرين, ولذلك كثرت الألفاظ السوقية.

والآن، أودُّ إلقاءَ الضوء على روايتين حازتا  جائزة البوكر العربية، وهما “طوق الحمام” للكاتبة السعودية رجاء عالم، الحائزة جائزة البوكر العربية مناصفةً مع رواية “القوس والفراشة” للكاتب المغربي محمد الأشعري عام 2011، ورواية “وترمي بشرر” للكاتب السعودي عبده خال الحائز جائزة البوكر عام 2010.

 رواية طوق الحمام

– طوقٌ من الغموض يُلقي بظلاله على الرواية، فقد حفلت بفضاءات فلسفية حداثية, متحررةٍ من قيود العمل الروائي والحبكة التقليدية, بل تخطت المناحي التجديدية.

– حرصت كاتبتها على رسم ممارستها الفنية، من خلال التركيز على مفارقات مثيرة لعبثية الحياة من جوانبها المتعددة؛ ثقافتِها وتاريخها وهمومِها وأحلامِها وإحباطاتِها، بلغة من الإيهام التنظيري التجديدي, وكلُّ هذا ضمن إطار من الرموز والطلاسم والألغاز,التي تُغرق القارئ في متاهات أمكنتها, والتباس أزمنتها, وتعقيدات شخوصها, وارتباطهم بالحياة والموت, والذاكرة والنسيان, والغياب والغيب, بالإضافة إلى صراعاتهم الدينية والعقائدية والاجتماعية والوطنية, في قالب من التعتيم والضبابية, التي تُفقد القارئ مقدرتَه على التوغل في عمق النص، والتقاط طرف الخيط أو الخيوط, التي من شأنها أن تؤدّي إلى عنصر التشويق في الحبكة، وصولاً إلى اللهفة في النهاية.

– تتطلب قراءة الرواية التي يبلغ عدد صفحاتها 566, مجهوداً مضنياً، وصبراً بلا حدود. ويمكن أن تنطبق على مضمونها مقولةُ: “المعنى في بطن الشاعر” ,وتبقى طلاسمها إلى ما بعد الانتهاء من قراءتها, بانتظار من يفكُّ رموزها…!

– تمردت رجاء عالِم على الموروثات والمعتقدات القديمة، التي تتراوح بين حالة الجمود الفكري المتأصلة في النفوس, وبين سطوة المقدسات التي تُحاك باسمها أكبر المؤامرات.

– وسرُّ الرواية الأكبر يكمن في بطن يوسف، الذي حثّ خطاه في تاريخ مكة, ضائعاً وباحثاً عن مفتاح الكعبة، فنفض الغبارَ عن الصنم الجاهلي هُبل, كما واجه أساف ونائلة.

– حرص الكاتبة على كشف ثراء ثقافتها:

أ- في مجال الفن، تكلمت عن “باخ” ومقطوعاته الموسيقية، بالإضافة إلى “جولدبيرج” و “بتهوفن”.

ب- في مجال الفلسفة، جالت في آفاق “تهافت التهافت” و “تفسير ما بعد الطبيعة لأرسطو” للفيلسوف ابن رشد.

ج- لم تغفل رجاء عالِم عن سرد بعض القصص التاريخية ذات المغزى.

– وكلما قاربت الرواية على نهايتها, نتبين أن رواية “طوق الحمام” تخرج من غموض لتدخل في عتمة, وكل ذلك حين يتبادر إلى ذهن القارئ، أن عائشة وعزة ونورة – ربما كنّ شخصاً واحداً- نسجه خيال عائشة أو ربما حلمها:

“أحياناً تفيق على صباح يقول لك إنه غير الصباحات, وإنك على قمة العالم, وإن كل ما مرّ في حلم البارحة ينتظر وراء الباب، وإن بوسعك، بأطراف أصابع قدميك، أن توارب له الباب ليدخل”.

 رواية ترمي بشرر

– نجد أن الكاتب، قد بدأ روايته من نهايتها! فيشعر القارئ أنه يواجه بطل الرواية, وهو ينفذ العقاب في حق المذنبين..وفي لحظة واحدة سريعة, تشعر بالتعاطف معه, وهو يصف قسوة عمله.. ولكن بطل روايتنا جلاّدٌ من نوع آخر..إنه ينفّذ ما يأمره به صاحب القصر؟!

