العدد السابع

العدد السابع

أبواب المجلة

افتتاحيّة

يستهل هذا العدد موضوعاته، بموضوع  مهم للغاية، وهو الحجاج في القرآن الكريم، وحجاج القرآن

مميز ؛ّ فالرسالات اختتمت بالقرآن الكريم، فقد حوى أسمى أساليب البلاغة الحجاجية، إذ ضمت في أسلوبها الحجاجي مع المخالفين الحجج الجدلية، والبراهين العقلية، والأقيسة المنطقية بأساليب خطابية تناسب المستويات المختلفة، والطبقات المتفاوتة بحيث يحس كلّ طبقة أنها هي المعنية من الخطاب. فقد حاجج الشعراء وأهل اللغة بما يتقنونه من الفنون اللغوية، وحاجج أهل الكتاب بما يجدونه مكتوبًا في كتبهم، وحاجج الفلاسفة ببرهنة الحقائق الإيمانية بحجج جدلية عقلية، وأقيسة منطقية ملزمة لهم، وحاجج العرافين والكهان بإخبار غيبية غائبة عنهم، وما زالت حججه تتجدد يومًا بعد اليوم، فقد برهنت الآيات العلمية الإعجازية فيه على  أنّ الاكتشافات العلمية الحديثة تزيد القرآن رسوخًا في الإعجاز والمحجة...

كما أن المدح والذم في الحديث الشريف له صور قد لانحيط بها، وولكن يمكننا اكتشافها في عدد من الأحاديث الشريفة  ، فقد جاءت وفقا لأسلوب العرب القدامى وبسبك لايفوقه سبك...والأبواب الأخرى ...جاءت زاخرة بمواد يحتاج إليها المثقف الحصيف الذي يريد أن  يرتقي بلغته في كل حديث

بلسان مبين

الحِجَاج والمحاجّة في القرآن

إن الوحي الإلهي المتمثل في الكتب المقدسة هو الأمانة التي حملها الإنسان من دون الكائنات وبها فُضِّل عليها، واستُخلِف في الأرض. ومادامت العقول متفاوتة ومحدودة ومختصة بالعلوم المادية والفكرية من دون الحقائق الغيبية، فقد أرسل الله الرسل وأنزل معهم الكتب؛ ليرشدوا الناس إلى الحقائق الإيمانية الغيبية. ومن الحكمة الإلهية أن تلكم الكتب ضمت حججًا وبراهين ودلائل قطعية ملزمة للإيمان بها، كما قال تعالى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) النساء: ١٦٥. تدل الآية بمنطوقها على أنه لا تكليف إلا بعد إرسال الرسل، وإقامة الحجّة الواضحة اليقينية.

ولأنّ الرسالات اختتمت بالقرآن الكريم، فقد حوى أسمى أساليب البلاغة الحجاجية، إذ ضمت في أسلوبها الحجاجي مع المخالفين الحجج الجدلية، والبراهين العقلية، والأقيسة المنطقية بأساليب خطابية تناسب المستويات المختلفة، والطبقات المتفاوتة بحيث يحس كلّ طبقة أنها هي المعنية من الخطاب. فقد حاجج الشعراء وأهل اللغة بما يتقنونه من الفنون اللغوية، وحاجج أهل الكتاب بما يجدونه مكتوبًا في كتبهم، وحاجج الفلاسفة ببرهنة الحقائق الإيمانية بحجج جدلية عقلية، وأقيسة منطقية ملزمة لهم، وحاجج العرافين والكهان بإخبار غيبية غائبة عنهم، وما زالت حججه تتجدد يومًا بعد اليوم، فقد برهنت الآيات العلمية الإعجازية فيه على  أنّ الاكتشافات العلمية الحديثة تزيد القرآن رسوخًا في الإعجاز والمحجة.

القرآن مملوء بالحجج والأدلة والبراهين في مسائل التوحيد، وإثبات الصانع والمعاد، وإرسال الرسل، وحدوث العالم، فلا يذكر المتكلمون، وغيرهم دليلًا صحيحًا على ذلك إلا وهو في القرآن بأفصح عبارة.

إن القرآن الحكيم يخاطب كل طبقة من طبقات البشر في كل عصر من العصور، وكأنه متوجّه توجهاً خاصاً إلى تلك الطبقة بالذات. وعلل العلماء افتراءات المشركين على القرآن، ومحاربتهم للمسلمين بعجزهم عن معارضته بالحجج والبراهين، إذ قالوا في المكتوبات: "فلو كانت المعارضة ممكنة لما اختار أولئك الكفار طريق الحرب والدمار ويلقون أنفسهم وأموالهم وأهليهم إلى التهلكة، ويَدَعون طريق المعارضة القصيرة السهلة. فالمعارضة غير ممكنة وليست في طوق البشر. إذ هل يمكن لعاقل فطن -ولا سيما أهل الجزيرة العربية ولا سيما قريش الأذكياء- أن يُعرّض نفسه وماله وأهله للخطر، ويختار طريق الحرب والدمار إن كان باستطاعته سلوك طريق المعارضة ولو بسورة من القرآن من أديب منهم، فينقذ نفسه وماله من التحدي القرآني، إن كان إتيان مثله سهلاً ميسوراً". فلما حاججهم القرآن بما يمتلكون من مواهب وألزمهم الحجة، وثبت عجزهم عن المحاججة،  فاضطروا إلى المقارعة بالسيوف.

وقد صرح بوجود الحجاج في القرآن الكريم العلماء المتقدمون والمتأخرون، وقد صنف بعضهم مصنفات في ذلك. وقد شدد ابن القيم الجوزية النكير على من أنكر الحجاج في القرآن، إذ قال في مفتاح دار السعادة: "يظن جهال المنطقيين وفروخ اليونان أن الشريعة خطاب للجمهور ولا احتجاج فيها، وأن الأنبياء دعوا الجمهور بطريق الخطابة. والحجج للخواص وهم أهل البرهان يعنون أنفسهم ومن سلك طريقتهم، وكل هذا من جهلهم بالشريعة والقرآن، فإن القرآن مملوء من الحجج والأدلة والبراهين في مسائل التوحيد، وإثبات الصانع والمعاد، وإرسال الرسل، وحدوث العالم، فلا يذكر المتكلمون، وغيرهم دليلًا صحيحًا على ذلك إلا وهو في القرآن بأفصح عبارة، وأوضح بيان، وأتم معنى وأبعده عن الإيرادات والأسئلة".

يدل الحجاج بمفهومه الاصطلاحي في القرآن الكريم على الحوار والخطاب الذي يراد به إبانة الحقائق الإيمانية، وإبلاغها بالأساليب الإقناعية التي ترشد إلى الهداية باستمالة قلب المخاطب إلى الحق.

أما بيان مفهوم الحجاج في القران فلا بد من شرح ثلاث دلالات، هي:

1- دلالة جذر(ح.ج.ج) في القرآن الكريم: ورد جذر(حَ.جَ.جَ) ومشتقاته في القرآن الكريم في ثلاث وثلاثين موضعًا في سياقات متعددة، وبصيغ مختلفة، ولم تخرج عن مدلولاته اللغوية التي هي المخاصمة والمنازعة بقصد الظَفَر وإن مصدر الجذر هو (الحجاج) و(المحاجة)، غير أن الصيغ الواردة في القرآن الكريم جاءت بمدلول (المحاجة)، وهي على وزن (مفاعلة) أي: فيها معنى التفاعل، وهي تدل على المنازعة والمخاصمة .

2- دلالة (المحاجّة) في القرآن الكريم: ثمة فرق كبير بين الدلالة القرآنية (المحاجة) والدلالة الاصطلاحية (الحجاج)، فبتتبع المظان القرآنية التي وردت فيها مشتقات جذر(ح.ج.ج) الدالة على (المحاجة) ظهر أنها تدل على معاني مذمومة كالمراوغة والتكبر، التعنت، فيقصد بـ(المحاجة) في الاستعمال القرآني المخالفة الناشئة عن الجدال والخصومة بالباطل بقصد العناد، ويتجلى ذلك بوضوح في إسنادها إلى الكفار في الآيات أغلبها. وثمة شواهد وفيرة، نذكر منها قوله سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) البقرة ٢٥٨. والذي حَاجّ إبراهيم كان كافرًا بدلالة السياق إذ اختتمت الآية (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وقوله: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) آل عمران: ٢٠، والآية (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ) الأنعام: ٨٠، وهذه الآيات كلها واضحة الدلالة على إسناد المحاجة إلى الكفار.

3- دلالة (الحجاج) في القرآن الكريم: يدل الحجاج بمفهومه الاصطلاحي في القرآن الكريم على الحوار والخطاب الذي يراد به إبانة الحقائق الإيمانية، وإبلاغها بالأساليب الإقناعية التي ترشد إلى الهداية باستمالة قلب المخاطب إلى الحق. وبرهنتها بالحجج العقلية، والأدلة الكونية المشاهدة، والأقيسة المنطقية، وإزالة الشكوك عنها، وتفند الشبهات المثارة حولها. وثمة ألفاظ وردت في القرآن الكريم بصيغ مختلفة لها علاقة بمفهوم الحجاج، وهي: الجدل (المجادلة)، والخصام (المخاصمة)، والنزاع (المنازعة)، والحوار (المحاورة)، والمراء (المماراة).

مراتب الحجاج في القرآن

1-الحجة البرهانية:

هي الحجة القائمة على الاستدلال المباشر والقياس الصحيح، وهي تفيد اليقين الجازم، لكونها مكونة من مقدمات يقينية آيلة إلى نتائج يقينية، إذ اليقين في المقدمات والنتيجة سيان، وهي من أعلى مراتب الحجج، وتسمى بالقياس البرهاني،  ومن أمثلة الحجة البرهانية في القرآن الكريم قياس إعادة الخلق على بدئه كما في قوله تعالى: (اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)الروم: ١١. فهذا قياس برهاني للدلالة على إمكان الإحياء الأموات، وهو أنه تعالى لما كان قادرًا على أن يخلقنا ابتداء من غير مثال سابق، فلأن يكون قادرًا على إيجادنا مرة أخرى مع سبق الإيجاد الأول كان أولى. وهذه الدلالة تقريرها في العقل ظاهر، وأنه تعالى ذكرها في مظان عدة من كتابه، منها: قوله سبحانه: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)يس: ٧٩. وجه الاحتجاج أن إيجاد الأحياء من العدم، هي مقدمة صحيحة عند الكفار، فالذي قدر على خلق الكائنات ابتداءً من العدم قادر على إعادة إحيائها مرة ثانية بالقياس الأولى.

2-الحجة الجدلية:

هي الحجة القائمة على مقدمات مشهورة مسلَّمة عند المخاطب، ملزمة للخصم، ومرتبتها دون اليقين، وفوق الظن الراجح. وتسمى بالقياس الجدلي. ومن أمثلتها في القرآن الاستدلال المباشر بانتفاء صفة العدل عقلًا في التماثل بين الصالحين والطالحين والمحسنين والمسيئين، كما يفهم من الاستفهام الإنكاري في قوله عزّ وجل: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) القلم: ٣٥-36. وهذا الاستفهام إنكاري نفي للمساواة بينهم، وحجة غير مباشرة على ضرورة إقام الحساب بالعدل بين الخلائق في يوم القيامة ووجه الإلزام في الآية هو أن قول المشركين: (إن الله تعالى سيفضلنا على المسلمين في ‏الآخرة، أو يساوي بيننا‏)، يستلزم منه الإيمان بوجود الآخرة والحساب، وإيمانهم هذا يستلزم الإيمان بالخالق العادل، وهذا بحد ذاته حجة عليهم في انتفاء المساواة بين محاربتهم لله، وإطاعة المسلمين له.الحجة المغالطة هي القائمة على مقدمات غير صحيحة، وهي تموه السامع وتخدعه، وهي من الحجج المحرمة شرعًا المرفوضة عقلًا وقد صدرت مثل هذه الحجج من الكفار في جدالهم مع الأنبياء عليهم السلام.