– إنّ الجلاّد البطل موكّل من صاحب القصر, بمَهَمَةٍ تجرّد الإنسان من آدميّته, بعمل تنفر منه الفطرة الإنسانية, وتُخرجُه من دائرة الأعمال البشريّة

– يعجز القارئ عن إيجاد تفسير لمدى البشاعة، التي صاحبت الانتهاكات الوحشية في الرواية،  فقد عصفت بكلِّ القيم والمبادئ، والأعراف الدينية والأخلاقية, وحوّلت الجاني والمجني عليه، إلى منزلة سفلية حقيرة, وهذا الأمر يظهر في قول الكاتب:

“في كلّ العمليات التي خضتُها, كان الجلادُ والمجلودُ مجذوبين لهاوية سحيقة, والروح تُسحق وتذوب فيما بينهما”

 إنّ الصور التي تبيّنتُها من خلال قراءة رواية “ترمي بشرر”، استحضرت في ذهني ما حصل في سجنيّ “أبو غريب وجوانتانامو”, وفضائحَ الجنود الأمريكيين والبريطانيين في استباحة حقوق المساجين الإنسانية… من خلال عمليات التعذيب الوحشية, وقد تمّ تصوير عمليات انتهاك أعراضهم، بأفظع صور الانتهاك الجنسيِّ وأبشعها, مستخدمين تسجيلات الفيديو, وملتقطين الصورَ التذكاريةَ إلى جوار جثثِ ضحاياهم، الذين ماتوا تحت التعذيب… (وهذا ما جاء في الرواية تماماً).

– الجلادُ الجاني, كان يتوقع من القارئ تعاطفا معه, حين عبّر مرارا وتكرارا عن مدى سخطه واشمئزازه من أفعاله. وأكثر ما يثير الاشمئزاز في الرواية, هو استحضار الكاتب الآذان وإقامة الصلوات, في اللحظات التي ينجز فيها بطل الرواية قذارته الجنسية مع ضحاياه:

“فما أن شرعت بالتعذيب, حتى ارتفع ندي مؤذّناً بدخول صلاة العشاء…”

 – إصرار الكاتب على الربط بين لحظات الرذيلة ،ونهاية ليلة صاخبة بكل أشكال المجون وفنونه، وبين الاستعداد للصلاة, وترنح الإمام أثناء إقامتها, والتلعثم في قراءة القرآن، بسبب حالة السُّكر والضَّياع التي كان عليها الساهرون.

وهنا لا بد من أن يتبادر إلى ذهني كناقدة، وإلى ذهن القارئ، سؤالٌ واحد وهو: أين الإبداعُ في مثل هذه الرواية، الذي أهّلها وفتح لها الباب على مصراعيه للحصول على جائزة البوكر؟

وأخيرا، فإن التحدي الحقيقي الذي يواجه الرواية العربية الحديثة، يتمثلُ في الإجابة عن هذا التساؤل: ما هي مقومات نجاح العمل الروائي في عصرنا الحاضر، وعلى ماذا تعتمد؟ هل هو:

الثالوث المحرّم المتمثل في الدين، والجنس، والسياسة؟ والذي بدأ يرسم نهجاً جديداً لمسار الرواية, ويُعدُّ ركيزةً أساسية في بنائِها وتكوينها:

أ- عصبياتٌ طائفية ونزاعات، وخلافات واضطرابات.. تعمل على تأجيج الحروب؟

 ب- الصبغةُ الجنسية المبتذلة، وتجاوزها إلى الشذوذ غير الإنساني؟

 ج- التطرفُ الدينيّ والتشدد والدعوة إلى الإرهاب، والتطاول على الأديان والعقائد والموروثات وتجاوز حدود المحرّمات؟

وإن لم يكن كلُّ ما سبق… أهي فلسفةُ الغموض والضبابية التي تحمل شعارَ : “إذا لم يفهمِ القارئ … إذاً أنا مبدع”؟؟؟

وأخيرا نودّ الإشارة إلى ثلاثة أمور:

الأول: التحذيرِ من أمر خطر يعتمدُهُ عدد ٌكبير من الروائيين الشباب، وهو تقليدُ كتابات الروائيين المشاهير في الوطن العربي ولغاتهم وأساليبِهم، ظناً منهم أنهم سيصلون إلى عالم الشهرة بسرعة، ولكنهم لا يعلمون أنهم يمسخون كتاباتهم، ويحدون من إبداعهم، ويتسببون في ضياع هُوُّيَّتِهم الأدبيّة.