3-الحجة الخطابية:

هي الحجة القائمة على مقدمات مبنية على الظن الراجح لكنها غير ملزمة للخصم. والظن الراجح على مراتب أعلاها قريب من اليقين وأدناها قريب من الشك. ولم يرد في القرآن الكريم بحسب الاستقراء حجج خطابية منفردة في برهنة الحقائق الإيمانية، بل وردت مقترنة بالحجج البرهانية والجدلية أي: إنها حجج اعتضادية ولست أصلية. ومن الحجج الواردة في القرآن الكريم مضافة إلى الحجج البرهانية، والجدلية لبرهنة حقيقة التوحيد قوله تعالى: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) الروم:28  في هذه الآية ضرب الله مثلًا للذين جعلوا له شركاء، هو: استفهامه لهم: هل يرضى أحد منكم أن يكون عبده شريكا له في ماله وولده حتى يكون هو ومملوكه سواء، فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فلِمَ رضيتم أن تكون آلهتكم التي تعبدونها شركائي وهم عبيدي. ووجه الاحتجاج أن الله سبحانه احتج عليهم بأمر يستنكفون عنه ورافضين له ظنًا منهم أن ذلك تقليل من شأنهم، فاستنكر عليهم الله تكبرهم على عبيدهم من البشر مثلهم مع إرضائهم ذلك لله مع عبيده وهو خالقهم.

4-الحجة المغالطة:

هي الحجة القائمة على مقدمات غير صحيحة، وهي تموّه السامع وتخدعه، وهي من الحجج المحرمة شرعًا المرفوضة عقلًا وقد صدرت مثل هذه الحجج من الكفار في جدالهم مع الأنبياء عليهم السلام، كما فعل نمرود في محاجّته لإبراهيم عليه السلام/ في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)البقرة:258. فالحجة الصادرة من نمرود حجة مغالطة؛ لأنها بنيت على مقدمة خاطئة، وهي تفسير حقيقةَ (الإحياء) بالتخلي عن المسجون و(الإماتة) بقتله. فلا يخلو حال نمرود إما أنه لم يفهم حقيقة الإحياء والإماتة، أو فهم إلا أنه قصد المصادمة والمباهتة، وكلاهما يوجب العدولَ إلى دليلٍ يفضحُ معارضته ويقطعُ حجاجه. ويبدو لي أن انتقال إبراهيم عليه السلام، إلى الحجة الثانية لم يكن إقرارًا منه على حجة نمرود، بل كان ذلك إلزامًا له بحجته في ادعائه الربوبية، مبينًا أن الذي يحي ويميت يكون قادرًا على التصرف في الوجود في خلق ذواته، وتسخير كواكبه وحركاته، فأمره بتحويل نواميس الكون، وذلك بإتيان القمر من المغرب على خلاف العادة. فلما عجز عن ذلك تبين فساد حجته الأولى وبطلانها.

* ملحوظة: كل ما ذُكر من الحجج هي باعتبار السياق والمخاطب فإن اختلف السياق وتغير المخاطب ستتغير مرتبة الحجة.

أفصحنا(صلّى الله عليه وسلم)

أسلوب المدح والذمّ في الحديث الشريف

من الأساليب النَّحويَّة الَّتي استخدمها العرب للتَّعبير عن المدح، أو الذَّمّ؛ أسلوب (نِعْم، وبِئْس)، و(حبَّذا، ولا حبَّذا)، وغيرها من الأفعال الَّتي تسدّ مسدَّها؛ مثل: (ساء، وحَسُنَ، وضَعُفَ، وكَبُرَ)، وما قام مقامها.وهذا يدلّ على المستوى الإيجازي الرَّفيع الّذي تتمتّع به هذه اللُّغة المقدَّسة، ولا سيّما أنَّ هذه الألفاظ في هذا الأسلوب تأتي على وَفْق نظام بديع؛ فعناصره ثلاثة: (فعل المدح أو الذَّمّ، والفاعل، والمخصوص بالمدح أو الذَّمّ)، ويجوز في هذه العناصر بعض التَّغيرات الّتي لا تخرج عن نظام اللُّغة العربيّة. ولا يجوز الاكتفاء بالفعل وفاعله في هذا الأسلوب؛ فلا تقول: (نِعْمَ الرَّجلُ) من غيرِ ذكْر المخصوص، أو الإشارة إليه، وزيادة على ما تقدَّم فإنّ (الفاعل) لا يكون إلا معرَّفًا بـ(أل)، أو مضافًا إلى معرَّفٍ بـ(أل)، أو مضافًا إلى مضافٍ معرَّفٍ بـ(أل)، أو ضميرًا مستترًا مفسَّرًا بتمييز.

ولو عدنا إلى ألفاظ المدح أو الذَّمّ نفسها لوجدنا أنَّ (نِعْمَ، وبِئْسَ) لفظان وُضِعا لإنشاء المدح أو الذَّمّ على التَّوالي، قال سيبويه: "وأصل نِعْمَ، وبِئْسَ: نَعِمَ، وَبَئِسَ، وهما الأصلان اللَّذان وُضِعا في الرَّداءة والصَّلاح، ولا يكون منهما فعل لغير هذا المعنى"، وقد عدَّهما البصريّون فعلين جامدين على حين عدَّهما الكوفيّون اسمين، ولكلّ فريق أدلّته.

وتُستخدم (نِعْمَ، وبِئْسَ) للمدح العامّ، أو للذَّمّ العامّ على التَّوالي؛ فقولك: "نِعْمَ الرَّجلُ محمّدٌ"، يعني: أنَّك مدحتَ (محمَّدًا) مدحًا عامًّا دونما ذكر لخَصلة معيّنة، وكذلك حال الذَّمّ، ولكنْ قد تُذكر خَصلة معيّنة من خصال المدح أو الذَّمّ إذا أردت ذلك؛ فتقول مثلًا: "نِعْمَ شاعرُ القوم حسَّانُ".

وتتَّصل بـ(نِعْمَ، وبِئْسَ) (ما) فيقال: (نِعْمَ ما)، و(بِئْسَ ما)، وقد تُدْغَمُ الميمان في (نِعْمَ) و(ما)؛ فيُقال: (نِعمّا)، قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِي}

(البقرة:271).وللنُّحاة في (ما) قولان: إمّا أنَّها تمييز بمعنى (شيء)، وإمَّا أنَّها فاعل لـ(نِعْمَ)، وهي اسم موصول، أو معرفة تامَّة بمعنى (الشَّيء).

أمّا المخصوص بالمدح أو الذَّمّ بعد (نِعْمَ، أو بِئْسَ) فيؤتى به مرفوعًا بعد الفعل وفاعله، أو بعد التَّمييز إنْ كان موجودًا، ولا بدّ من وجود المخصوص ولا يحذف إلا إذا دلّ عليه دليلٌ، وبهذا فإنَّ فعل المدح أو الذَّمّ يختلف عن سائر الأفعال؛ إذ إنَّها قد تكتفي بمرفوعها، وهذا لا يكتفي به مطلقًا بل لا بدَّ من تعيين ممدوح، أو مذموم.

ولإعراب المخصوص ثلاثة أوجه؛ هي: إمّا أنَّه مبتدأ خبره ما قبله، أو أنَّه خبر لمبتدأ محذوف وجوبًا تقديره (هو)، أو أنَّه بدل من الفاعل.

بقي أنْ نقول: إنَّه قد يُستخدم (نِعْمَ، وبِئْسَ) استخدامًا آخر، وهو كونهما متصرِّفين وليسا جامدين، فيكون لهما فعل مضارع وأمر واسم فاعل وغير ذلك، وهما عند ذاك للإخبار عن النِّعمة والبؤس، ويدخل عليهما تغيرٌ في بنيتهما إذ يكونان مكسورَي العين؛ فتقول: "نَعِمَ الرجلُ بمعيشتِه"، وهكذا.

ومن الأفعال الأُخر الَّتي للمدح أو الذَّمّ: (حبّذا، ولا حبّذا)، و(حبَّ) في الأصل متصرّف لكنّه جَمد في هذا التَّركيب لإنشاء المدح، وعند دخول (لا) عليه فإنَّه يفيد الذَّمّ.

وقد وردت أفعال المدح أو الذَّمّ في صحيح البخاري في اثني عشر موضعًا، على وَفْق ما يأتي:

أوّلًا: أفعال المدح:

الصُّورة الأولى: فعل المدح (نِعْمَ)، والفاعل اسم معرف بـ(أل)، والمخصوص:ومثاله مِن كلام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (نِعْمَ الرَّجلُ عبدُ الله)، (نِعْمَ الجهادُ الحجُّ)، في هذين المثالين استخدم النَّبيّ عليه الصَّلاة والسَّلام الفعل (نِعْمَ)، وهو فعل جامد لإنشاء المدح -على رأي البصريّين-، و(الرّجل، والجهاد) على التّوالي فاعله، وهما معرَّفان بـ(أل) الجنسيّة.

قال سيبويه: "إذا قلتَ: عبد الله نِعْمَ الرّجلُ، فإنَّما تُريد أنْ تجعله من أُمّة كلِّهم صالح، ولم تُرد أن تُعرِّف شيئًا بعينه بالصّلاح بعد نِعْمَ"، وقد خصَّ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم من هذين الجنسين (عبد الله، الحجَّ) على التَّوالي، وعليه فإنّ المخصوصَ مبتدأٌ خبرُه ما قبلَه؛ لأنَّه لا يختلف إعرابه تقدّم أو تأخّر، ولأنَّه تدخل عليه (النَّواسخ) مقدّمًا أو مؤخّرًا، ولم ترد هذه الصُّورة في صحيح البخاريّ في غير هذين الموضعين.

الصُّورة الثَّانية: فعل المدح (نِعْمَ)، والفاعل مضاف إلى ما فيه (أل)، والمخصوص محذوف:ومثاله مِن كلام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (وإنّ هذا المالَ خَضِرَةٌ حلوةٌ، فنِعْمَ صاحبُ المُسلم ما أعطى مِنْه المسكينَ واليتيمَ وابنَ السبيلِ)، حيث ورد في هذا الحديث (نِعْمَ) دالًا على المدح، وفاعله مضافًا إلى ما فيه (أل)، وهو (صاحب) المضاف إلى (المسلم)، والمخصوص بالمدح محذوف لدَلالة ما قبله عليه وهو (المال)، وقد وردت هذه الصورة في (ثلاثة) مواضع في صحيح البخاريّ.

الصّورة الثّالثة: فعل المدح (نِعْمَ)، والفاعل معرف بـ (أل) المخصوص، والتّمييز:ومثاله مِن كلام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (نِعْمَ المنيحةُ اللَّقحة الصَّفيُّ منحةً)، حيث ورد الفعل الجامد (نِعْمَ) لإنشاء المدح، وفاعله معرف بـ(ال) وهو (المنيحة)، والمخصوص بالمدح (اللَّقحة)، وزيادة على ما تقدَّم كلّه فقد ورد التَّمييز وهو (منحةً) مقرونًا بفاعل (نِعْمَ) الظاهر، وهو ممَّا منعه سيبويه، إذ إنّه لا يُجيز أنْ يقع التَّمييز بعد فاعل (نِعْمَ) أو (بِئْسَ) إلا إذا أُضمر الفاعلُ؛ كقوله تعالى: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} (الكهف:50).

وقد ذهب ابن مالك إلى وقوعه بعد الفاعل الظاهر وعدّه هو الصَّحيح؛ إذ قال: "فإنَّ التَّمييز بعد الفاعل الظَّاهر وإنْ لم يدفع إبهامًا، فإنَّ التَّوكيد به حاصل، فيسوّغ استعماله، كما ساغ استعمال الحال مؤكَّدة"، وعليه فإنَّ ابن مالك يَعُدُّ التَّمييز في مثل هذه الصُّورة مؤكّدًا للفاعل، حملًا على الحال المؤكَّدة، وهو توجيه لا يخلو من السَّداد، وعليه يتمُّ تخريج الحديث النَّبويّ الشَّريف، على أنَّ ابن مالك قد أورد شواهد شعريَّة مؤيّدة لهذه الظَّاهرة، ولم ترد هذه الصُّورة في غير هذا الموضع في صحيح البخاريّ.

الصُّورة الرَّابعة: فعل المدح (نِعْمَ)، وما (مدغمة مع ميم) نِعْمَ:

ومثاله مِن كلام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (نِعِمّا لأَحَدِهم يُحْسنُ عبادةَ رَبِّهِ وَينْصَحُ لسيِّدِهِ)، حيث وردَ فعل المدح (نِعْمَ) مدغمةً فيه (ما) فأصبح (نعمّا)، و(ما) هنا إمّا (فاعلًا) فهي معرَّفة بمعنى (الشَّيء)، وجملة (يُحسنُ عبادة..) حال من الفاعل، وإمّا (تمييزًا) فهي نكرة بمعنى (شيء).