الثاني: هو أمر شائع جدا وهو تقليد الروايات الغربية وتقريبا نسخُها؟!

الثالث: تنازل القارئ عن حقِّه في الحكم على نجاح رواية أو فشلها، ومحاسبتُه للكاتب والناقد معاً.

ما أحوجنا إلى كل ما ينهضُ بنا وبمجتمعاتنا، فكراً وسلوكاً وثقافة

 إن الكلمة الحرّة مسؤولية وجهاد، والفن إبداع، وخلق، ورسالة، وإعادة تكوين.

 

(مستشارك اللغوي(أخطاءوتصويبات

...فروق لغويّة ،وتصويبات

-الفرق بين البيان والبرهان والسلطان:  هي نظائر، وتختلف حدودها. فالبيان هو إظهار المعنى للنفس كإظهار نقيضه. والبرهان هو إظهار صحة المعنى وإفساد نقيضه. والسلطان هو إظهار ما يتسلط به على نقيض المعنى بالإبطال.

-الفرق بين الكذب والإفك:

الكذب منه الفاحش القبيح وغير الفاحش القبيح. أمّا الإفك فهو الكذب الفاحش القبيح، مثل: الكذب على الله ورسوله.

الفرق بين الغفلة والنسيان: الغفلة ترك باختيار، أما النسيان فهو الترك بغير اختيار، فلا ذنب على من نسيَ، لذلك قال تعالى: " ولاتكن من الغافلين"

-الفرق بين المدح، والتقريظ والثناء: المدح يكون للحي والميت. التقريظ لا يكون إلاّ للحي وعكسه التأبين الذي لا يكون إلاّ للميت. وأمّا الثناء فهو تكرار المدح.

-الفرق بين الاختصار، والإيجاز: الاختصار هو إلقاؤك فضول الألفاظ من الكلام المؤلف من غير إخلال بمعانيه. ولهذا يقولون: قد اختصر فلان كتاب فلان أي أنه أدّى معانيه في أقل مما أدّاه المؤلف. فالاختصار إذن يكون في كلام قد سبق حدوثه وتأليفه. الإيجاز هو أن يبنى الكلام على قلة اللفظ وكثرة المعاني، فيقال مثلا: أوجز الرجل في كلامه أي إذا جعله على هذا السبيل. أمّا إذا اختصر كلامه أو كلام غيره فيعني إذا قصّره بعد إطالة.

-الفرق بين الاختيار، والاصطفاء: إنّ اختيارك الشيء أخذك خير ما فيه في الحقيقة، أو خيره عندك، والاصطفاء أخذ ما يصفو منه ثم كثر حتى استعمل أحدهما موضع الآخر، واستعمل الاصطفاء فيما لا صفو له على الحقيقة.

 الشباب المسلمون، أم الشبابُ المسلم: للفظة الشباب معنيان :الشباب بمعنى مرحلة من العمر . كقول أبي العتاهية  :كأنّـك قد هجمـتَ على مشيبـي   كما هجـم المشيب على شبابـي

أو قوله: لـهفـي علـى ورق الشـبـابِ    وغصـونـه الخضـر الرطـابِ

أو قول أبي فراس:   زَيْـنُ الشـبـاب أبـو فـراسٍ     لـم يُـمـتَّــع بـالـشـبـابِ

أو قول أبي العتاهية أيضا:ً يـا للشبـاب المـرح التصَـابي    رَوائـحُ الجنَّـة في الشَّـبـابِ

أمّا عند قولنا الشباب المسلمون ، فإن كلمة الشباب هنا جمع لكلمة الشاب فنقول: شاب مسلم ،وشباب مسلمون . ولا نقول شباب مسلم ،فإنه خطأ كما رأيت .

ألماس أم ماس: يقول بعضهم : هذه قطعة من الماس . وهذا خطأ . والصواب : هذه قطعة من الألماس .فهذا الجوهر هو " ألماس " ! وبالتعريف يكون : الألماس .ويقول الشاعر :

صُوغي من الألماس والدرّ الحِلى     صوغِي كما شئت الجواهر وانشُدِ))

-حماسة ، أم حماس؟ أصل الكلمة : حَمِسَ حَمَساً ، حَمِسَ الشرُّ أو الأمر اشتدَّ ، وحَمِسَ الوغى واحتمس القِرْنان : تقاتلا ، وحَمِسَ بالشيء : عَلِق به . واحْتَمس الديكان : هاجا .والحماسَة : المنع والمحاربة والشجاعة .وتحمَّس الرجل : إذا تعاصى . ويقال : نجْدَةٌ حَمْساء ، أي شديدة وشجاعة .ورجُل حَمِسٌ وحميس وأحمس : شجاع .وتحامس القوم تحامساً وحِماساً : تشادُّوا واقتتلوا .والأحمس : المتشدد على نفسه في الدين .والأحمسُ والحَمِسُ والمتَحمِّس : الشديد .وعام أحمس ، وسنة حَمْساء ، وسنون أحامس : شديدة ، ويمكن أن يُقال : سِنون حُمْسٌ إذا أريد محض النعت ، أما سنون أحامس فقد ذكروا الصفة على إدارة الأعوام .والحُمسُ : قريش ومن ولدت قريش وكنانة وجَديلة قَيْسٍ . وسُمّوا حُمْساً لأنهم تحمسوا في دينهم أي تشدَّدوا . وكانت الحُمْس سكان الحرم ، وكانوا لا يخرجون أيام الموسم إلى عرفات ، إنما يقفون بالمزدلفة ويقولون : نحن أهل الله ولا نخرج من الحرم .ولذلك لا نقول حَماس ، فهذا خطأ ونقول حَماسةٌ . وديوان الحماسة لأبي تمام . وقد شاعت كلمة حماس بمعنى حماسة ،وهذا خطأ لا أصل له .

-تَسَلَّم ،أم استلم: كلاهما صحيح ،ولكنْ لكل منهما معنى خاص، واستعمال خاص مغاير للآخر . فعندما تريد أن تقول تلقَّيت رسالةً وأخذتها تقول :تَسلَّمْتُ الرسالة، ولا يجوز أن تقول استلمت الرسالة فهذا خطأ . فاستلم تستعمل لاستلام الحجر الأسود في الكعبة . فنقول :استلمتُ الحجر الأسود في الكعبة : أي قبّلتُه واعتنقته أو لمسته ، ويقال تَسلَّم منه أي تبرّأَ منه .وتَسلَّم الشيء منه : أي قبضه..

تميّز منه،أم تميَّز عنه: وأصل الكلمة : المَيْز وهو التمييز بين الأشياء . فنقول مِزْتُ بعضه من بعض ، فأنا أميزُه مَيْزاً ، وكذلك ميَّزْته تمييزاً .وفي كتاب الله : ( لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ... )

[ الأنفال :37] والفعل : ماز يميزُ ، وميَّزَ يُمَيِّزُ . وتميّزَ القوم : صاروا في ناحية وانعزلوا عن غيرهم وفي كتاب الله :  ( وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) [ يس :59] أي تميّزوا ،

عن المؤمنين،  نقول: تميّزَ منه وليس عَنه وانفردوا

جاء وحده، أم جاء لوحده؟ خطأ يقع فيه الكثيرون حين يقولون جاء لوحده . فحرف الجر اللام لا يدخل على كلمة " وحده " . فالصواب أن تقول :جاء وَحْدَه

*قابلته مصادفة، أم قابلته صدفة؟  الأصل : صَدَف عنه يصدفُ صَدْفاً وصدوفاً ، أي عدل ومال . وأصدفه عنه : مال به ، وصدفَ عنّي: أعرض عني .وفي كتاب الله : ( ... سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ) [الأنعام :157) فمعنى يصدفون في الآية : يَعْرِضون

والصَّدوف من النساء التي تعرض عن زوجها . والصَّدَفُ: كلُّ شيء مرتفع كالهدف والحائط والجبل . والصَّدَفُ والصَّدَفة : الجانب والناحية .والصُدْفان : ناحيتا الشعب أو الوادي . ويقال لجانبي الجبل إذا تجاذبا صُدُفان أو صَدَفان لتصادفهما أي لتلاقيهما وفي كتاب الله :

( .... حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ ) [ الكهف :96]

ومن هذا يُقال : صَادفْت فلاناً إذا لاقيته ووجدته . ولا نقول صَدَفتُ فلاناً . إذن نقول : صادفته مُصَادَفَةً ، ومصادفة مصدر ميمي من صادف .