وجاء في (إرشاد السَّاري): "فاعل نِعْمَ ضميرٌ مستترٌ فيها مُفَسَّر بقوله يُحسِنُ أي نعمّا مملوك.."، وأمّا قول ابن مالك أنَّ (ما) مساوية للضَّمير في الإبهام فلا تمييز؛ لأنَّ التَّمييز لبيان الجنس المميّز عنه، قال العلاّمة البدر الدَّماميني في (المصابيح): إنّه مرفوع لأنَّ (ما) ليس مساويًا للضَّمير؛ لأنَّ المراد شيء عظيم، قال: "وموضع يحسن عبادة ربه …إلخ تفسير لـ(ما)، فلا محلّ لها من الإعراب"، وقد وردت هذه الصُّورة في هذا الموضع فقط في صحيح البخاريّ.

الصُّورة الخامسة: فعل المدح (نِعْمَ)، والفاعل معرف بـ(ال)، والمخصوص محذوف فأقيمت صلة الموصول مقامه: ومثاله مِن كلام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (ولَنِعْمَ المجيءُ جاءَ)، حيث جاء (نِعْمَ) دالا على المدح، وفاعله معرَّف بـ(أل) وهو (المجيء)، أمّا المخصوص فقد حذف وأُقيمت الصِّلة مقامه، فتقدير الكلام: (فَنِعْمَ المجيء الَّذي جاء)، وعليه فإنَّ هذا الحديث الشَّريف شاهد على حذف المخصوص وإقامة الصِّلة مقامه.

وإنَّ المحذوف ليس شرطًا أن يكون موصولًا فقد يكون موصوفًا على تقدير (فَنِعْمَ المجيءُ مجيءٌ جاء)، ولكن كونه موصولًا في مثل هذا المثال أجود من كونه موصوفًا؛ لأنَّه مخبر عنه -إذ أصله مبتدأ مؤخَّر-، وكون المخبر عنه معرفة أولى من كونه نكرة، ولم ترد هذه الصُّورة في غير هذا الموضع في صحيح البخاريّ.

ثانيًا: أفعال الذَّمّ:

الصُّورة الأولى: فعل الذَّمّ (بِئْسَ)، والفاعل مضاف إلى ما فيه (أل)، والمخصوص محذوف:

ومثاله مِن كلام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (بِئْسَ أخو العَشِيْرةِ)، حيث ورد فعل الذَّمّ (بِئْسَ) وفاعله (أخو) المضاف إلى معرفة بـ(أل)، وهو (العَشِيْرةِ).وقد حُذِفَ المخصوص لدَلالة ما قبله عليه -كما في سياق الحديث- وقد وردت في (موضعين) في صحيح البخاريّ.

الصُّورة الثَّانية: فِعْلُ الذم (بِئْسَ)، والفاعل معرف بـ(ال)، والمخصوص محذوف:ومثاله مِن كلام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (بِئْسَتِ الفاطِمَةُ)، حيث ورد فعل الذّم (بِئْسَ) وفاعله معرف بـ(أل)، وهو (الفاطِمَةُ)، وقد أُنِّثَ الفعل لتأنيث الفاعل، والمخصوص محذوف للدَّلالة عليه كما هو في سياق الحديث، ولم ترد غير هذه الصُّورة في صحيح البخاريّ.

الصُّورة الثَّالثة: فعل الذَّمّ (بِئْسَ)، ما، المخصوص مصدر مؤول من (أَنْ، والفعل المضارع):كلام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (بِئْسَ ما لأحَدِهِم أنْ يقولَ: نَسِيْتُ)، حيث جاء فعل الذَّمّ (بِئْسَ) وفاعله مستتر فيه مفسَّر بالتَّمييز (ما) النَّكرة، والمخصوص بالذَّمّ هو المصدر المؤوّل من (أنْ يقول)، ولم ترِد غير هذه الصُّورة في صحيح البخاريّ. وهكذا نرى أنَّ لُغة الحديث النَّبويّ الشَّريف قد استخدمت هذا المستوى الإيجازيّ البديع في التَّعبير عن المدح والذَّمّ على وَفْق نسق أسلوب العرب بأعلى درجات الفصاحة، والبيان.

كواكب ونجوم

"الجرجاني،  أبو بكر عبد القاهر بن عبدالرحمن بن محمد" (٤٠٠ - ٤٧١هـ، ١٠١٠ - ١٠٧٨م).

من روّاد البلاغة، والنظم والخطاب الحجاجي، وُلِدَ وتوفي في جُرْجان ،و بلدة جرجان في إيران جنوب بحر قزوين، تتلمذ علي أبي الحسين بن عبد الوارث، ابن أخت أبي علي الفارسي النحوي، وكان يحكي عنه كثيرًا؛ لأنّه لم يلقَ شيخًا مشهورًا في العربية غيره لعدم خروجه من جرجان في طلب العلم، وتعلم الأدب على يد القاضي الجرجاني، وقرأ كتابه "الوساطة بين المتنبي وخصومه". وتتلمذ الجرجاني على آثار الشيوخ والعلماء الذين برزوا في دراسة اللغة العربية، فقد استشهد في كتبه بأفكار أبرز العلماء مثل: سيبويه والجاحظ وأبي علي الفارسي، وابن قتيبة وقدامة بن جعفر، والآمدي، والقاضي الجرجاني، وأبي هلال العسكري، وغيرهم. طوَّر الجرجاني طريقة أكثر تميزًا ودقةً في تحليل الظواهر اللغوية والخطابية. ويُعد عبد القاهر واحدًا من الذين تفخر بهم الحضارة الإسلامية في مجال الدرس اللغوي، والبلاغي؛ إذ تقف مؤلفاته شامخة حتى اليوم أمام أحدث الدراسات اللغوية، ويُعد كتابه دلائل الإعجاز قمة تلك المؤلفات؛ حيث توصل فيه إلى نظريته الشهيرة التي عُرفت باسم نظرية التعليق أو نظرية النظم، التي سبق بها عصره، ومازالت تبهر الباحثين المعاصرين، وتقف نداً قويًا لنظريات اللغويين الغربيين في العصر الحديث.

أراد عبد القاهر بكتابه دلائل الإعجاز أن يرد على من كانوا يرجعون إعجاز القرآن إلى الألفاظ، ورفض أن يكون الإعجاز راجعًا إلى المفردات أو معانيها؛ أو جريانها وسهولتها وعذوبتها وعدم ثقلها على الألسنة، كما رفض أن يكون الإعجاز راجعًا إلى الاستعارات أو المجازات أو الفواصل أو الإيجاز، وإنما ردّ إعجاز القرآن إلى حسن النظم، ومجمل نظريته أنه لا اعتداد بمعاني الكلمات المفردة إن لم تنتظم في سياق تركيبي، وهو ما يعرف بالنحو، فهو يرى أن الدلالة المعجمية معروفة لمعظم أهل اللغة، ولكن دلالة اللفظة التي تكتسبها خلال نظمها في سياق تركيبي هي التي يسعى إليها مستخدم اللغة، لاختلاف دلالة اللفظة تبعًا للتركيب النحوي الذي تنتظم فيه، والمواضع المختلفة التي تحتلها في السياقات الناتجة عن أصل سياقي واحد. حذق عبد القاهر الثقافة العربية الإسلامية التي كانت سائدة في عصره، مثل علوم القرآن الكريم وما دارت حوله من مباحث ودراسات، وأتقن الفقه الشافعي وبرع في فلسفة المذهب الأشعري، وألمّ بالدراسات المنطقية على نحو ما تكشف عن ذلك تقسيماته، ودراساته في أسرار البلاغة، ومجادلاته في دلائل الإعجاز، وقد كان عبد القاهر على معرفة تامة بلغات متعددة غير العربية؛ فقد عرف الفارسية والتركية والهندية، وبرع في اللغة الهندية إلى الحد الذي جعله يكتشف استفادة بعض شعراء العرب من لغة الهنود وأفكارهم. تصدر عبد القاهر مجالس جرجان يفيد الراحلين إليه والوافدين عليه، وقصده طلاب العلم من كُلِّ صوب، ومن تلامذته المشهورين الواردين إلى العراق، والمتصدرين ببغداد النحوي علي بن زيد الفصيحي، وأبو زكريا التبريزي، والإمام أبو عامر الفضل بن إسماعيل التميمي الجرجاني، وأبو النصر أحمد بن محمد الشجري.

انتقل إلى عبد القاهر علم السابقين فتأثر به، وظهر ذلك جليًا في مؤلفاته مثل: المغني والمقتصد؛ الإيجاز؛ التكملة؛ التذكرة؛ المفتاح؛ الجمل؛ العوامل المائة؛ النحو؛ التخليص؛ العمدة في التصريف.... كتاب "دليل الإعجاز وأسرار البلاغة"، الذي أكسبه شهرة واسعة كأحد أبرز مفكري العالم الإسلامي، طوَّرفيه نظرية لغوية كاملة تذهب إلى أبعد من أي شيء وصل إليه الإغريق والهنود والمسلمون في العصور الكلاسيكية السابقة للعصرالعباسي الذي عاش فيه الجرجاني، كما أنه كتب الكثير من الخطابات الحديثة في علم اللغة.

قضايا لغويّة ونحويّة

نقد رسالة (حجاج الفقهاء، ابن قيم الجوزية نموذجا):

 سعت هذه الدراسة إلى بحث إشكالية الحجاج في الدراسات اللسانية المعاصرة ،ولدى اللغويين القدامى، ومدى فاعليته في استنطاق النصوص انطلاقا من الجانب النظري ووصولا إلى تمظهر الحجاج في نصوص كتاب "إعلام الموقعين عن رب العالمين" أحد مؤلفات ابن قيم الجوزية باعتماد آليات المنهج التحليلي، والإجراءات التداولية من خلا بعض نصوص الكتاب بطريقة تكشف عن تصورات جديدة للإقناع في مخاطبة عقل المتلقي، عنونت البحث "بحجاج الفقهاء..ابن قيّم الجوزية أنموذجا" العنوان يجب أن يكون دالا بكلمة أو أكثر على القضية أو الموضوع المتناول ،ويخلو من الأخطاء ، فبدلا من ابن قيّم الجوزية "ابن القيّم" وبدل أنموذجا المعرّبة من كلمة نموده  وتعني: مثالا، والأصح كتابتها نموذجا ليصبح العنوان " حجاج الفقهاء..ابن القيّم نموذجا" أعدتها الطالبة،  أو إعداد الطالبة بدلا من أعدّت  بواسطة...؛ لأن أعدّ فعل متعدٍ...ثمّ صدّرت الدراسة  بملخص أوحى بما سعت إليه الدارسة لتحقيق الهدف ، وبمقدّمة أو مدخل ، فالملخص هو إيجاز لما أنجز من البحث ، ولوعدنا إلى ما تعنيه مقدمة البحث، فهي الصفحات القليلة التي تشرح مضمون البحث، وموضوعه، وتعرّف به، أمّا الملخص فهو وصف قصير لعمل موسّع، فلا حاجة إلى الملخص إذ يمكن تضمين تقسيم الدراسة إلى فصلين في المقدمة....وعن مفهوم الحجاج اللغوي ،فقد حصرته الدارسة في البرهان والدليل ، لم تتطرّق إلى بنية كلمة حِجاج: فهي حجاج مصدر الفعل حاججَ ، والمصدر غير الفعل ، وحاجج فيه معنى المشاركة، أي إن هناك مرسلا ومتلقيا، ورسالة، أوقضية للمحاججة بقصد الإقناع ، وليس دائما الحجاج للمجادلة والخصومة ، إنما هدفه الإقناع وإقامة الدليل والتأثير، حبذا لو أجرت الدارسة مقارنة بين الجدال والحجاج والمناظرة من جانب لساني لغوي لكان أجدى وأنفع.... عند وقوف الدارسة على مفهوم الحجاج قديما وحديثا من أرسطو، والسفسطائيين (التمويهيين) إلى ليبرمان مرورا بالجاحظ، وابن خلدون ، لم تُعرّف نظرية الحجاج بكونها نظرية تُعنى بدراسة التقنيات الخطابية التي تهدف إلى حثّ عقول ألمُخاطَبين، أو إلى رفع نسبة تأييدهم القضايا المطروحة للنقاش في سبيل الوصول إلى اتفاق عام، وبكونها نظرية تعمل على اختبار الشروط التي تساعد على بدء الحجاج وتطويره، والآثار الناتجة عنه أيضا، وهو تعريف يدعونا إلى التفكير مباشرة في البلاغة القديمة التي جُعل الجرجاني نموذجا لها، ويستحقّ أن يكون في دراسته للنظم القرآني أن يكون مثالا يحتذى في ربط البلاغة بالحجاج الهادف إلى الإقناع  بالبيّنة والدليل المنطقي الواضح ، حبذا هذه دراسة لو عُنيت بأسلوب الشيخ عبد القاهر الجرجاني من خلال تقنيّة الحِجاج البلاغيّة؛ ولأن اللغة تنوب مناب الفکر؛ لجاءت الدراسة کاشفة عن فکره الحجاجي من خلال لغته، وأسلوبه.

ونستطيع أن نطمئن على -مما عرضناه- إلى أن الجرجاني قد وظّف الحِجاج في کثير من بحوثه، وأن نقول: إن الحجاج له صيغه الخاصة التي لا تنحصر في نمط تعبيري بعينه، وليست وقفًا على أداة ، أو ترکيب دون سواه،(ذكرته الدارسة على خجل في قولها: يوظف العوامل الحجاجيّة كأدوات النفي والحصر: " ليس..إلا" لكن الجرجاني كان  يطوّف بين عدة ظواهر بلاغية وأسلوبية کالشرط، والقصر، والتوکيد، والنفي، والاستفهام... إلى غير ذلك من الأساليب التي قد تأتي على هيئتها التي نص عليها النحاة ،والبلاغيون في تقعيدهم، وقد ترد بفحواها من خلال الصيغ، والتراکيب المؤدية لمعناها، فضلا عن اتخاذ هيئة المناظرة مع الخصوم في بعض الأحيان باعتبارها ذات سمتٍ تداوليٍّ أصيلٍ في الخطاب الحجاجي، وعلى أي حال، فإن هذه الدراسة محاولة -أحسبها غير مستوفية- لدراسة بلاغة النظم عند صاحب نظرية النظم من خلال الحجاج؛ لأننا لا نبالغ إذا قلنا: إن عبد القاهر صنع کتابه (دلائل الإعجاز) ومن قبله (أسرار البلاغة) على سبيل التحدي مستثمرا أسلوب المحاججة للإقناع بأن اللفظ كساء المعنى ، والإمتاع معا.....وتناولت الدارسة حجاج الفقهاء في ما بينهم، وسلاح الفقيه اللغة ( اللسان) -ومن لا يمسك بناصية اللغة لايكون فقيها- وجعلت ابن حزم الظاهري نموذجا في حجاجه العاطفي والسياسي، والفلسفي( المنطقي)، والخطاب الشعري التخييلي ثمّ الديني، لكن لم تتطرّق الدارسة  إلى مناظرته مع أبي الوليد الباجي المالكي فهي خطاب حجاجي فقهي طُرحت فيه أدلّة، وبراهين بعضها مقنعة، وبعضها ضعيفة أدلى بها الجانبان ، ابن حزم -له ماله وعليه ماعليه – يظل عالما وأديبا وفقيها ومعظم ما حاجج به كان في كتابه "المحلّى"   لم يُذكر في الرسالة أمثلة على الأساليب اللغوية  المتعددة التي استخدمها ابن حزم  من تعجب، واستفهام ونفي ونهي ،وشرط ، ولو باقتضاب شديد، لم تذكر أن التنوع الفكري في الأندلس كان السبب الرئيس في تكوين الشخصية الجدليّة لابن حزم..فاتسم جدال ابن حزم بالموضوعية وبالإنصاف العلمي، إذ إنه يأتي بأدلة الخصم كاملة، ونقد الأدلة المخالف عنده  يتنوع ما بين نقد الثبوت، ونقد الدلالة، ينتقل ابن حزم في جداله من مرحلة التفنيد والإثبات إلى مرحلة الإلزام، والإفحام، ويقوم جدال ابن حزم على نسق منهجي متكامل، استعملت الدارسة مصطلح المحاجّة بدلا من الحجاج، والفرق الدلالي بين المحاجة والحجاج واضح ؛ فقد وردت دلالة (المحاجة) في القرآن الكريم ، وثمّة فرق كبير بين الدلالة القرآنية (المحاجة) والدلالة الاصطلاحية (الحجاج)، فبتتبع المظان القرآنية التي وردت فيها مشتقات جذر(حَ.جَ.جَ) الدالة على (المحاجّة) ظهر أنها تدل على معاني مذمومة كالمراوغة والتكبر، التعنت، فيقصد بـ(المحاجة) في الاستعمال القرآني المخالفة الناشئة عن الجدال والخصومة ، كما أنها استعملت سوية في موضع لا يصلح أن تستخدم فيه، فسوية لا تعني معاً، فقد ذكرت في فقرة المحاجة العاطفية عند ابن حزم " يتأكد من ترابط عناصره سويّة " والأفضل لو استبدلت معًا بها، كان بإمكان الدارسة أن لا تخلط الدلالات ببعضها بعضا، وعن دلالة (الحجاج) في القرآن الكريم: يدل الحجاج بمفهومه الاصطلاحي في القرآن الكريم على الحوار والخطاب الذي يراد به إبانة الحقائق الإيمانية، وإبلاغها بالأساليب الإقناعية التي ترشد إلى الهداية باستمالة قلب المخاطب إلى الحق، وبرهنتها بالحجج العقلية، والأدلة الكونية المشاهدة، والأقيسة المنطقية، وإزالة الشكوك عنها، وتفند الشبهات المثارة حولها. وثمة ألفاظ وردت في القرآن الكريم بصيغ مختلفة لها علاقة بمفهوم الحجاج، وهي: الجدل (المجادلة)، والخصام (المخاصمة)، والنزاع (المنازعة)، والحوار (المحاورة)، والمراء (المماراة)، ليت الدارسة أدرجتها في دراستها، ؛ لأن حجاج الفقهاء يصبّ في دائرتها ، ولا يخرج عنها.....

وعن مصطلح الحجاج في الفكر الحديث؛ فقد ذكرت الدارسة أنه لم يولي عنايته للمتلقي  ولم يأبه لإقناعه، وهذا تناقض ، فدائما في الخطاب الحجاجي يكون المتلقّي حاضرا صراحةً أو ضمنا، أي: هناك مخاطب، وبيرلمان لا يعتمد الحجاج عنده على العنف،  أو تضليل المخاطب أو توهيمه، بل غرضه هو بناء الحقيقة عن طريق الحوار البنّاء،  والاستدلال الذي قد يكون ذهنياً، ووجد كلّ من بيرلمان، وتيتكاه آراء أرسطو حينما حاولا أن يعيدا إليها طابعها الفلسفي الحقيقي؛ أن البلاغة الأرسطية تحصر البلاغة في الإقناع، فتعدها خطابا حجاجيا بامتياز، أمّا عن الحجاج الفلسفي (المنطق) عند طه عبدالرحمن، فقد ذكرت تعريفه للحجاج أنه" كل منطوق به موجه إلى الغير لإفهامه دعوى مخصوصة يحق له الاعتراض عليها"، ثم رأت أنه يصنّف الخطاب الحجاجي إلى تجريدي وتوجيهي، وتقويمي، ناسية أن طه عبد الرحمن عدّ اللغة التي يستعملها الحجاج أساسا هي اللغة الطبيعية، فقد عدّ ( الحجاج) من وظائف اللغة الأربع، فضلا على الوظيفة الوصفية، والوظيفة الإشارية، والوظيفة التعبيرية، فالمرسل يستخدم اللغة لغاية الحجاج بالبراهين والتفسيرات، من هذا المنطلق يؤسس طه عبد الرحمن لمفهوم الحجاج بوصفه استراتيجية إقناعية، وعملية خطابية يهدف من خلالها الخطيب تسخير المخاطب لفعل، أو ترك بتوجيهه إلى اعتقاد قول يعدّه كل منهما شرطا كافيا ومقبولا للفعل أو الترك، وذلك من خلال كـتابيه: (اللسان والميزان، أو التكوثر العقلي) و(في أصول الحوار وتجديد علم الكلام). ولعل أهم ما طرحه طه عبد الرحمن من مفاهيم للحجاج بوصفه وسيلة لغوية إقناعية....في فقرة درس الحجاج في التداولية المعاصرة لم تعرّف الدارسة التداولية كمصطلح معاصر لغويا واصطلاحيا، فالملاحظ  أن معاجم العربية لا تكاد تخرج في دلالاتها للجذر “دَوَل” على معاني: التحول والتبدل والانتقال، سواء أكان من مكان إلى آخر أم من حال إلى آخرى، ما يقتضي وجود أكثر من طرف واحد يشترك في فعل التحول والتغير والتبدل، والتناقل وتلك حال اللغة متحولة من حال لدى المتكلم، إلى حال أخرى لدى السامع، ومتنقلة بين الناس، يتداولونها بينهم، ولذلك كان مصطلح “تداولية” أكثر ثبوتا بهذه الدلالة من المصطلحات الأخرى ، ويأخذ بالسياق ، مثلما تأخذ الدلالة بالمعنى، لكن الدارسة ركزت على وظيفة التداولية الوصفية، والتفسيرية في تعزيز التواصل والتفاعل الاجتماعي باعتماد ضوابط حوارية تحقق مقاصد الخطاب...وفي فقرة التداولية والحجاج تحدثت الدارسة عن علاقة التداولية بالبلاغة والتقائهما بالإقناع والتأثير ،  وأغفلت أنّ أهمّ نقطة التقاء تتمثل في الخطاب الحجاجي، فالتداولية علم استعمال اللّغة في المقام، والمقام أحد مقوّمات البلاغة القديمة، فقد جرى البحث في اتّجاه استقصاء الأصول المعرفية للخطاب الحجاجي  بعيدا عن الأبعاد، والتصوّرات ، والمفاهيم، وعند مقارنتها بين البلاغة القديمة والبلاغة الحديثة لم توضّح ، وتركز على أنّ البلاغة التقليدية بلاغة معيارية تعليمية تربط فن البلاغة بالخطابة و الإقناع و الإمتاع و البيان، فإن البلاغة الجديدة قد تعاملت مع الخطابات النصية المختلفة منذ منتصف القرن العشرين تعاملا علميا وصفيا جديدا ضمن مجموعة من الاتجاهات : لسانية، و أسلوبية، و حجاجية، و تداولية، و سيميائية...وفي فقرة نظرية الأفعال الكلامية ، وعلاقتها بالحجاج ذكرت الدارسة أن نظرية الأفعال الكلامية تتصف بالنظرية والتحليلية ؛ وعللت ذلك بأنها أسّست "وليس تأسست" على المقولة الأوستينية:"كيف تنجز الأشياء بالكلمات؟" لكن لم توضّح أن  نظرية الفعل الكلامي من أهم الأبحاث ، بل من أهم محاور التداولية ، كونها أعطت دورًا، ومكانة للغة وأفعالها الكلامية في صنع المعاني، ونقلها من مستوى التلقي إلى مستـــويات الفعل والتجسيد ، واكتست طابعا خاصا حينما سعت إلى تحقيق أبعاد حجاجية ، بناء على كفاءة المتخاطبين طالما أن كلَّ المخاطب يصبو إلى إحداث التأثير تأسيسا لبناء حجاجي في كلامه،  ذلك أن الحجاج ليس سوى عمليات ترمي إلى تحقيق الاستمالة لما يعرض على المتلقي من دعوى ، والتأثير العملي في سلوكه ، وبالجملة إقناعه ومن هذا المنطلق كان من اللازم إبراز الجهود التي تناولت الفعل الكلامي ( أوستين ، سورل ، وغرايس ) كونها شكلت اللبنة الأساس لبروز الحجاج التداولي عند كل من ديكرو، وانسكومبر . 

في فقرة مناهج تحليل الخطاب الحجاجي عرضت الدارسة مقاربات التحليل التي تتخذ الخطاب الحجاجي مركزا للمداخل الوصفية، والتعبيرية لحدث التلفظ الحجاجي ، وذكرت أن الحجاج موجود في الخطابات السردية ، والوصفية، والتفاعلية ، والحوارية على تعدد أشكالها ، ووظائفها، كما أنها فرّعت الحديث إلى المنطلقات والتقنيات الحجاجية، وأنواع الحجج ، وسلطة العقل والحجاج، وآليات العرض الحجاجي، والقرائن الحجاجية ، والإستراتيجيات الحجاجية، وتقول الدارسة في نهاية الفصل الأول : إنها حاولت أن تلمّ ببعض العريفات الحجاجية  مع التركيز على تطور نظرية الحجاج ، ومناهج تحلي الخطاب الحجاجي، ومنطلقات الحجاج أي الجانب النظري من الدراسة تمهيدا للدراسة التطبيقية في الفصل الثاني ، لكن يؤخذ على الدارسة أنها لم تفصّل في مناهج تحليل الخطاب عموما، والخطاب  الحجاجي خصوصا، وهي كالآتي :

1 – التحليل البنيوي:

يمكننا تحليل النص الحجاجي تحليلا بنيويا، هذا المنهج الذي لا يبالي بغير النص، فالظروف والمؤثرات الخارجية، وحياة المؤلف أمور تهملها البنيوية الأدبية ،محاولة بذلك الكشف عن أدبية.