ولا نقول : صادفته صُدْفة ، ولا نقول : صَدَفْتُه .

* كلمة المنون (مفرد) تعني: حادث الدهر من موت ،أو هلاك ، وغيره، وسميت المنون منوناً لأنها تذهب بمُنّة الإنسان (قوته) ،وتضعفه ،أمّا منيّة فجمعها منايا،ومنيّات...

- تقويم،أم تقييم: الفعل : قوّم . ولها معنيان : قوّم السلعة : قدّر قيمتها .وقوّمته : أي عدلته فهو قويم ومستقيم . والقيّوم : الذي لا نِدَّ له . ومصدر قوّم في جميع الحالات : تقويم ، فلا يوجد تقييم . فنقول :قوّم السلعة تقويماً ،وقوّم الأمر أي عدله تقويماً، فكلمة تقييم خطأ لا يجوز استعماله .

*استبدل :يخطئ كثير من الناس في استعمال " استبدل " ، فيقولون : " استبدل الشرَّ بالخير " وهذا يعني أنه ترك الخير وأخذ الشرّ . فالباء تأتي مع المتروك .وفي كتاب الله : ( ... أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ...) [ البقرة :61]ولذلك نقول :استبدل الخيرَ بالشرّ ..أي ترك الشرّ وأخذ الخير .وهذا الخطأ شائع جداً...  وكذلك : اشترى ، أما شرَى بمعنى باع ، كما في قوله

 سبحانه وتعالى :( فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ).. النساء :74 أي: الذين يبيعون الحياة الدنيا ، ويأخذون عوضاً عنها الآخرة .فالأمر مختلف بين استعمال استبدل ، وشرى... .

شاطىء الإبداع

    من شعر المعارضات قصيدة للشاعر حذيفة العرجي :

المعارضات الشعرية هي أحد الفنون الأدبية في الأدب العربي، وهي نوع من المباريات الشعرية التي تجري بين الشعراء،وهي تختلف عن التقليد فهي نوع من إثبات الذات والقدرة على الإبداع في  ظل

 قيود معينة، وتبدأ بأن ينظم شاعر ما قصيدة، فيأتي شاعر آخر، إمّا للإبداع داخل هذا القالب لأنه أعجبه وإما لنقض معاني هذه القصيدة ،وأفكارها لأنه يتبنى وجهة نظر أخرى مضادة،

المعارضة لغة:

تُفهم المعارضة في اللغة على أوجة عدّة، ولها الكثير من المعاني، ومنها ما جاء في لسان العرب في مادة عرض: عارض الشيء بالشيء مُعارضة: قابله، وفلان يعارضني أي يباريني. وعارض الشخص في المسير، أي سار، ومشى حياله، وعارض الكتاب بالكتاب؛ أي قابله، وعارض الشّخص بمثل ما صنع ؛ أي أتى بمثل ما فعل.

المعارضة اصطلاحًا:

عُرِّف شعرُ المعارضات اصطلاحًا على أنّه شعر موافق لشعر آخر في موضوع معيّن، ويلتزم فيه الشّاعر النظم على الوزن، والقافية، والبحر، والموضوع نفسه، وذلك التزامًا تامًّا، ويحرص فيه على مضاهاة الشّاعر المعَارَض في شعره إن لم يتفوق عليه، وقد يلجأ الشّاعر إلى هذا النوع من الشّعر عندما يرى في شعر غيره من الشعراء ما يمتاز به من فصاحة، وروعة صياغة، أو صور معّبرة، وغيرها من أمور تثير في نفسه العجب

لم يبقَ شَطٌّ إليهِ ترجعُ السُفُنُ

ولا مطارٌ.. عليهِ يهبطُ الشَجِنُ

لا شيءَ إلا أمانينا تُصبّرُنا

الحمد لله.. لا أهـلٌ ولا وطـنُ!

خُذلتِ يا شامُ، يا أُمّي ومُرضعتي

ومسقِطَ الحُبِّ.. ماذا يا تُرى الثمنُ؟!