2- التحليل السيميائي:

ويمكن تحليل النص الحجاجي تحليلا سيميائيا ، وقد "ارتبط ظهور هذا العلم بمنبعين أساسيين هما: العالم اللغوي السويسري "فردينا ن دي سوسير" الذي هو الأصل في تسمية العلم بالسيميولوجيا، والفيلسوف الأمريكي "تشارلز ساندرس بيرس" الذي هو الأصل في تسميته بالسيميوطيقا.

3- التحليل وفق المنهج الذي يركز على الانزياحات اللغوية:ا(لأسلوب): هو القالب الذي تصب فيه التراكيب التي تستمد قوتها، وتميزها من التزام المتكلم بالمعايير اللغوية، واعتماده على قدرته الخاصة وفق ملكة اللسان العربي، وكون الأسلوب هو القالب هناك جملة يكون لكل شخص قالبه المعد وفقا لقوانين اللغة ،وبهذا تكون الأسلوبية علما يهتم بدراسة الخصائص التي تخرج الخطاب عن وظيفته الإخبارية البلاغية إلى وظيفته التأثيرية والجمالية، فهي البحث في الوسائل اللغوية التي تجعل الخطاب الأدبي الفني  والحجاجي بأنواعه مزدوجَ الوظيفة والغاية، يؤدي ما يؤديه الكلام عادة من وظيفة تواصلية ...ويؤدي وظيفة جديدة يسلط - من خلالها- على المتقبل تأثيرا ضاغطا ، ينفعل به للرسالة المبلغة انفعالا ما كل هذا لم تذكره الدارسة علما أن له أهمية بالغة في الفقرة... ... وفي التركيب اللغوي للفقرة هناك  جملة من هذه الفقرة هي: “التحاوري والتفاعلي والتي " أقحمت الواو بين اسم الموصول الصفة، وموصوفه قبله...كما أقحمت مِن المدغمة بما في قولها": مما يعني " والأصح (ما يعني) وليس مما يعني ؛ فالألفاظ مرتبطة بموضع استعمالها......وفي الفصل الثاني من الدراسة بسطت الحديث عن البناء اللغوي والمنطقي في حجاج ابن القيّم ،و قسمت الفصل إلى نصوص،  أو (المباحث) في المبحث الأول  تناولت سيرة ابن القيم ومنهجه، وفي المبحث الثاني ركزت على البناء اللغوي للحجاج، وفي المبحث الثالث عرضت الآليات المنطقية في حجاج ابن القيم ، وفي المبحث الرابع درست التحليل الحجاجي لنماذج من نصوص كتاب "إعلام الموقعين" .......

و انطلاقًا من القضايا التي أثارتها في الخطاب الحجاجي عند ابن القيّم، وبالنظر إلى حجم التمثيل الأسلوبي الذي تناولته في كتابه"، فإن في كل مرحلة استدلالية يبين ذلك التعارض بين المعنى الإخباري، والمعني الحجاجي، ولكن الذي يُعتمد عليه في بناء الخطاب وتوالي الأقوال، وتسلسل الجمل هو القيمة الحجاجية التي للقول؛ فهي التي توجه الخطاب وتحدد المسار الذي ينبغي أن يسير فيه، أما الدارسة هنا لم تعمد في هذه  الدارسة إلى دراسة بعض الروابط الحجاجية في  خطاب ابن القيم، لأن شرط إمكان تحقق الحجاج هي هذه الروابط اللغوية، ولم تذكر بعض الروابط مثل:( بل و لكن و حتى وغيرها ...) ، لنعرف شيئا من جوانبها الحجاجية والتداولية، ، فالحجاج، بحسب الدارسة، نجده في معاني بعض الأدوات الاستفهامية والشرطية ووظائفها، كما في الاستعارة، وفي ظواهر لغوية عديدة ، وهذا غير كافٍ لضرورة عدم فصل بين الحجاج واللغة الطبيعية، لأن هذه الأخيرة تستبطن مؤشرات حجاجيّة تجسدها الروابط والعوامل الحجاجية التي تشغل هذه الروابط اللغوية و تتماهى مع المعنى الضمني والظاهر... ـ  حاولت دراسة أن تكون  لامّة ومنفتحة على مختلف وجهات النظر التي كتبت في الموضوع، الدراسة  لا تتعدى 147 صفحة إلا أنها أثار وجهات نظر متعددة فيما يتعلّق بالحجاج عموما ،  وحجاج الفقهاء خاصة، وحاورت أفكارا أخرى خارجية ، إنها دراسة تجمع بين التنظير والتطبيق، بل تستأثر بتجريب ذلك على الأساليب والتراكيب المتداولة في الخطاب الحجاجي،  تكونت الدراسة  من مقدمة وفصلين ، وخاتمة، ويتكون الفصل الأول من سبعة مباحث. افتتحت الدارسة في المبحث الأول من الفصل الأول بتحديدات أساسية، لنظرية الحجاج ، وأن أساس هذه النظرية، أي نظرية الحجاج اللغوية، مجهودات الفلاسفة اليونانيين، ومن بعدهم البلاغيين العرب الذين قدموا تعريفات نظرية للحجاج إلى جانب تطبيقات عملية عليه شأنهم شأن اليونانيين، ثم جاء بعدهم العلماء الأوربيون بحثوا في مفهوم الأفعال اللغوية التي اتخذت بعدا ارتقائيا مع جهود بيرلمان ، وديكرو، وسجلوا أن المراد من مفهوم الحجاج هو ما أسس على بنية الأقوال اللغوية وعلى تسلسلها واشتغالها داخل الخطاب ، يمكن اعتبار هذا الفصل المهاد النظري، والإطار العام الذي نري من خلاله الدارسة تفصل مفهوم الحجاج عن المقاصد الأرسطية والبلاغة العامة القديمة والحديثة، لكن يظل هدف الحجاج اللغوي هو الإقناع؛ أي الحصول على القبول وفق سلم حجاجي خاضع لتراتبية الحجج، وهذا ما أثارته الدارسة  في الفصل الثاني، ذلك أن السلم الحجاجي التطبيقي، وهو آلية لتقنين الحجج، وتوجيهها بحسب قوانين النفي أو القلب أو الخفض، يمكننا من تحديد قيمة القول الحجاجية، التي لا يحددها إلا هذا السلم الحجاجي، الذي يمكن عده تصريحا، أو معلما يشتمل علي بعض الروابط والعوامل الحجاجية، لأن كل هذه المحددات استنتجت من اللغة (ألفاظ، مفردات، سياق، وخطاب).وينتقل الباحث في المبحثين الثالث والرابع إلى إثارة موضوع الروابط والعوامل الحجاجية ومدى تعلق ذلك بالمبادئ الحجاجية. وحبذا لواختارت الدارسة أدوات: لكن، بل، إذاً، حتى، لا سيما، إذ، لأن، بما أن…..إلخ، كروابط،  وعوامل حجاجية،  بيد أن الفرق بين العوامل الحجاجية، والروابط الحجاجية قد تبدو بشكل جلي فيما قدمته الدارسة  من أمثلة أسلوبية مستقاة من كتاب ابن القيم(إعلام الموقّعين)  الذي أسلفنا القول فيه ، الدارسة لم تسهب في شرح أساليب البلاغة العربية ، البيان والبديع والمعاني كأدوات خطابية مؤثرة من حيث أن البلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وأن لكل مقام مقال، الجرجاني تحدث عن التشبيه كقياس، والقياس المنطقي فيه مقدمات ونتائج مرماها الإقناع والتأثير، ويفضي إلى التواصل  بين المخاطِب والمخاطَب ، وتلاقيهما في العمق عند نقطة منطقية حقيقية  متفق عليها مسلّم بها .....   

قضايا أدبيّة ودراسات نقدية

صورة الذئب النمطية في الشعر :

يحكى أن أعرابياً وجدَ جروَ ذئبٍ تائهاً، فحمله معه إلى بيته، وقرّر أن يعتني به، ودفعه إلى شاةٍ عنده كانت قد وضعت حملها حديثاً، فرضع منها وعاش بين القطيع آمناً، فلما شبّ الذئب، واشتد عوده، وطالت أنيابه، هجم على تلك الشاة ، وبقر بطنها… وعندما علم الأعرابي بذلك، هاله ما رأى

 وقال:

أكَـلْـتَ شُـوَيْهَـتـي و فـجَـعْـتَ قـلْـبي

و أنـتَ  لـشَـاتِــنَــا  وَلَــدٌ  رَبِـــيْــبُ

غُـذِيْـتَ بِـدَرِّهَـا ورُبـيْـتَ فـــيــنـَــا

فــمَــنْ أنْـبَـــاكَ أنّ أبَــــــاكَ ذِيْــــبُ

إذا كـانَ الطِّـبــاعُ طـبـــاعَ سُـــــوءٍ

فــــلا أدبٌ يُــفِـــيــــــدُ ولا أديــــبُ

هذه هي الصورة النمطية للذئب في الحكايات العربية القديمة الغدر

والشراسة ،والدهاء، والترصّد، والحذر صفاتٌ ارتبطت في أذهاننا بالذئب، هذا المخلوق الذي يجوب الصحراء وحيداً يحيطه الغموض، أمّا الحذر، فهو مضرب المثل فيه، كما يقول حميد الهلالي:

يـنـامُ بإحـدى مُقـلـتَـيــهِ و يَــتّـــقـــي

بأخـرى الأعادي ، فهو يقظانُ هاجعُ

مع مرور الزمن، دخل الذئب إلى أمثالنا الشعبية، و لكن الغريب في الأمر أن أكثر الأمثال التي وجدناها تدعو الناس للتشبه بالذئب، فأنت “إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب”… غالباً ما تحضر صورة الذئب في الأمثال الشعبية للتدليل على صراع الناس بين بعضهم بعض، أكثر من صراعهم مع الذئب نفسه، و تدعونا للحذر في تعاملنا مع بعضنا، “فمن يعش بين الذئاب، يربّي أظفاره”. أو كما قيل:

و إن لم تــكنْ ذئـباً على الأرضِ أمْــرَدا

كـثـيـرَ الأذى، بَـالَـتْ عـليكَ الـثــعَـالـبُ

ويحذّر الشاعر من ذئاب البشر:

وإذا الذئاب استنعجت لك مرة      فحذار منها أن تعود ذئابا

فالذئب أغدر ما يكون إذا بدا      متلبّسا بين النعاج إهابـــــا

صداقة الذئب:

ومع ذلك نجد بعض النصوص الشعرية القديمة التي أنصفت الذئب كما في قصيدة الشنفرى الأزدي الشهيرة. فخلفَ المفردات القديمة تكمن معاني جميلة تستحق عناء قراءة الشرح،  والغوص فيها. يُـعلن الشاعر في البداية تخلّيه عن قومه، و لجوئه إلى قوم آخرين، لا يغدرون به، و لا يحاسبونه على أصله ،أو ضعف نسبه:

أقـيـمُـوا بَـنـي أمّـي صُـدورَ مَـطِـيّــكُــمْ

فـإنّـي إلى قَــوْمٍ سِــواكُـــمْ لأمْـــيَــــلُ

و لِـي دُونَـكمْ أهْلُونَ ، سِـيْـدٌ  عَـمَـلَّـسٌ

و أرْقَـطُ زُهْـلُـولٌ وعَـرْفَــــاء  جَـيْـأَلُ

هُـمُ الأَهــلُ لا مُـسـتــودَعُ الـســرِّ ذائـعٌ

لـدَيْـهِـمْ و لا الجَـانـي بِـمَـا جَــرَّ يُـخْـذَل

فالذئب القويّ، والنمر المرقّط، والضبع العَرفاء، لا يُـفشون سرّه لأحد، ولا يُـسلِمون صاحبهم إلى عدوّه كما فعل قوم الشاعر، و يبدو أن الذئب هو الأحب إلى قلبه من بين أصدقائه الثلاثة، فأفرد له أبياتاً يصف فيها معاناة الجوع، ومواساة مجتمع الذئاب لبعضها بعضا:

غـدَا طـاوياً ، يُعـارضُ الـريـحَ هَـافِـيــاً

يَخُـوتُ بأذنابِ الـشِّـعَـابِ ، و يَعـسِــــلُ

فــلــمّــا لَـوَاهُ القـــوتُ مـن حـيـثُ أَمَّـهُ

دعـا ، فـأجـابَـتْــهُ نــظــائِــرُ نُــحَّـــــــلُ

مُـهَـلْـهَـلَـةٌ ، شِـيـبُ الـوجـوهِ ، كـأنّـهــا

قِـداحٌ بكـفَّـيْ يَاسِـرٍ ، تــتــقــلــقَـــــــــل

فضجَّ ، و ضَجّـتْ ، بالـبَـرَاحِ ، كـأنّـهـا

و إيّـاهُ ، نُــوْحٌ فـوقَ عـلـيـاءَ ، ثُـــــكَّــلُ

شكا وشَكَتْ، ثمّ ارْعَوى بَعْدُ وارْعَوَتْ

ولَلصَّبْرُ، إنْ  لم ينفعِ الـشكْـوُ، أجْـــــمَلُ

ينادي قومه فيقول لهم: أقيموا جِمالَكم تأهّباً و خذوا حذركم ، فإني سأتخذ قوماً غيركم.