إني لأخجلُ من أنّي بقيتُ على

قيد الحياةِ.. وأمّي لفّها الكفنُ!

بمَ التعللُ؟ قلبي صارَ يُنكرُني

سلّم على الموتِ فيهِ العَيشُ والسَكنُ

فكيفَ أحيا وتحتَ الأرضِ أوردتي

وفي الترابِ مِنَ الأحبابِ لي مُدنُ

وأينَ أذهبُ.. كل الأرضِ تُرفُضنا

وتزدرينا، وكلُّ الأرضِ تمتَهنُ

ونحنُ من نحنُ؟ نحنُ الشمسُ فوقهمُ

ونحنُ ما نحنُ؟ نحنُ العينُ والأذُنُ

كلُّ الخرائطِ جزءٌ من خريطتنا

فكيفَ تعلو على أسيادها الجُبُنُ؟!

يا أيُّها الموتُ ما أحلاكَ من وطنٍ

لمن أتاكَ شهيداً جرحهُ الوطنُ!

ودعتُ حِمص وقلبي في أزقتها

وذكرياتي وروحاً عافها البدنُ

وسرتُ أشكو لربي ضيقَ دامعتي

عمّا بنفسي.. ومالا يُنصِفُ الحَزَنُ

كلُّ الذينَ تأملنَا بنُصرتهم

لنا، تخلّوا.. فسجّل أيُّها الزمنُ

أهلُ الفنادقِ لا عزّت كروشهُمُ

يزدادُ فيهم غباهُم كلّما سَمِنوا

ويقلقونَ صباحاً بعدما رقدوا

ويقلقونَ مساءً إن هُمُ سكنوا

يستنكرونَ على الشاشاتِ مجزرةً

وكلُّهم بدماها كفّهُ دَرِنُ

يا تاركَ الفرضِ مُستغنٍ بنافلةٍ

واللهِ يومَ اللقا لا تشفعُ السُننُ

يا شامُ لو كانتِ الأحلامُ تُنقذُنا

كُنّـا حَلِمنا ولكن كلُّها دَخنُ

فكانَ لا بُدَّ من حربٍ نُعيدُ بها

عصرَ النبيِّ.. وفيها تُدرأُ الفتنُ

نريدُ أن ترجعَ الدنيا لقبضتنا

أن يُعبدَ اللهُ لا أن يُعبدَ الوثَنُ

نُريدُ أن نُرجِعَ الأمجادَ دولتها

أيامَ كنّا يداً تنأى بها المِحنُ

أيامَ إن عارضت صنعاء عارضةٌ

صاحت دمشقُ وبغدادٌ هنا اليمنُ!

الفرحُ ما كانَ لولا قبلَهُ حَزَنُ

والسرُّ ما طالَ إلا بعدهُ علنُ

والطفلُ مهما لهُ قدّمتَ من اُكُلٍ

يظلُّ أطيبُ شيءٍ عندهُ اللبنُُ

لذا أحنُّ ومثليّ كلُّ مُمتَهَنٍ

إلى الزمانِ الذي مافيهِ مُمتَهنُ

فكيفَ أسكنُ بيتاً أطمئنُّ بهِ

وطفلةٌ في بلادي ما لها سكنُ

وكيفَ ألتذُّ أو أهنا بمائدةٍ

ويُشتهى في بلادي الخبزُ والجُبُنُ

يا طائراتُ اقصفي، يا أُمّةُ امتعضي

يا ساسةُ استنكروا، يا قومُ لا تَهِنوا

تكفَّلَ اللهُ فيكم للنبيِّ فلا

خوفٌ عليكم منَ الدنيا ولا حَزَنُ

الأرضُ مهما لنا في الغربةِ اتسعت

يظلُّ أرحبَ من أرجائها الوطنُ

قل للطبيبِ وشمسُ العمرِ غاربةٌ

إذا انقضى أجلي، ما تنفعُ الحُقنُ؟

باللهِ ربّ السما والأرضِ مُعتصمي

وفيهِ صبري، إليهِ السرُّ والعلنُ

ولستُ أقطعُ آمالي بثورتنا

لكلِّ وجهٍ قبيحٍ آخرٌ حسنُ.

أبواب المجلة

Scroll to Top