السِّيْد: الذئب، و السِّيد العملّس: الذئب القوي الشديد. الأرقط: النمر لأن جلده مرقّط، والأرقط الزهلول: النمر الأملس. العرفاء: الضبع لأن لها عُرف طويل، والجيأل: من أسماء الضبع كذلك.

طاوياً: جائعاً. يعارض الريح: يجري بسرعة الريح. هافياً: أي يجري بخفة. يخوت: ينقضُّ على الصيد. بأذنابِ الشِّعاب: بين الجبال. يَعْسِلُ: يهتـز في مشيته، و هو وصفٌ شائعٌ لمشية الذئب.

لواه القوت: امتنع عنه و لم يجده. أَمَّه: قَصَدَه. نظائر: الأشباه، أي أجابته ذئابٌ أخرى تشبهه. النُّحَّلُ: الهزيلة من شدة الجوع، النحيلة.

مهلهلةٌ: خفيفة اللحم، ضعيفة. شِيبُ الوجوه: مبيضّة، كأن بها شَيب. قِداحٌ: السِّهام التي تستخدم في لعب الميسر. ياسر: لاعب الميسر، لاعب القمار. تتقلقل: تتحرّك و تضطرب.

البَراح: الأرض المتسعة الخالية. نوحٌ: جمع نائحة، المرأة التي تبكي على الميّت. علياء: الأرض المرتفعة، التلّة. ثُكَّلُ: جمع ثكلى، المرأة التي فقدت ولدها أو حبيبها.

ارْعوَى: رجعَ و عادَ. يقول: بعد أن استفرغت الذئاب شكواها، و أدركت أن لا جدوى منها، كفّت عن ذلك، واستمسكت بالصبر.

أطلس: رمادي اللون، كأنّ عليه غبرة، و هي من صفات الذئب. عَسّال: يهتز في مشيته، و هي صفة اشتهر بها الذئب. مَوهناً: في آخر الليل.

تكشّر: فتح فمه كأنه يضحك و بانت أسنانه. قائم سيفي: مقبضه.

اللبان: حليب الرضاعة، و هو اسم لحليب المرأة خاصة.

القِرى: ما يُعطى للضيف من طعام و شراب. شباة سنان: طرف الرمح الذي يطعن به.

فالذئب إذا عوى، تجيبه الذئاب من بعيد كأنها نساءٌ ثكالى تنوح على فقيدها ، أو تواسي بعضها بعضا. ثم بعد الشكوى، والضجيج، تعود، ولم تجد أفضل من الصبر الجميل على الجوع، وقساوة الصحراء.

و بينما تُـظهر الأبيات التعاطف مع الذئب، يبدو لنا أن الشاعر إنما يصف نفسه، و يتعاطف مع حال الصعلكة التي يعيشها هو، متمثلةً في الذئب. و كذلك تبرز علاقة الشاعر بالطبيعة الصحراوية التي اختارها لتكون موطناً له....

عندما زارني الذئب

وفي نصٍ شعري آخر للفرزدق يحضر الذئب أكثر تميزاً هذه المرّة… كان الفرزدق مسافراً مع بعض رفاقه، و في الطريق قرروا التوقف للمبيت،

 ولكن النوم جفا الشاعر تلك الليلة، فقرر أن يعدّ الطعام لرفاقه يوم غد، فأشعل النار، وذبح الشاة. و بينما هو كذلك، إذ اقترب منه ذئبٌ أطْـلَس عَسّال (أي: رمادي اللون، يهتز في مشيته)… و بعد أن التقت نظراتهما و بشيء من الحذر، والترقب، قطع قطعة من الشاة، ورماها له، فاقترب الذئب شيئاً فشيئاً حتى تناولها، وهرب بها. وبعد أن استيقظ القوم، أخبرهم الفرزدق بما جرى في ليلة البارحة؛ ولأنّ مثل هذا الموقف لا يمر على الشاعر مرور الكرام، فقد نظم أبياتاً:

و أطْـلَـسَ عَـسّالٍ ، و ما كانَ صَاحـباً

دَعــوتُ بـنـاري مَـوْهِــنَـاً فـأتــــــانـي

فـلّـمـا دنا ، قـلـتُ : ادْنُ دونَـكَ ، إنني

و إيّـاكَ فـي زادي لـمــشـــتَـــرِكَــانِ

فـبِـتُّ أُسَـوِّي الـزادَ بـيـنـي و بـيـنَـهُ ،

عـلـى ضـوءِ نـارٍ ، مَــرّةً ، و دُخـانِ

فـقـلــتُ لَـهُ لـمّـا تـكـشّــرَ ضـاحـكـاً..

و قـائِـمُ سـيـفـي من يدي بـمـكـــــانِ

تـعَـشَّ ، فـإنْ واثـقْـتَـنـي لا تـخـونُـنـي

    نَكُـنْ مثـلَ مـنْ يا ذئـبُ يـصطـحِـبانِ

و أنتَ امرُؤٌ، يا ذئبُ، و الغدرُ، كنتُما

أُخَـيَّـيْـنِ ، كـانـا أُرْضِـعــا بـلَــبَــــان

و لـو غـيـرَنا نَـبَّهْـتَ تـلـتـمـسُ القِـرى

أتــاكَ بـسـهـــمٍ أو شــبـاةِ سِــنَـــــانِ

و كـلُّ رفـيـقـيّ كُـلِّ رَحْـلٍ -وإنْ هُـما

تـعاطى الـقـنا قـوْماهُـمـا- أخـوانِ

يخاطب الشاعر الذئب خطاباً مباشراً، فيقول له: اقترب و شاركني في زادي ولكن إيّاك أن تغدر بي، فأنت، والغدر أخوان قد رضعتما من ثدي واحد. أمّا الذئب فقد كانت إجابته على شكل تكشيرة عريضة يستعرض فيها أنيابه، كأنه يقول: لا تغدر بي أنت، فأنا لدي أسلحتي أيضاً، كما لديك سلاحك.

تمكن الشاعر من تجسيد المشهد بدقة، واستخدم مفردات، وتعابير تجعل القارئ يتخيّل الصورة في ذهنه بكل وضوح كأنه مشهد سينمائي. فأنت عندما تقرأ هذه الأبيات تبدأ بتخيّل الذئب، وهو يقترب من بعيد في ظلام الليل، ثم ترى الدخان يتصاعد بينك وبينه، وهنا تبدأ حالة الحذر، والترقّب بين الطرفين. ويضيف الخطاب المباشر كثيرا من الدراما إلى المشهد،

وخلاصته أن الشاعر يقول: سأكرمك، ولكن لا تغدر بي، فنحن أخوان في السفر، حتى لو تحارب أهلنا…

وبعد هذه الأبيات الوجدانية، وحالة التواصل العفوية بين الشاعر، والذئب، لا يفوت الفرزدق أن يستغل هذا الموقف بذكاء ليمدح قومه كعادته، فهم أهل المكرمات و الفروسية… كأنّ كل هذه المقدّمة كانت من أجل هذين البيتين:

و إنّـا لَـتَـرعـى الـوحـشُ آمـنــةً بِـنــا

و يَـرْهَـبـُـنــا أنْ نـغـضــبَ الـثـقــلانِ

فَـضَـلْـنَـا بـثِـنْـتَـيْـنِ المَـعـاشِـرَ كُـلَّـهُـمْ

بـأعْـظَــمِ أحـلامٍ لـنــا و جِــفـــانِ

الذئب، والحداثة

    أمّا في عصرنا الحاضر فقد أصبح الذئب شبه منقرضٍ، لذلك يظهر في النصوص الشعرية الحديثة بشكل رمزي يوظفه الشاعر لإيصال فكرته. في قصيدة بعنوان “امضِ يا ذئب” لعبد القادر الحصني، لا ينشغل الشاعر بوصف شكل الذئب، و لونه ومشيته، فهو على الأرجح لم يقابل ذئباً في حياته قط، بل يركز على صفات أخرى مشتركة بينه و بين الذئب:

عِمْتَ ليلاً أيها الطارقُ في هذا الظلامْ

شدّك الجوع إلى ناري

فضيفيَ أنتْ

لا تيأس من الزادْ

و لا تبدِ انكساراً…

هاكَ من زادي

ازدردْ ما شئتَ

و اشربْ من قراح الماءْ

مثلي لا يُرَجِّي النطقَ من مثلك… عيناك كلامْ…

أسلوب المخاطبة المباشرة يتكرر هنا كما في النص السابق. و الذئب كذلك لا ينطق، بل ينطق بعينيه كما كشرّ ذئب الفرزدق ضاحكاً…

حدّثني صديقاً لصديقْ

كيف أهوالٌ على رأسك مرّتْ

كيف هذا الواسع الشاسع من منبسط الرمل يضيقْ

هل تصدّق أنه يؤلمني جوع الضواري…

من شِيَم الصحراء أن لا يغدر الصعلوك بالصعلوكْ

من يأخذ بعدي تحت جنح الليل زاداً لصغاري

امضِ يا ذئبُ إلى مسعاكْ

امض يا ذئبُ سيطويني ويطويكَ إذا حلّ نهارُ الناس غيبْ

وتذكر وجه صعلوكٍ تمنى هذه الليلةَ

لو تحملُ منه امرأةٌ طفلاً

يسميه ذؤيبْ    امض يا ذئبُ…امضِ

  يستلهم الشاعر حالة الصعلكة كما كانت حاضرة لدى الشنفريىمنذ ألف

وأربعمائة عام. ويُظهِر التعاطف مع الذئب، بل يتعدى ذلك إلى مرحلة أخرى، فيعتبر نفسه صديقاً له تجمعهما حالة الصعلكة و السفر في ليل الصحراء. والأهم من ذلك، كلاهما سيطويهما إذا حلّ نهارُ الناس غيب… لعل خلاصة القصيدة تكمن في هذه الجملة التي لن نحاول أن نشرحها، بل نتركها لخيال القارئ ليفهم منها ما يشاء، فهكذا أرادها الشاعر: (امضِ يا ذئبُ سيطويني و يطويك إذا حل نهار الناس غيب).!  و مرةً ثانية يبدو لنا أن الشاعر في خطابه للذئب، إنما هو يخاطب نفسه و يحاور الصعلوك الكامن في داخله.   و في حالةٍ أخرى، يقتبس محمود درويش صورة الذئب من القصص القرآني، و بطريقة تحطّم الصورة النمطية للذئب. فالذئب الآن مظلوم و ليس ظالماً كما اعتدنا، بل هو ضحية الغدر و المكر البشري. ويجيد الشاعر توظيفه لإيصال فكرته:

أنا يوسفُ يا أبي

يا أبي إخوَتي لا يحبّونني

لا يريدونني بينهم يا أبي…

أنت سمّيتني يوسفاً

و هم أوقعوني في الجُبِّ، واتهموا الذئبَ

و الذئبُ أرحمُ من إخوتي

بل الذئب في هذه الأيام أرحم من غالبية البشر، وليس من إخوة يوسف فقط................

(مستشارك اللغوي(أخطاءوتصويبات

1- يَقُولُونَ: (قَرفَ مِنْهُ) وَالصَّوَابُ: (اشْمَأزَّ مِنْهُ أوْ تقزَّزَتْ نَفسُهُ منه) والسَّبَب؛ لأنَّ مَعنَى (قَرِفَ فُلانًا المرَضُ) أي: يَقرِفُهُ قَرفًا،انتشر في جسمه وتلبسه، وَفِي الحَديثِ: وَقد سُئِلَ عنْ أرضٍ وبيئةٍ فقال: تَحَوَّلُوا فإنّ فِي القَرَفِ التَّلَفَ.

2- يَقُولُونَ: (لا نُحِبُّ رَائحَةَ القَرْنبيطِ المطبُوخ) وَالصَّوَابُ: (لا نُحِبُّ رَائحَةَ القُنَّبِيط المطبُوخ) وَالسَّبَبُ؛ لأنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ مِنْ أصلٍ يُونَاني.

3- يَقُولُونَ: (عَلَى الطَّبَقَة الرَّقيقَة التِي تُوجَدُ فَوقَ الحَليب قِشْطَة، وَالصَّوَابُ: (قشْدَة) والسَّبَب؛ لأنَّ (القشطَةَ) شَجَرٌ مَعرُوفٌ فِي الدّوَل العَرَبيَّة، وَيُسمُّونَهُ السَّفَرجَل الهندِي أيضًا.

4- يَقُولُونَ: (اقتَصَدَ فُلانٌ عَشرَ جُنَيهَاتٍ) وَالصَّوَابُ: (وَفَّرَ عَشرَ جُنَيهَاتٍ؛ لأنَّ (الاقتصَادَ) يَكُونُ فِي النَّفَقَاتِ، فَإذَا قُلنَا: اقتصَدَ فِي المعيشَة، فَإنَّنَا نَعنِي أنَّهُ لَمْ يَتَجَاوَز الحدَّ فِي الإسرَافِ أو التَّقْتِير.

5- يَقُولُونَ: (قُصَارَى الجهْد) وَالصَّوَابُ: (خُلاصَة القَول أو صَفْوَته) والسَّبَب؛ لأنَّ قُصَارَى مَعنَاهَا: الجهدُ والغَايَةُ.

6- يَقُولُونَ: (القِطَارَات السَّريعَة مُتَمَيِّزَة، وَالصَّوَابُ: (القُطُرُ السَّريعَةُ مُتَمَيِّزةُ) والسَّبَب؛ لأنَّ جَمعَ القِطَار (قُطُر) وَلَمْ تُسمَعْ لَفظَة (القِطَارَات) كَقَوْلِكَ: حِمَار حُمُر، وَإِطَار أُطُر، أتَى ذَلِكَ فِي المعجَم الوَجيز.

7- يَقُولُونَ: (تَقَرَّرَ قَفلُ بَابَ المدرَسَة بَعدَ الظُّهر) وَالصَّوَابُ: (تَقَرَّرَ إقفَالُ بَابَ المدرَسَة...) والسَّبَب؛ لأنَّ (القفلَ) مَعنَاهُ: يَابِسُ الشَّجَرَة ،وَالقُفُول) مَعنَاهُ: الرُّجُوع, وَهَذَا المعنَى لَيسَ مقصُودًا فِي العبَارَة، أمَّا الفعلُ (أقفَلَ) مَصدَرُهُ (إقفَال) عَلَى وَزن إفعَال، وهَذَا هُو الاسمُ المنَاسبُ فِي العبَارَةِ المذكُورَةِ.

8- يَقُولُونَ: (هَرَبَ المجرِمُ بَينَمَا كَانَ مُقَادًا إلَى السِّجن) وَالصَّوَابُ: (بَينَمَا كَانَ مَقُودًا إلَى السِّجن) والسَّبَب؛ لأنَّ الفعلَ (قَادَ) ثُلاثِيٌّ واسم المفعُول منهُ مَقُود) أمَّا (يُقَادُ) فَهُوَ مِنَ الفعل الرُّبَاعِيِّ (أَقَادَ)

9- إن أفعال اللغة العربية لا تحتوي علامة للتذكير، بل إنها تحتوي  علامات للتأنيث، وهي “تاء التأنيث” و”نون النسوة” و”يا المخاطبة المؤنثة”،

 10- يَقُولُونَ: (فُلانٌ هُوَ القيِّمُ عَلَى الأيتَام وَالمتَصَرِّفُ فِي أموَالِهِم، وَالصَّوَابُ: (هُوَ الوَصِيُّ عَلَى الأيتَام) والسَّبَب؛ لأنَّ (الوَصِيَّ يَحِقُّ لَهُ أنْ يَحفظَ مَالَ الرَّجُل لأولادِهِ، ويَتَصرَّف فيه عَلَى وَجهٍ نَافعٍ، بَينَمَا (القيِّم) يُفَوَّضُ إليهِ حِفظُ ذَلكَ المال دُونَ التَّصَرُّف فيه.

11- يَقُولُونَ: (عقدُ اللُّؤلؤ قَيِّمٌ) وَالصَّوَابُ: (نَفيسٌ أوْ ذُو قيمَةٍ عَاليَة أوْ غَالي القيمَة) والسَّبَب؛ لأنَّ (القَيِّمَ) فِي اللُّغَة هُوَ المستَقيمُ، ومنهُ قَولهُ تَعَالَى: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة] وأيضًا قَوله تَعَالَى: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (يوسف)

12- يَقُولُونَ: (الكَتِفُ الأيسَرُ) وَالصَّوَابُ: الكَتِفُ اليُسرَى) والسَّبَب؛ لأنَّ (الكَتفَ) مُؤنَّثةٌ، وَجَمعُها (كِتَفَة وأَكْتَاف وكُتُوف).

13- يَقُولُونَ: (كَرَّسَ نفسَهُ لخدمَة النَّاس، وَالصَّوَابُ: (وَقَفَ نَفسَهُ لخدمَة النَّاس) والسَّبَب؛ لأنَّ (كرَّسَ) كَلمَةٌ دَخيلةٌ عَلَى العَرَبيَّة، وَهِيَ يُوناَنيَّة.

14- يَقُولُونَ: (هَذَا أسَدٌ كَاسرٌ) وَالصَّوَابُ: ( هَذَا أسَدٌ ضَارٍ أوْ مُفْتَرِسٌ) والسَّبَب؛ لأنَّ الكَاسِرَ هُوَ الطَّائرُ الذي يَكسرُ جَنَاحَيهِ وَيضُمُّهُمَا إذَا أَرَادَ الهبُوطَ (كَالعُقَاب)

15- يَقُولُونَ: (إنَّ جَمْعَ كَفيف: أكْفِيَاء وَمَكَافيف) وَالصَّوَابُ: (أكِّفَّاء) لأنَّهُ جَمعٌ لِصِفَةٍ عَلَى وَزن (فَعيل) مثل (عَزيز-أعِزَّاء) أمَّا جَمعُ كُفء (أكْفَاء أوكِفَاء)

16- يَقُولُونَ: كلَّفْتُكَ بِالعَمَل، وَالصَّوَابُ: (كلَّفْتُكَ العَمَلَ) والسَّبَب؛ لأنَّ الفعلَ كَلَّفَ يَنصبُ مَفعُولَيْنِ، وَلَكنْ أَكثَر النَّاس يَزيدُونَ بَاءً عَلَى مَفعُولِهِ الثَّانِي، وَهُوَ خَطَأٌ شَائعٌ قَالَ الله تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة).

17- يَقُولُونَ: (هِمَّةٌ لا تَعرِف الكَلَلَ) وَالصَّوَابُ: (لا تَعْرِف الكلَة والكَلالَ والكَلالَة، والسَّبَب؛ لأنَّ (الكَلَل) مَعنَاهَا الحَالَة، أمَّا (الكَلُّ) فَهُوَ التَّعبُ والإعيَاءُ.

18- يَقُولُونَ: (فُلانٌ ذُو كِلْيَة مَريضَةٍ) وَالصَّوَابُ: )فُلانٌ ذُو كُلْيَة أوْ كُلْوَةٍ مَريضَة) والسَّبَب؛ لأنَّ الكِلْيَة لَمْ تَرِدْ فِي مَعَاجِمِنَا العَرَبيَّة، وَمُثَنَّى كُلْوَة وكُلْيَة كُلوَتَان وكُلْيتَان، ويُنسَبُ لَهُمَا فَنَقُول: مَغَصٌ كُلَوىٌّ، والكُلْيَة عُضوٌ فِي الإنسَانِ، يُنَقِّى الدَّمَ ويُفرِزُ البَولَ.

19- يَقُولُونَ: (إنَّ الاثنَيْنِ مُتَصَارِمَانِ فَأصبَحَا يَتَكلَّمَانِ) وَالصَّوَابُ: (فَأصبَحَا يَتَكَالمَاَنِ، والسَّبَب؛ لأنَّ الأفعالَ التِي تَأتِي عَلَى وَزن (تَفَاعَلَ) تَكُونُ للمُشَارَكَة بَينَ اثنَيْنِ، كَقَولنَا: (تَسَابَقَ العَدَّاءَانِ).

20- يَقُولُونَ: (إنَّ جَمْعَ كَمِين: كَمَائن) وَالصَّوَابُ: (كُمَنَاء) فَالكَمِين: هَمُ القَومُ يَكْمُنُون فِي الحَرب حِيلَةً؛ بِحَيث ُلا يُفْطَنُ لَهَا.

21- يَقُولُونَ: (أُصيبَ فُلانٌ بالكُوليرَا) وَالصَّوَابُ: (أُصيبَ فُلانٌ بِالـهَيْضَة) وَهِيَ الإسهَالُ الشَّديدُ وَالقِيَاءُ، أمَّا (الكُوليرَا) فَهِي َغَيرُ عَرَبيَّة.

22- يَقُولُونَ: (لا زَالَ الشَّبَابُ يُسهِمُ فِي خِدمَة البِيئَةِ) وَالصَّوَابُ: (مَازَالَ الشَّبَابُ يُسهِمُ فِي خدمَة البِيئَة، والسَّبَب؛ لأنَّ (لا) لاتَدخُل عَلَى الفعل المَاضِي إلا مَعَ التِّكرَار والعَطف عَلَى مَنفِيٍّ، نَحو قَولِهِ تَعَالَى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} (القيامة)أوْ (لا زُرتُ زَيدًا وَلا زَارَنِي) وَبِغَير ذلكَ يَنقلِبُ زَمَانُ الفعل إلَى الاستقبَال، وَهُوَ خَطَأٌ، وَكَذَلكَ إذَا نُفِي الوَصفُ بِهَا نَحو: {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ}(البقرة)

23- يَقُولُونَ: (التَهَبتْ لِثَةُ أسْنَانِه) وَالصَّوَابُ: (التَهَبَتْ لِثَتُهُ) والسَّبَب؛ لأَنَّ اللِّثَةَ هي مَا حَوْلَ الأسنَانِ مِنَ اللَّحْمِ، وَجَمْعُهَا (لِثَاث ولُثِىّ ولِثُونْ)

24- يَقُولُونَ: (فُلانٌ ألدَغُ) وَالصَّوَابُ: (فُلانٌ ألثَغُ) والسَّبَب؛ لأنَّ (فُلانٌ يلثَغُ لَثغًا) أي: تَحَوَّلَ لسَانُهُ مِنْ حَرفٍ إلَى آخَر، كَأنْ يَجعَلُ السِّينَ ثَاءً والرَّاءَ غينًا.

غينًا.

25-لا تقل: في تصريح له، قال وزير الدفاع الأمريكي ...

بل قل: قال وزير الدفاع الأمريكي في تصريح له عن ...

الخطأ في تأخير الفاعل وتقديم ضميره عليه ..

26-من الشائع أن يقال: " ذهب أحمد إلى المكتبة واشترى كتبًا، أقلامًا، وصورًا"!

ويفضل أن يقال: " ذهب أحمد إلى المكتبة واشترى كتبًا وأقلامًا وصورًا"

27-من الشائع أن يقال: دُونت الملاحظات مِن قِبَلْ اللجنة

ويفضل أن يقال: دونت اللجنة الملاحظات

 فهي ترجمة خاطئة لـ (By). ليس في استعمال " مِن قِبَلْ " أي ضرورة في هذا السياق.

28-من الشائع أن يقال: يجب أن نتأكّد من حدوث كذا

ويفضل أن يقال: يجب أن نتحقق حدوث كذا، أو نتيقَّن أو نستَيْقِنَ حدوثَ كذا، أو نَتَوثَّق من كذا أو نستوثق منه؛ لأن: أكَّد الشيءَ تأكيدًا فهو مؤكَّد. فكان الأصح قولنا: يجب أن يتأكَّد لنا حدوث كذا، أو يجب أن نتحقق حدوث كذا، أو نتيقَّن أو نستَيْقِنَ حدوثَ كذا، أو نَتَوثَّق من كذا أو نستوثق منه ...

 29-من الشائع أن يقال: فَعَل ذلك مُسْبقاً

ويفضل أن يقال: فعل ذلك مُقدَّماً وَسَلَفاً وقبلاً.لأن «أسبَقَ» فِعلٌ لازم لا يتعدى بنفسه وإنما بالحرف!

30-من الشائع أن يقال: تعرّف على كذا! متعارف عليها!!

ويفضل أن يقال: تعرَّف إلى كذا، وعادات متعارفة ..

31-من الشائع أن يقال: أحسنَ إليك زيد بينما أنت أسأت إليه.

ويفضل أن يقال: أحسنَ إليك زيد، على حين/ في حين أسأت أنت إليه.

لأن (بينما) لها الصدارة في الجملة.

32-من الشائع أن يقال: أنت بمثابة أبي. هذه الأداة بمثابة حاسوب. سنعد عدم إجابتكم بمثابة موافقةٍ...ويفضل أن يقال: أنت بمنزلة أبي. هذه الأداة تقوم مقام حاسوب. سنعد عدم إجابتكم موافقةً...لأن من معاني المثابة: البيت

 والملجأ والجزاء..

33- يقولُ الكثيرونَ:"إنّ أقساطَ التعليمِ في هذهِ الجامعة مكلفةٌ، ناهيكَ عن أسعارِ الكتبِ الباهظةِ".

وفي قولِهِم هذا خطأٌ، إذ إنّ الأجدرَ بهم أن يقولوا:"إنّ أقساطَ التعليم في هذه الجامعة مكلفة، فضلاً عن أسعار الكتب الباهظة". أو "زد على ذلك أسعار الكتب الباهظة".

إذ إنّ الكلمةَ "ناهيك" لا تُتبَع بحرفِ الجرِّ "عن" في اللغةِ، كما أنّ معناها لا يعني  "فضلاً عن". بل إنّ معناها "حسبُكَ، أو يكفي" .. فنقولُ:"هذا رجلٌ ناهيك من رجلٍ"، أي هذا رجلٌ - بقدراتِهِ- يكفيك من رجالٍ غيرَه. ومثله نقولُ:"هذه امرأة ناهيتُك من امرأة"!

ويُقال أيضًا:"ناهيكَ بأخيكَ حكيمًا" .. أي اكتفِ بهِ حكيمًا، فهو حسبُكَ ويكفيك من غيرِهِ، وهذا أسلوبٌ للمدحِ.

للإيجاز:

 "ناهيك عن" لا تعني "فضلاً عن"

لا يوجد أصلاً تركيبُ "ناهيك عن" في اللُّغةِ العربيَّةِ.

الصواب: "ناهيك من" و"ناهيك بـ" ويعنيان "حسبُكَ، ويكفيكَ"

34-النَّعْيُ هو خبر الموت، من الفعل نَعَى، ينْعَى، وأصله: نَعَيَ.

جاء في مقاييس اللغة: النون والعين والحرف المعتلّ: أصلٌ

صحيح يدلُّ على إشاعةِ شيء.

ومن أخطاء استعمال هذه الكلمة أن يقال: قدِّم نعياً لفلان( إذا

كنت أقصد به أقارب المتوفى الأحياء، لأن النعي هو خبر الموت، فإن

قلنا :نعي فلان( فهذا يعني خبر وفاته، ولا يجوز أن تقال لشخص

حي).

وإن قلنا: أقدم نعيا لفلان لوفاة شقيقه، فالاستعمال هنا أيضا

خطأ لأنني لا أريد أن أعلمه بخبر وفاة شقيقه، وإنما أريد أن أواسيه

وأخفف عنه، أما ما نتقدم به لأهل المتوفى فهو المواساة أو العزاء، من الفعل:

عزّى فلانا يعزّيه تعزية، أي سلّاه وصبه، وواساه.

فنقول: أقدم العزاء لفلان لوفاة شقيقه.

والشخص الذي تُوفي هو: المنعيّ، وأما الذي يعلن الخبر فهو

الناعي، وتستعمل )نَعَى( أيضاً للدلالة على معنى أنه يعيب على الناس

صفةً فيهم أو فعلاً يرتكبونه، مثل: )فلان نعى على فلان ضعفه وتهاونه

في معالي الأمور(، والمقصود أنه عاب عليه ذلك ووبخه، وشهّر به.

35- (الفاصلة  ومابعدها من أرقام): ليست قيمة عددية، وإنما علامة للدلالة على أن ما بعدها من يمين القارئ أجزاء من العشرة من الواحد أو من المائة أو من الألف بحسب عدد الأرقام، فالصحيح في الأعداد أن تعطف، فتقول: بلغت الحرارة ثلاثين درجة ونصف الدرجة، أو ثلاثين درجة وعشر الدرجة، أو ثلاثين درجة وخمسة أجزاء من مائة جزء من الدرجة (30.05)

سأبين لك كيف تقرأ في الفصيح:

0,031"- يقرأ: واحد وثلاثون جزءا من ألف جزء من الواحد، واختصارا: واحد وثلاثون من ألف..

35,13 يقرأ: خمسة وثلاثون وثلاثة عشرجزءا من مائة جزء من الواحد، أو اختصارا: خمسة وثلاثون وثلاثة عشرمن مائة.

82,26 - تقرأ: اثنان وثمانون وستة وعشرون جزءا من مائة جزء من الواحد، تحت الصفر، أو سلبا. واختصارا: اثنان وثمانون وستة وعشرون من مائة سلبا. (إن اصطلحنا على أن السلب يعني مادون الصفر والإيجاب ما فوق الصفر)

36- يقولون: (الإعدادية المِهَنيّة) و(العمل المِهَنيّ)، والصحيح : (الإعداديّة المِهْنِيّة) و(العمل المِهْنِيّ)؛ لأنَّها نسبةٌ إلى المِهْنة بسكون الهاء، فلا داعي لفتحها في الاسم المنسوب.

وقد يقول قائلٌ : إنّها نسبةٌ إلى المِهَن جمع مِهْنة، وأقول: إذا أردنا النسبةَ إلى الجمع وجبَ إرجاعُه إلى المفرد ثمّ النسبة إليه.

37- يقولون : (الأعمال الخَدَميّة) و(المؤسّسات الخَدَميّة) و(الوزارات الخَدَميّة)، كلّ ذلك بفتح الخاء والدال، والصحيح: (الخِدْميّة) بكسر الخاء وسكون الدال في جميع ما سبق؛ لأنّها نسبةٌ إلى الخِدْمة، وهي مكسورةُ الخاء ساكنةُ الدال.

38- يقولون : (حَلَوِيّات) بفتح الحاء واللام وكسر الواو وتضعيف الياء، والصحيحُ : (حَلْوَيات) بفتح الحاء والواو وسكون اللام وتخفيف الياء؛ لأنّها نسبةٌ إلى الحلوى، وهو اسم مقصورٌ ألفُه رابعة، وعند جمعه تُقلَبُ ألفُه ياءً، ثم يُزاد عليه الألفُ والتاء، فيصير (حَلْوَيَات)، أمّا حَلَوِيّات فكأنّها جمعٌ لـ(حلويَّة) إن وُجِدَتْ.

شاطىء الإبداع

...!أجراس العودة

أركان الشعر بين الشعور، والمنطق

يقول عماد الدين طه:" أهوى الشعر الموزون، وملعبي القصيدة العمودية. فالشعر الحديث ليــس بالشكل، بل بالمعنى، أعتمد البحور الشعرية لكن طرح المواضيع هو طرح حديث، القالب الشعري لزجاجة العطر (متفاعلن، متفاعلن،  متفاعلن) والمادة المقدَّمة هو العطر! بمعنى آخر أن للشعر شكلاً جمالياً ووظيفياً، الشعر: هو شعور، ورسالة موزونة، وقافية، ومنطق، وكل هذه الأركان في شعري، وأي نقص يودي إلى الفراغ".

 للترتيب اللغوي في الشطورأهمية كبيرة لناحية تناسق الكلمات، فالشطر الثاني له دور وظيفي للشطر الأول، إمّا شرح له أو تكملة، وليس فقط لخدمة القافية والوزن، فالأهم هو المعنى،  وفي بعض الأحيان يتوقّع الكلمة على الوزن،  وفي الأحيان الأخرى يتفاجأ القارئ بالقفلة.له قصيدة غناها لطفي بوشناق:

أجراسُ العودةِ إنْ قُرِعَتْ .. أو لمْ تُقْرَعْ فلِمَ العجلةْ؟

لو جئنا نقرعها حالا ..       كانتْ "دُمْ تكُ" كالطبلةْ

فالعُرْبُ بأخطرِ مرحلةٍ ..      وجميع حروفِهمُ عِلّةْ

أغرتهم كثرتهمْ لكنْ ..          وبرغمِ جموعِهُمُ قِلَّةْ

وبوادي النّملِ إذا عَبَروا  سَتموتُ مِنَ الضحكِ النّملةْ

فسليمانُ العصرِ الحالي .   . مشغولٌ في مَلءِ السلّةْ

وحديثٌ عن حربٍ كُبرى ..     أو صفقةُ قرنٍ مُخْتَلّةْ

مِسْمارُ الحائِطِ مِلكُ جُحا .. سِمسارُ الحيِّ، وفي غفلةْ

سينادي"أونَ ألا دُوِّيهْ" .. بازارُ الأرضِ المُحْتَلَّةْ

ويعودُ لِيُكمِلَ سهرتهُ .. في نادي أشراف الدّولةْ

وله قصيدة أخرى معبّرة:

أمضيتُ عُمرِيَ في تفنيدِ أحوالِ         حالٌ رصينٌ و حالٌ محضُ سِريالي

وَ رُحْتُ أرفعُ مِن عقلي قواعِدَهُ              حتى تشعْشَعَ إبراهيمُ في البالِ

بدأتُ مِني لأنّي رأسُ أكْبَرِهِمْ                لا تسألوهم , أنا حطَّمْتُ تِمثالي

بعضُ التَّماثيلِ لنْ تلقَوا لها جسداً        و لا خُواراً , و لمْ تُعجَنْ بصَلْصَالِ

فَكَمْ سَجَدْتُ لأصنامٍ على ورقٍ                  قدْ ألّفوها بعهدِ القيلِ، والقالِ

و كمْ دفعْنا فواتيراً مُزَوّرةً                هُمْ أصْدروها بإِسمِ الصَّحْبِ و الآلِ

إذْ قالتِ النّاسُ : إرْثٌ عنْ أكابِرِنا         بِئسَ التُراثُ و بئسَ الوارثُ التّالي

اليومَ أسْلَخُ عنْ شِعْرِي أناقَتَهُ                        اليومَ أخْلَعُ عنّي كُلَّ أقفالي

والآنَ أنْزَعْ عن ثَغْري لُصَاقَتَهُ                   عَلِّي أُخَفِّفُ بعد البَوحِ أثقالِي

لو جاءَ دَجّالُكُمْ لارْتَدَّ عَنْ دَجَلٍ                   لَمْ تترُكُوا بينَكُمْ شُغْلاً لِدَجّالِ

الدِّينُ ليسَ بَخُوراً قابَ شَعْوَذَةٍ                      الدِّينُ يبدأُ مِنْ ميزانِ بَقَّالِ

عَجِبْتُ كيفَ يُبَادُ العقْلُ في سَفَهٍ          ويُشْهَرُ الحِرصُ كُلُّ الحِرصِ لِلْمالِ

عَلِّي أُخاطِبُ جيلاً قبلَ أَدْلَجَةٍ                      إِلامَ تُضْلَلُ أجيالٌ بأجيالِ ؟

أَدِينُ لِلْحُبِّ لِلتوحيدِ في سَعَةٍ                أدري .. يُكَفَّرُ أهْلُ العِشقِ أمثالي"

أبواب المجلة

Scroll to Top